مقابلات

عربي21" تحاور المستشار البشري في الفكر والسياسة (1)

انتقد البشري تدخل السلطة التنفيذية في القضاء بمصر - أرشيفية
جرت عادة الأطراف السياسية المصرية أن تستطلع آراء بعض الرموز الوطنية في الأزمات المصرية الكبرى، ويعد المستشار طارق البشري أحد أبرز هذه الرموز، لكنه منذ منتصف عام 2013 غاب عن التواجد الإعلامي إلا فيما ندر من تصريح متعلق بقضية محددة دون الخوض في تفاصيل الشأن المصري؛ الذي تعقدت أحواله بما يستعصي على طرح رؤية أحادية من أي تجمع سياسي، لذا كان من المهم الحديث للمستشار البشري ليحلل ما جرى وليجتهد في وضع أسس الحلول.

وحاورت "عربي21" البشري ليتحدث عن الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2018، وأحوال القضاء، وحالة الصدام الفكري في المجتمع، كما تكلم عن مفهوم الحرية متعرضا لجدلية تقييدها أم إطلاقها.

وإلى نص الحوار:

أحوال القضاء

* كيف تقيّم وضع القضاء في ظل استخدام السلطة له في تصفية حساباتها السياسية، ما أدى لتوتر علاقاته مع أطراف شعبية، ومن جهة أخرى تصدر السلطة قانون الهيئات القضائية رغم اعتراض تلك الهيئات على نصوصه؟

- هناك تدخل من السلطة التنفيذية في شؤون القضاء، وهذا التدخل ليس جديدا، ويعبر عنه علاقة وزارة العدل بالقضاء. فوزير العدل له علاقة باختيار قضاة في مناصب معينة، كرؤساء المحاكم الابتدائية بعد ترشيحات الجمعيات العمومية، وأيضا تبعية التفتيش القضائي للوزارة واختيارها لمن يقوم بالتفتيش. ومثل هذه الأمور يقوم بها قضاة، ولكن من خلال إدارة وزارة العدل وليس من خلال إدارة القضاء بنفسه. وللقضاء مطالبة قديمة بإزاحة اشتراك وزارة العدل في العملية القضائية، لاستكمال استقلال القضاء، وقام المستشار ممتاز نصار بدور كبير في ذلك، وأيضا المستشار يحيى الرفاعي.

* ماذا سيكون دور وزارة العدل إذا؟

- المطلوب أن تكون إدارة العملية القضائية من خلال مجلس القضاء الأعلى، وليس من السلطة التنفيذية الممثلة في وزارة العدل، ويبقى دور الوزارة في قطاعاتها، الأخرى كالطب الشرعي والخبراء والشهر العقاري وغيرهم. ومجال عمل وزارة العدل كبير وفي الناحية القانونية أيضا، ولكننا نتكلم عن علاقتها بالقضاء. ما يحدث الآن نتيجة وجود هذا العنصر الذي يسمح بتدخل السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى أن التدخل أصبح أكثر مما كان يجري من قبل.

* لماذا لم نجد معارضة من القضاة ضد القوانين التي تمس استقلال القضاة كما كان يجري من قبل؟

- ما حدث أن وزارة العدل استطاعت أن تسيطر أيضا على نادي القضاة الذي كان يعبر عن نشاط "استكمال استقلال القضاء" لعشرات السنين، واستطاعت وزارة العدل في ظرف ما أن تؤثر على اختيارات نادي القضاة أثناء الانتخابات في الفترة السابقة لثورة يناير.

* ولكن في فترة حكم الرئيس مرسي كانت هناك معارضة قضائية واضحة لبعض الإجراءات رغم وجود وزارة العدل التي تؤثر في النادي كما ذكرت!

- هذه حركة تابعة لنشاط جهاز الدولة ضد نتيجة انتخابات 2012.

* ذكرت في مقال سابق لك منتصف سنة 2013 أنك "من الذين يعرفون ما عسى أن تكون بعض الأحكام والتصرفات القضائية قد تجاوزت به حدود الأداء الوظيفي"، فما الذي كنت تقصده بتلك الأحكام والتصرفات؟

- بعض الأحكام في هذه الفترة، على الأخص كان ظهور العنصر السياسي للأحكام أكثر من العنصر القانوني، كحلّ مجلس النواب.

* إذا كانت هناك تجاوزات فلماذا عارضت عزل النائب العام عبد المجيد محمود، في وقت ربما يقول البعض إنه يحتاج لإجراءات تصحيحية تتجاوز ما يمكن عمله في أوقات الاستقرار؟

- ليس مقبولا على الإطلاق أن تتدخل السلطة التنفيذية في أعمال القضاء، سواء في عهد د. مرسي أو من تلاه أو من سبقهم، هذه الأمور نركن فيها إلى أن يصلح القضاء أموره فيها من داخله وبنفسه. والقضاء إذا تُركت له الاستقلالية الكاملة فهو قادر على أن يصلح نفسه بأدواته ووفقا لما تعودوا عليه في التربية القضائية. وحكمي بحسب ما أعرف عن الغالب الأعمّ في المسلك القضائي.

* كيف يمكن تحقيق استقلال القضاء؟

- النقطة الأساسية هي إبعاد تدخل السلطة التنفيذية في إدارة العملية القضائية، وإبعاد تبعية التفتيش القضائي عن الوزارة، وجعله العملية القضائية كلها تابعة لمجلس القضاء الأعلى. وكنت قد كتبت دراسة قديمة باسم "القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء"، وأضفت لها بحثا جديدا بعد الثورة، وهي تعالج هذه الأمور.

العلاقة بين الموروث والوافد

* اتصالا بالمسألة القضائية، لم ينقطع الجدل حول مسألة تقنين الشريعة في ظل تعدد المدارس الإسلامية، فإذا كانت هناك دعوة لتطبيقها، فأي فهْم للإسلام سيحكم عملية التطبيق مع وجود هذا التعدد؟

- هذه مسألة منتهية ومحسومة، فهناك مشروعات تم عملها للقوانين المختلفة، كالمدني والمرافعات والجنائي، وقام بها قضاة وفقهاء دستوريون. فأنت تأخذ من الأحكام الشرعية والمذاهب المستقرة ما يتلاءم مع ظروفك السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأعراف المجتمع. والأخذ من المذاهب المختلفة مقرر في القانون المصري منذ أوائل القرن العشرين، وكان الأصل متابعة الدولة العثمانية في الأخذ بأرجح الأقوال من المذهب الحنفي، ثم قامت حركة التجديد بتطوير ذلك للأخذ من أي رأي في المذهب، ثم تطورنا للأخذ بأي رأي من المذاهب المعتمدة بما يتلاءم مع ظروفنا. فمنهج وأساليب وواقع التقنين كل ذلك موجود فعلا، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية قام بعد ذلك بعمل مجموعة من مشاريع التقنين استمدها من المذاهب المتعددة.

* يتنامى كذلك النقاش حول مفهوم الحرية وكونها مطلقة، فإلى أي مدى يمكن قبول ذلك المعنى في ظل المرجعية الدينية؟

- تتحدد الحريات في ظل المرجعية العامة الحاكمة للمصريين عموما، وهي في هذه الحالة هي المرجعية الإسلامية بكل ما فيها من مباحات ومحظورات، فالأمر يتحدد وفقا لأعراف المجتمع ومبادئه العامة ومرجعيته الأساسية السائدة فيه.

* كيف حدث هذا التحول الملحوظ في المجتمع من المحافظة إلى ضدّها بهذه السرعة؟

- لم يحدث في المجتمع حركة انفتاح بهذا الشكل، لكن ما حدث أن بعض النخب والإعلام يقومون بتضخيم أحداث معينة، لكن لم يجر في عموم المجتمع مساس بقيمه السائدة؛ رغم وجود أحداث قليلة شاذة عن ثقافته السائدة وهي الثقافة الإسلامية.

* استخدمت تعبير الموروث والوافد في التعبير عن حالة الخلاف الفكري في المجتمع، فكيف نشأ ذلك الخلاف بينهما؟

- هناك قيم ونسق فكري نملكه، وهذا ما عبرت عنه بالفكر الموروث، وهناك قيم ونسق فكري وَفَدَ عن طريق مجموعة قليلة من النخب وهذا ما عبرت عنه بالفكر الوافد، والنقاش لا يجب أن يكون عن إحلال الفكر الوافد بدلا من الموروث، بل نبحث عن الحلول العملية الصالحة للمجتمع في كل مكان في العالم، ونحاول أن نصل بينها وبين مرجعيتنا ما دامت المرجعية الموروثة تسمح وتسع هذا الاجتهاد.

* ما الذي أحدث الفجوة بين الموروث والوافد؟

- المشكلة في النقاش في عموم الموروث والوافد ومرجعية كل منهما، فما يُطرح أنك إذا أردت أن تأخذ حلولا معينة فلا بد أن تأخذ الفكر الفلسفي المرتبط بها في الغرب، لكن ما يمكننا أن نأخذ من تطبيقات وتجارب الغرب التي تفيدنا، ونأخذ منه التكوينات التنظيمية التي تفيدنا، لكن مع الفصل بين ما نأخذه وبين مرجعيته الغربية ووَصْله بمرجعيتنا، وهذا ما تعلمناه من السنهوري الذي كان يستفيد من القوانين الغربية بعد فصلها عن مرجعيتها ووصلها بالمرجعية الخاصة بنا. لذا المناقشة لا تكون في المرجعيات، بل تكون في الحلول العملية والتطبيقية ومدى فائدتها لنا، وما كان مفيدا نأخذه كحلول عملية متى كانت تَسَعُه مرجعيتنا، وأنا واثق أن لدى العلمانيين الوطنيين حلولا عملية كثيرة يمكن تبنيها وتطبيقها، لكن دون اشتراط أخذ مرجعية الحلول العملية المطروحة.

* ولكن ربما يقول البعض أن النصوص الدينية متناهية لكن الوقائع غير متناهية، فلماذا لا يتم التعامل مع النص باعتباره نصا تاريخيا موضوعا لسياق معين؟

- لا أعرف كيف تُثار هذه المسائل! لأن لدينا في أصول الفقه الإسلامي حل جميع المشاكل من هذا النوع. فأصول الفقه الإسلامي تعتمد على مصادر كثيرة جدا، والمصادر الأصلية هي القرآن والسنة ثم الإجماع والقياس ومصادر أخرى معروفة في هذا العلم، وأساليب التطبيق بين الأفكار وبين المبادئ وبين الأحكام القانونية وبين الواقع مشكلة لا تقابلنا كمسلمين أو بين من يحملون الفكر الإسلامي فقط، بل تقابل العلمانيين أيضا في تطبيقهم للقانون العلماني الوضعي؛ لأن أي تطبيق قانوني يكون عبر نص ثابت يحكم واقعا متغيرا. فالقانون الفرنسي مثلا قانون وضعي نصوصه ثابتة منذ أكثر من مئتي عام، وهذه النصوص على ثباتها تحكم واقعا متغيرا، ولهم أساليبهم في كيفية تطبيق النص الثابت على الواقع المتغير والمتجدد. ونحن نسبقهم في ذلك وقادرون على هذه العملية من خلال منهجنا في التفسير ومنهجنا في التطبيق، وأصول الفقه قادرة على أن تحكم تفكيرنا من خلال الانضباط الشديد جدا في الالتزام بالنصوص، مع المرونة الشديدة جدا في التعامل مع الوقائع المتغيرة، مما يسمح بإيجاد حل لأي مشكلة تقابلنا من خلال هذا المنطق بانضباط شديد لأصولنا الفكرية والفقهية المستمدة من الفكر الإسلامي.

* كانت هناك مناظرات ومناقشات فكرية في فترة الثمانينيات والتسعينيات بين التيارات الفكرية المتنوعة، هلى توقفت بفعل الدولة أم أنكم فقدتم القدرة على الوقوف على أرضية مشتركة؟

- الأسباب السياسية العامة أوقفت هذه النقاشات كما أن النقاشات أصبحت مكررة، وهذا بفعل إعلام سياسي كان يريد أن يثير الفرقة، ولو كانت المناظرات بعيدة عن الإثارة الإعلامية لاستطاعت الأطراف الوصول لحلول عملية كثيرة، وكنت كتبت دراسة منشورة بعنوان "نحو تيار أساسي للأمة" لبحث المشتركات بيننا، لنهتم بها ولنبحث في كيفية التوفيق بين المشتركات، لا أن نثير الخلافات فقط، وحتى لو دارت الخلافات فلننظر إلى أهمية وحجم الخلاف في ظل المشاكل التي تقابلنا. فمثلا ما حجم الاختلاف وأهميته حول قضية سن الزوجة -  أيكون 16 أم 18 عاما - بالنظر إلى مشاكلنا وواقعنا؟ فمن المهم النظر لحجم المشكلة التي نختلف فيها.

* لماذا أصبحت الاستقطابات السياسية والفكرية أكثر حدة في السنوات الأخيرة؟

- لأن المشكلة أننا نتناقش في المرجعيات الكلية والجانب الإيماني والعقيدي، وهذه لا يمكن النقاش فيها، فينبغي أن نتناقش في الحلول العملية ومدى أهميتها لنا كمجتمع ونحاول أن نجد نقاط الاتفاق.

كذلك هناك من يريد أن يجعلنا على فُرقة دائمة ويجعل المختلفات هي أساس هذه الأمة حتى لا تجتمع على صواب، وهذا من السلوك الاستبدادي السياسي في مصر، وكلما حدثت محاولات لكي تجتمع الأمة تُثار المشاكل الفكرية حتى تفترق عن بعضها، والإعلام يقوم بدور كبير في هذا الشأن.

(يتبع  الجزء الثاني من المقابلة)