قضايا وآراء

دولة المخابرات العربية

1300x600

تشكّل أجهزة المخابرات في العالم العربي إحدى أهم آليات الاستبداد وإعادة إنتاجه، من خلال اختراقها للدولة والمجتمع، ومحاولة إخضاعهما بشكل كامل، عبر التحكم بمختلف المجالات والقطاعات، وتعويم ما تراه مناسبا، والقضاء على كل ما تعتقد أنه يشكل خطراً محتملاً على سلطتها.

في العالم العربي، أو في الجزء الأكبر منه، ليست هناك دولة لشعبها، بل أجهزة مخابرات تصحو باكراً، تنشر عناصرها على الطرقات وفي الورش والإدارات، ثم تطلق صفارتها؛ معلنة بدء نهار جديد في الحياة، وتراقب كل العابرين وتدبج التقارير، وتستدعي كل شخص تذكر تقاريرها أنه بصحة جيدة، ربما لتسأله من أين لك هذا.

 

ليست هناك دولة لشعبها، بل أجهزة مخابرات تصحو باكراً، تنشر عناصرها على الطرقات وفي الورش والإدارات


لا تتبع المخابرات العربية شعار "عش ودع غيرك يعيش"، فلا تكتفي بالسلطة، بل تسعى إلى تشكيل كل شيء وفق مسطرتها. وإذا غابت يوما واحدا عن الأحداث، واعتقدت أن قطاعا اجتماعيا قد تغيّر أو تطوّر، أو حصل فيه حراك لا تملك بيانات عنه. فالأفضل البحث عن سبب لنسف هذا القطاع، وإعادة بنائه تحت نظرها واشرافها.

ولعل أهم عمل تقوم به أجهزة المخابرات هو التنظيف الدوري لمراكز السلطة، وهو عمل روتيني تزيح من خلاله الأجهزة الأشخاص الذين تعتقد أنهم تمددوا زيادة عن اللزوم في مناصبهم، وبالتحديد أولئك الذين لهم كاريزما ومقبولة وجرأة على نسج العلاقات، وليس لهم ملفات "وسخة" لدى أجهزة المخابرات، فهؤلاء خطر كامن قد يتفعّل في أي لحظة.

 

أهم عمل تقوم به أجهزة المخابرات هو التنظيف الدوري لمراكز السلطة، وهو عمل روتيني تزيح من خلاله الأجهزة الأشخاص الذين تعتقد أنهم تمددوا


وفي الغالب، تستهدف المخابرات العربية النخب، فهي العدو الأول لأنها ركيزة أي تغيير. إذ ليس مهما ما يحتويه الدستور وما تنص عليه القوانين، المهم ألا توجد نخبة تطالب بتفعيل ذلك، وتشرح للجمهور حقيقة الأوضاع وموقفه القانوني ووضعه الحقوقي. وبالنسبة للمخابرات العربية، فمن غير المسموح للمجتمع أن ينتج نخبه، على كل المستويات، السياسية والثقافية والاقتصادية، وحتى الدينية، بل يجب أن تكون صناعة مخابراتية صرفة حتى يمكن مسكها من رقبتها.

تتحكم أجهزة المخابرات بكل حركة وشاردة وواردة، بتوزيع الموارد والوظائف والإسكانات العامة؛ في الانتخابات على جميع مستوياتها. وحتى الرؤساء الذين صنعوا أجهزة المخابرات في بلدانهم لتدعيم سلطاتهم، وتكريس سيطرتهم على المجتمعات التي يحكمونها؛ انتهى بهم الأمر أن أصبحوا محكومين لتلك الأجهزة، مثل عبد الناصر وحافظ الأسد. وقد كشف الرئيس المصري السابق أنور السادات، في بيان يوم 14 أيار/ مايو 1974، أن أجهزة المخابرات وضعت أجهزة تجسس عليه في بيته الكائن في الجيزة. وكان قد كشف سنة 1971 أن أجهزة المخابرات تحتفظ بتسجيلات ستؤدي إلى خراب آلاف البيوت، وهي عبارة عن عمليات تنصت على مكالمات هاتفية، معتبراً أن "هذا الأسلوب خطير جداً" (ياسر ثابت: كتاب صناعة الطاغية.. سقوط النخب وبذور الاستبداد).

 

تلك الأجهزة فقط هي ابنة الدولة، وما عداها من مؤسسات وجماعات وأفراد؛ هم لقطاء، ولديهم مواطنية مؤقتة تنتهي بمزاج تلك الأجهزة

تفعل أجهزة المخابرات العربية كل الموبقات، وبعين قوية، وهي تتحدث عن نفسها بصفتها أنها الدولة، لدرجة يعتقد معها المرء أن تلك الأجهزة فقط هي ابنة الدولة، وما عداها من مؤسسات وجماعات وأفراد؛ هم لقطاء، ولديهم مواطنية مؤقتة تنتهي بمزاج تلك الأجهزة، ونعمة النعم لهؤلاء أنهم متروكون يمارسون حياتهم ويتكاثرون ويعملون، " شو صاير عليكم".. ولذلك يتوجب عليهم بين فترة وأخرى الانخراط بمسيرات خضوع وذل؛ تهتف بحياة الزعيم وفدائه بالروح والدم.

 

كانت مفاجأة الربيع العربي بالنسبة لدول المخابرات العربية؛ اكتشافها أنها أجهزة غبية إلى حدود بعيدة، لاعتقادها أنها كانت تعرف كل شيء


كانت مفاجأة الربيع العربي بالنسبة لدول المخابرات العربية؛ اكتشافها أنها أجهزة غبية إلى حدود بعيدة، لاعتقادها أنها كانت تعرف كل شيء.. الاتجاهات والعناوين والأشخاص، حتى أسرارهم الحميمية. وقد وصلت تلك الأجهزة إلى مرحلة اعتقدت فيها أن المجتمعات تروّضت لدرجة أنها باتت مستعدة لتجمع المعلومات عن نفسها وأولادها، وتقديمها لأجهزة المخابرات التي صارت تظن أنها تجاوزت مسألة العمل على إخضاع المجتمعات بأشواط، بل إن هذه المجتمعات أصبح لديها مناعة ضد الثورة والتمرد لمئة عام قادمة.

ورغم أن الربيع العربي دمّر البنى التحية لأجهزة المخابرات، من خلال تحطيمه لبنيتها وأنظمتها وشبكاتها المنتشرة في كل شارع وحارة. إلا أن النواة الصلبة نجت، وأعادت ترميم ذاتها في بعض البلدان، وهي تعيد إنتاج دورها ومهامها في صناعة الطغيان، ومحاولة إخضاع المجتمعات، من دون أن ينفي ذلك حقيقة أنها باتت تواجه بيئة أمنية أكثر تعقيداً مما سبق، رغم الميزانيات الكبيرة المرصودة لها.

الربيع العربي دمّر البنى التحية لأجهزة المخابرات، من خلال تحطيمه لبنيتها وأنظمتها وشبكاتها المنتشرة في كل شارع وحارة. إلا أن النواة الصلبة نجت، وأعادت ترميم ذاتها في بعض البلدان


في العالم العربي، ليست هناك دول بالمعنى الحقيقي، بل مجرد هياكل فارغة، ترفع خليطا من شعارات الحداثة والدين والعلمانية والمقاومة والوطنية. والهدف من وراء ذلك؛ التغطية على دولة المخابرات واللصوصية التي تجهد لإخضاع المجتمعات، وتستخدم القمع والزبونية والفساد كأدوات ناجعة.