قضايا وآراء

هل لا زال تحرير فلسطين هدفا واقعيا؟

1300x600
على الدوام كانت فلسطين سببا أو عاملا محفزا في الحراك السياسي الشعبي العربي، وبما يؤكد الترابط ووحدة المصير. هناك دراسات عدة ردت مظاهرات الربيع العربي المصرية، والتي كانت مدفوعة بعوامل اجتماعية وسياسية محلية، إلى بدايات تعود للوقفات مطلع الألفية في الجامعات المصرية، للتضامن مع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية. ولم ننس بعد هتاف التونسيين "الشعب يريد تحرير فلسطين"، ومشاعر الليبيين والسوريين واليمنيين في ذات الاتجاه.

وكما كانت فلسطين حاضرة في الفعل الشعبي العربي، فإنها الشريك الدائم في كل هزائم الأمة. مثلا، كانت القضية الفلسطينية الخاسر الأكبر في حرب الخليج الأولى (نتحدث عن التدمير الأول للعراق وحصاره كهزيمة للأمة، وليس بالضرورة عما آل إليه حال النظام المستبد الطائش) وحرب الخليج الثانية، وطبعا في الربيع العربي. كل بيت قصف في حلب أو جرف في العريش كان ينقض في جدران غزة، وكل عربي من غرقى قوارب اللجوء في المتوسط يسقط إلى قعر البحر، ليزيد من أثقال وأحمال الخيار الشعبي العربي المثخن الجراح، من تونس إلى الفلوجة، وفي القلب من ذلك فلسطين.

وإن كان من غير اللائق رسم صورة وردية لوضع مأساوي ودام بحق، فإن من المحظور أيضا تحويل هزيمة مشروع الربيع في معركته الأولى إلى لطمية جديدة، تغذي مواقف الساسة والمثقفين، بشكل سافر ومثبط للعزيمة.. تماما كما أدمنت السينما المصرية البكاء على هزيمة حزيران، وتقديم تلك الهزيمة كمبرر لقيام "حسين فهمي" أو "نور الشريف" بالاتجار بالمخدرات، أو بالمعلبات الفاسدة، أو بالرقيق الأبيض. إذا كانت عواطف البعض قد سحقت تحت وطأة ما يحدث في ليبيا وسوريا والعراق، فلا شك أن هذا مفهوم ومقدر، لكن من غير المفهوم أن يبقى هؤلاء الذاهلون في موقع القرار والقيادة، سياسيا أو دعويا أو ثقافيا. لا بد أن يتنحى هؤلاء لصالح من هو أبرد رأسا وأقوى شكيمة. لا بد من جبر الكسر والربط على الجرح، والانتقال للسؤال البديهي: ما الذي يجب عمله تاليا؟

يبدو الكيان الصهيوني سعيدا جدا بحلفائه العرب الجدد، أو بالأحرى حلفاؤه الذين نزعوا الستار عن علاقة وتماه قديم وراسخ مع الكيان. وعلى كل من تفاجأ بحجم التنسيق بين "نتنياهو" والنظام الرسمي العربي؛ أن يحصل على شهادة مصدقة تؤكد بأنه "ساذج". لكن، لنترك لنتنياهو ووزرائه التغني "بالكنوز الاستراتيجية" وابتذال المصطلح، ولننظر إلى حقيقة الموقف.

لئن كان الربيع العربي قد ذبح في حلب وميدان رابعة والموصل (حين تم إحلال داعش في الساحة العراقية لتدمير الحراك الشعبي هناك)، فإن النظام الرسمي المنتصر الذي "خربها وقعد على تلها" ليس عنده ما يجب أن يمنح الثقة للشريك الصهيوني. صحيح لدى هؤلاء الظلمة وأعوانهم القدرة على المضي إلى أبعد الحدود في الفجور السياسي، والتواطؤ ضد فلسطين، إلا أن قيمتهم السوقية - إن صح التعبير – قوية ومستقرة مثل جنيه الرئيس (الأوميغا).

النظام الرسمي العربي بات فعلا مستعدا لمنح وكالة عامة على مقدراته للكيان الصهيوني، لكن قيمة هذه المقدرات هي محل شك عظيم. "نتنياهو" حين يشتري هذا الحلف العظيم، فإنه يشتري سيارة مستعملة متهالكة في نفس اليوم الذي تعلن فيه الشركة المصنعة عن الإفلاس وحل نفسها. ليس لدى هذا النظام الذي يدار على أيدي عدد من الطائشين والفارغين (وليست تسريبات إيميلات القوم وتسجيلاتهم الصوتية عنا ببعيد) أية قوة للبقاء على المدى الطويل. المقدمات لا توحي بغير ذلك.. فليس هذا نظام صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي وأنور السادات؛ بل هو نظام الجيل الثالث من "شباب" البيوتات الحاكمة الذي يقود مسيرتها للهاوية. ومن هنا يجب أن نرى بارقة الأمل في أزمة الكيان الصيوني، رغم الانتفاخ والتوسع الظاهر؛ خصوصا حين نضيف إلى ذلك أن ملكات "نتنياهو" وبدائله لا تعكس قدرات مبهرة، ومهما وقف أعضاء الكونغرس الأمريكي للتصفيق له كلما تكلم (هؤلاء مستعدون لما يعف قلمي عن كتابته، ما دام ذلك يديم استمرار التمويل من المتبرعين الصهاينة لحملاتهم الانتخابية).

إن أفضل رد استراتيجي فلسطيني وعربي على هزيمة الجولة الأولى في الربيع هو أن تتعلم الجماهير الدرس، وتلقن معسكر "نتياهو" وكنوزه درسا ينصف العرب، ويرد الكرة للأمة عليهم. وفي الربيع - على فشله حتى الساعة - أدوات وأسلحة أحسب أن فلسطين هي الأقدر على إعادة توظيفها - بإحكام هذه المرة - لقلب السحر على الساحر.

لقد كان لزحف الجماهير على الميادين العربية، واعتصام الناس في تلك المواقع الحيوية، فعل الصدمة والمفاجأة التي قيدت أيدي الأنظمة ورعاتها أياما وأسابيع. ولولا عجز القادة المفترضين للحراكات، والأحزاب العربية عموما، لبقيت تلك الانظمة ورعاتها في لهاث خلف صولات الجماهير، لوقت أطول بكثير. نجح الزحف الجماهيري في استعادة الوحدة الإسلامية (هل لا زلنا نذكر كيف نظم أكراد العراق ربيعهم قصير الأجل في أربيل والسليمانية تأثرا بإخوانهم العرب؟ وهل نعي أن تقسيم العراق نتيجة ثانوية لهزيمة الربيع العربي)، ووصل التأثير القيادي للعرب حتى للكيان المسخ، حيث نفذ الجمهور هناك نسخته الخاصة من مظاهرات الربيع (طبعا مع إسباغ "ثقل الدم" الصهيوني المعهود في سرقة أي شيء عربي، بدأ من القدس وليس انتهاء بالحمص). وفي المهاجر، رد الربيع للعرب والمسلمين احترامهم لأنفسهم، وصار لسان حال الجميع "سجل أنا عربي"، والشباب الذي كان يحاذر أن يتدخل في سياسة الإقليم استجابة لتعليمات الأهل ("يامو ما تحكوا في السياسة")، صار يقود الأنشطة التضامنية وبنفس قومي عروبي وإسلامي وأممي.

إن للفلسطينيين بالخبرة النضالية الطويلة، وبالظروف الموضوعية، القدرة على بدء انتفاضة جديدة لعلها تكون الأخيرة التي يعقبها التحرير، ودحر الكيان عن جزء معتبر من فلسطين. ولعل هذه الانتفاضة تستلهم سلاح الربيع الماضي - احتلال الميادين العامة - وتترفع عن أهم علامات الهزيمة والانتكاس فيه، فلا يحلم قادة الحراك المنشود بزيارة "نيويورك" لنيل التكريم في غضون أسابيع من ثورتهم؟! أو في الحصول على جائزة نوبل (لا أعرف لأي سبب بالضبط!). وقد سبق ورأينا تجربة مصغرة وناجحة، في الهبة للدفاع عن المسجد الأقصى ضد تركيب البوابات الالكترونية. هل يمكن تخيل الأثر الذي يمكن أن يحدثه تجمع الناس في الأقصى؛ ليس فقط عند البوابات بل في كل المسجد والبلدة القديمة، في إطلاق شرارة صيف فلسطيني حارق وليس مجرد ربيع خجول مستعجل؟ هل تعجز نابلس وبيرزيت ورام الله وجنين والخليل عن محاكاة العمل وتكراره، بحيث يضطر الكيان الصهيوني للتعامل مع مئة ميدان تحرير، ومع قيادة تعي ما تريد، وتصر على برنامج سياسي سهل وبسيط: "تحرير الضفة ودحر الاحتلال وفك الاشتباك مع الاحتلال دون قيد أو شرط"؟

 ليس شيء من هذا كله ببعيد عن شعب فلسطين، وليس شيء منه لم يسبق تنفيذ شيء يشبهه على الأرض في فلسطين فعلا. نحتاج فقط لاستجماع قوتنا وإدارك مكامنها الخطيرة، والدفع بها قدما. ولعل بركة هذه الأرض - بالمعاني الروحية والوطنية - تجتمع يوما مع وقت مبارك (رمضان وحشود المصلين؟) فيحملان معا فعلا مباركا يفضي للإنجاز المنتظر.

هل لا زال تحرير فلسطين هدفا واقعيا؟ ثكلتني أمي إن شككت في ذلك للحظة، وعلى من يشك في ذلك أن يتنحى وينزوي جانبا!