قضايا وآراء

قراءة في الموقف التركي من الأزمة الخليجية

1300x600
تركيا ما زالت تحاول البقاء على الحياد في الأزمة القطرية. هذا الكلام لأنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات.. بشكل عام هو كلام صحيح، مع أن العبارة الأدق هي تركيا في مربع الحياد الإيجابي، بمعنى الاحتفاظ بقنوات اتصال مفتوحة مع طرفي الأزمة السعودية وقطر، ودعم الوساطات المبذولة لحلها، خاصة في السياق والبيت الخليجي، مع مساعدة قطر لمواجهة الحصار الاقتصادي غير الصائب في شهر رمضان، تحديداً، واعتبار القاعدة العسكرية التركية جزء من دعم أمن الخليج ككل، وكونها نتاج اتفاق وتفاهم سابق على وقوع الأزمة نفسها، وحتى يمكن وضعها في سياق إبقاء الأزمة في الإطار السياسي الدبلوماسي السلمي، ومنع انزلاقها نحو مناحي خطرة، لا اقتصادياً ولا أمنياً.

منذ اللحظات الأولى للأزمة سعت تركيا إلى لعب دور المهدىء والوسيط؛ الرئيس أردوغان اتصل مباشرة مع الملك سلمان بن عبد العزيز وأمير قطر تميم بن حمد، وأمير الكويت جابر الصباح، وهو دعم الحل السياسي السلمي القائم على الحوار، كما دعم مباشرة مساعي أو  نية أمير الكويت لعب دور الوسيط.

الرئيس أردوغان تحدث كذلك في الأيام الأولى للأزمة مع الرئيس الروسي بوتين، والرئيس الفرنسي ماكرون، ووصل الأمر مع الوقت إلى حد الحديث مع 15 رئيساً ومسؤولاً أممياً كبيراً، من أجل إبقاء الأزمة في نطاقها السلمي، ومنع انفجارها أو خروجها عن السيطرة.

لكن مع دخول الحظر الحصار الاقتصادى حيز التنفيذ واحتمال حدوث نقص في المواد الغذائية والتموينية في قطر، خاصة في شهر رمضان المبارك بادرت الحكومة التركية إلى إطلاق ما يشبه الجسر الجوّي لمنع حدوث ازمة في المواد الغذائية الضرورية والحيوية، التي كانت تحصل عليها الدوحة من الرياض وبدرجة أقل أبو ظبي، كان الأمر متعلق أساساً بتخفيف الأثار الإنسانية السلبية للحصار، في شهر رمضان مع التمسك بمبدأ الحياد الإيجابي، والقنوات والصلات المفتوحة مع العواصم المعنية.

قصة القاعدة التركية في الدوحة يمكن وضعها في نفس السياق تقريباً، والأمر تعلق بالرد أو إنهاء أي تفكير في العمل العسكري بعدما راجت شائعات أو تسريبات بهذا الصدد، إضافة للغرض النبيل والحيلولة دون انفجار الأزمة وخروجها عن السيطرة، تضمنت الرواية الرسمية التركية المركزية التأكيد على السياق التاريخي للاتفاقية الموقّعة منذ ثلاث سنوات، والأهم التأكيد أن القاعدة ككل هي في خدمة الأمن الخليجي المشترك، الذي دعمته تركيا بقوة وما زالت.

كان لافتاً أيضاً في سياق دعم الأمن الخليجي العام  حديث الرئيس رجب طيب أردوغان عن  طرح اقتراح أمام العاهل السعودي لإقامة قاعدة تركية مماثلة في السعودية، وهو ما لم يرد عليه الملك سلمان حتى الآن.

تركيا حرصت كذلك على تفنيد الاتهامات الرئيسية ضد قطر، إن فيما يتعلق بالإرهاب أو بالعلاقات مع إيران، مع إعلان موقفها القاطع  أن لا الإخوان المسلمين أو حماس جماعات إرهابية، وتأكيد الرئيس أردوغان أنه يعرف القيادة القطرية منذ 15 عاماً تقريباً، ولم ير أي دليل أو إشارة على دعمها للإرهاب، وما كان ليسكت أصلاً على أمر كهذا.

وبالنسبة لإيران وكما قال وزير الخارجية التركي شاويش أوغلو، فإن لقطر علاقات ومصالح اقتصادية معها، كما لدول عربية خليجية أخرى - متل الإمارات والكويت وعمان -، وحتى تركيا نفسها، وهذا لم يمنع الخلاف أو حتى الصدام معها، كما فعلت قطر التي اصطفت إلى جانب السعودية في مواجهة إيران، في اليمن، وسورية. بينما النظام المصري مثلاً وعوضاً عن موقفه البارد واللئيم في اليمن، وتقاربه وتنسيقه مع فلول صالح والحشد الشعبي الحوثي، فهو لم ينكر ولم يخف انحيازه إلى جانب محور إيران روسيا وبقايا نظام بشار الأسد، ليس سياسياً وإعلامياً فقط، وإنما بالسلاح أيضاً، علما أنه أي النظام العصابة يمثل العمود الفقري وحجر الزاوية في أمبراطورية الدم والوهم الفارسية.

الموقف التركي بالحياد الإيجابي لا ينطلق فقط من الإيمان بأن الأزمة داخلية، ولا تحل إلا في سياق البيت الخليجي وبوساطة خليجية، وإن من الأهمية بمكان بالتالى دعم الوساطة الكويتية الوحيدة والواقعية، كما خلق بيئة دولية مؤاتية لتلك الوساطة، وللحل السياسي السلمي والهادىء، وإنما من المصالح المشتركة مع الدول الخليجية خاصة الاقتصادية تحديدا مع الرياض وأبو ظبي، حيث ارتفع التبادل التجاري مع الأولى خلال الفترة الماضية إلى 8 مليار دولار، وهو مرشح للارتفاع مع الوقت كما تجاوز حاجز الـ10 مليار دولار مع الثانية. وفي الأيام الأخيرة فقط ورغم الأزمة الحالية فإن هيئة المنافسة التركية الرسمية صادقت على بيع إحدى أكبر شركات الشحن الكبرى في تركيا لشركة ميراج الإماراتية التي تملك أصلاً حصة وازنة في قطاع الشحن في البلد.

في السياق نفسه كانت أنقرة حذرة جداً تجاه التورط في سجال إعلامي مع وسائل الإعلام السعودية والإماراتية والتأكيد الدائم على الموقف التركي المحايد، الأخلاقي والإيجابي والاحتفاظ بقنوات وصلات مفتوحة من أجل المساهمة في الوصول للحلّ المرجو.

تركيا تفهم كذلك أن ثمة قواسم مشتركة مع الرياض، فيما يتعلق بمواجهة السياسات الإيرانية القومية - وليست الطائفية – كما قال الرئيس أردوغان ومساحة التوافق هي عريضة تشمل سورية العراق واليمن، ولا تريد السلطات الواعية والحكيمة في أنقرة تدهور الأمور نحو الأسوأ، وبما يصب في مصلحة إيران وحلفائها المتربصين، علماً أن الموقف التركي يبدو أقرب إلى مواجهة الأمبراطورية والمطامع الإقليمية الفارسية المتوحشة مع الاحتفاظ  قدر الإمكان بالمصالح المشركة، ونقاط التلاقي مع إيران كدولة.

أعتقد أن ثمة بعدا آخر في الأزمة الخليجية ينبغي التنبه له، ويتمثل بعدم اقتناع القيادة التركية بفكرة أن الدور بعد قطر سيطال تركيا نفسها، لأن الرياض لم تفعل نفس الشيء مع المغرب مثلاً، ولا حتى السودان أو دولة أخرى رفضت التساوق مع سياسة الحصار، كما أن تركيا تفهم أنها دولة كبرى قوة إقليمية وازنة وليس من السهولة بمكان التفكير في حصارها أو عزلها، وهو الأمر الذي لا تفكر فيه لا واشنطن ولا حتى أوروبا في ظل الاحتياج إلى الدور التركي في ملفات حيوية وحساسة مثل مكافحة الإرهاب واللاجئين وعدم ذهاب الأمور نحو مزيد من التوتر والانهيار.

ثمة أمر آخر وأخير، تركيا لن تكون في محور عربي إسرائيلي ضد إيران، وحتماً لن تكون في محور مع إيران ضد دول الخليج وشعوب المنطقة، هي ستحافظ على موقفها واستقلاليتها طوال الوقت، وحتى مع وجود أجندات أو أمور مخفية، كما قال شاويش أوغلو فإن تركيا حتماً لن تتساوق أبداً مع معادلة الإرهاب أو الاستبداد، ولن تتعاون مع إرهابيين ضد إرهابيين، ولن تتعاطى بخلط المفاهيم ووصم الثورات وحركات وأحزاب – الإسلام السياسي - أو المقاومة المشروعة بالإرهاب.

• باحث وإعلامي فلسطيني