كتاب عربي 21

الشرخ الأوسط الكبير

1300x600
لم تشهد المنطقة العربية تسارعا للأحداث بالكثافة التي هي عليها اليوم مشرقا ومغربا، وليس التغيير المفاجئ في هرم السلطة في السعودية إلا دليلا واحدا على هذا التحول الكبير. 
 
إن مجموع الأحداث التي تتالت مؤخرا بدءا بالربيع العربي وثوراته العظيمة مرورا بالانقلابات الدامية وجرائم الاستبداد العربي التي تمثل الثورة السورية خير دليل وشاهد عليها، مؤشرا على أن المنطقة تمر بمنعطف خطير، سيحدد طبيعة مستقبلها بشكل حاسم.
 
حصار قطر ومحاربتها برا وبحرا وجوا بقطع كل الطرق، وسد كل المنافذ أمامها، هو وجه آخر من وجوه المشهد الجديد الذي هو بصدد التشكل أمام أعيننا. 
 
كما أن محاربة كل دعوات التغيير والتحرر من ربقة النظام الدموي العربي هي السمة المميزة للمشهد الجديد بدعوى الأخونة والتطرف والإرهاب وغيرها من التهم الجاهزة.
 
معطيات كثيرة يمكن تبينها داخل هذا المشهد الكبير الذي دأبت سرديات الخطاب السياسي العربي على تسميته بالشرق الأوسط أو الشرق الأوسط الجديد. لكن أهم هذه المعطيات هو الشرخ الهائل الذي يضرب المنطقة وهو يتجلى في عناصر كثيرة:
 
أولها: حالة التناحر العلني بين المكونات الكبرى للأمة، وهي حالة تجاوزت التناحر القديم بين المكونات الصغرى من ملل ونحل ومدارس وإيديولوجيات إلى تناحر بين أنظمة قائمة ودول بأسرها. 
 
وليست الحرب المعلنة ضد دولة قطر من طرف المكون الخليجي ذاته، إلا وجها جديدا من وجوه الشرخ الكبير الذي يتمدد في جسد الأمة. 
 
ثانيها: التمدد العلني للكيانات الإمبراطورية التوسعية على حدود المنطقة العربية بدءا بالمشروع الصهيوني وصولا إلى المشروع الفارسي والروسي والأمريكي. 
 
فهذه الكيانات لم تعد تخفي مطامعها التوسعية في المشرق العربي، بل تتقدم في استعراض علني للقوة مثلما تفعل إيران التي لم تعد تكتف بالتفاخر باحتلال أربع عواصم عربية، بل قامت منذ يومين بإطلاق صاروخ بالستي عبر العراق ليقصف العمق السوري العميق، بحجة محاربة الإرهاب. 
 
المعطى الثالث الأخطر: هو الغياب التام للجماهير العربية التي فقدت أو أفقدت كل قدرة على الحركة والتعبير، بسبب المذابح التي ارتكبها النظام الرسمي العربي بشكل شكّل صدمة قوية لكل المطالب السلمية بالحرية والتغيير. يضاف إلى ذلك خيانة النخب العربية  للمرحلة الانتقالية الحاسمة التي مكنت النظام الدموي من العودة إلى المشهد من جديد. 
 
أما المعطى الرابع: فيتجلى في غياب المشروع السياسي سواء داخل الدولة القطرية أو بالنسبة للتكتلات الورقية المزيفة مثل مجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية أو اتحاد المغرب العربي. 
 
وهو أمر يجعل الهدف الأساس للنظام الرسمي مقتصرا على  التمسك بالسلطة، ومنع كل محاولة للتغيير ولو كلفه ذلك الملايين من القتلى والمشردين كما هو الحال في سوريا.
 
إن النظام الرسمي العربي ليس في الحقيقة إلا نظام وكالة استعمارية، هدفه تحويل الاستعمار العسكري المباشر إلى استعمار ناعم يستطيع تحقيق كل المطالب الاستعمارية، وبتكاليف أقل.
 
إن فشل الحاكم وفشل النخب العربية وخاصة السياسية منها هو الذي أوصل المنطقة إلى ما هي عليه اليوم، بل إن كل الدلائل والمؤشرات تجمع على أن القادم سيكون أخطر بكثير، بسبب انعدام كل مبادرة داخلية قادرة على الخروج بالمنطقة من الأزمة الخانقة التي لا تكاد تغادرها. 
 
لقد كانت ثورات الربيع العربي أو تحديدا الموجة الأولى منها فرصة تاريخية من أجل إعادة صياغة عقد سياسي جديد، لكن منظومة الاستبداد المتحكمة في رقاب الشعوب لم تفهم الدرس ولا تزال تعتقد بأن المنطق القديم القادر على الحكم سنوات وعقود طويلة أخرى.
 
المشهد اليوم ناجم عن انحسار الموجة الأولى لثورات الربيع العربي والانتصار الدموي الكبير للقوى الانقلابية بقيادة دولة الإمارات العربية التي آلت على نفسها تصفية الثورات العربية ومحاربتها باسم الأخونة والتطرف والإرهاب، في حين كانت الثورات العربية دروسا في السلمية والتحضر، قبل أن يطلق عليها الطاغية العربي رصاص القناصة. 
 
لكن الثابت أيضا، هو أن الجماهير العربية لم تقل كلمتها الأخيرة، وكل خوف الحاكم العربي اليوم هو تجدد الموجات الثورية التي إن هي اندلعت فلن تكون بسلمية الثورات السابقة. 
 
إن تجدد الموجات الثورية أمر حتمي تاريخيا، لأن بقاء الحالة على ما هي عليه اليوم يعني نهاية الأمة وذهابها نحو مصير مظلم لا تحمد عواقبه. 
 
بل يمكن القول إن الثورات القادمة هي الوحيدة القادرة على رتق الشرخ العربي وإعادة الحياة والكرامة إلى هذه الأمة المضرجة بالدماء وبالدسائس والمكائد.