كتاب عربي 21

مبارك على يسار السيسي.. وااا مصيبتاه

1300x600
(1)
في تسريبه الأخير، بدا مبارك زعيما وطنيا يحافظ على قيمة ومكانة مصر، ويحفظ أمنها الإقليمي، ويهدد بنسف سد النهضة الأثيوبي في طلعة جوية واحدة، عن طريق البطة السوفييتية العرجاء، المسماة بالطائرة "توبوليف"..! والمؤسف أن هناك من صدق ترهات مبارك الميلودرامية، وترحم على ايام الكرامة في عهد المقاتل العنيد الذي حفظ مكانة مصر، وصارت بعده "ملطشة" لكل من هب ودب في العالم.

(2)
الوضع  المخزي الذي تحدث عنه مبارك هو الشريك الأكبر والعامل الرئيسي فيه، منذ أن ورث من السادات مذلة التبعية لأمريكا، وسياسة الخنوع لإسرائيل، فأصبح الحلقة الأكبر في نظام كامب ديفيد، الذي نحصد أشواكه وعلقمه الآن، فقد تآكلت العلاقات المصرية مع أفريقيا، وتشردت الكوادر الدبلوماسية الفاعلة فى هذا الملف في أعقاب حرب أكتوبر، وتدهورت العلاقات على مدى عقود، بالرغم من وجود معهد للدراسات الإفريقية وباحثين في هذا المجال، ومصالح تجارية وسياسية وأمنية وجغرافية أيضا، لكن مراكز الدراسات، والاجتهادات النظرية، والبيانات المناسباتية لا تصنع سياسة، السياسة تصنعها المصالح المشتركة، والمشاريع العملية، والحضور الدائم، وهو الأمر الذي لم يحرص عليه مبارك، خاصة بعد محاولة اغتياله في أديس ابابا منتصف التسعينات، إذا تصرف كما لو كان محكوما بعقدة نفسية من أفريقيا.. ومن اثيوبيا بالذات.

(3)
ذات صباح شتوي قبل أيام من الحرب الأمريكية على العراق، كنت في منزل وزير الحربية ورئيس المخابرات المصرية الأسبق أمين هويدي في مصر الجديدة، وكان ثالثنا الدكتور أنور عبد الملك، وتطرقت المناقشات إلى دور مصر فى المنطقة، ورؤية الإدارة المصرية للمستقبل، كان هويدى فى السنوات الأخيرة من حياته عاطفيا شديد التأثر، لدرجة أنه بكى أمامي 4 مرات في آخر 7 لقاءات جمعتنا، يومها أدمعت عين الرجل وهو يتحدث عن هوان مصر مع جيرانها، وأفاض فى الحديث عن طبيعة علاقتنا بالسودان وليبيا، والمخاطر التى تنتظرنا في العمق الإفريقي. وأراد الدكتور عبد الملك أن يخفف من تأثر هويدى فتحدث عن عملية تدمير الحفار الإسرائيلي على شواطئ ساحل العاج، ونجاح رجل المخابرات محمد نسيم (نديم قلب الأسد) على تمرير المتفجرات والتجهيزات عبر حدود 7 دول إفريقية، حتى نجت العملية، وكان من أسباب نجاحها الدور الذي أسهمت به شخصيات إفريقية ذات علاقات جيدة مع مصر، فساعدت في ترتيبات لوجستية سهلت الحركة والقدرة على المناورة والخداع، وقد نجحت تهدئة الدكتور عبد الملك لهويدي، فالتقط الجنرال خيط الحديث بحماس، وقال إن الأمن القومي الآن في أضعف حالاته، نظرا لغياب الرؤية، وبالتالي مجموعة الإجراءات التي يمكن اتخاذها للمحافظة على أهدافنا ومواردنا في المستقبل، وليس في الحاضر فقط، وأشار إلى الدور الإسرائيلي في إفريقيا، وقال بمرارة "إننا نعيش عصر الفرص الضائعة في كل الجبهات".

(4)
خيبتنا في إفريقيا إذن ليست مفاجأة، فهي معروفة لكل المراقبين منذ سنوات طويلة، وكثيرا ما أتوقف أمام شهادة مؤلمة للدكتور بطرس غالي، وردت في الجزء الأخير من مذكراته المعنون "بانتظار بدر البدور"، لأن غالي لديه خبرة ميدانية طويلة في الملف الإفريقى، من خلال عمله الدبلوماسي، ولديه كذلك خبرة نظرية وسياسية كباحث ووزير في دولتي السادات ومبارك، وقد أتاحت له هذه الخبرة رصد مؤشرات الإهمال المصري للعلاقة مع أفريقيا، وهي الجريمة التي أدت إلى ما نحن فيه من خيبة ومهانة استنكرها القريب والبعيد، حتى مبارك المتورط في تكريس الخيبة و"قلة القيمة، عن طريق اتباعه لسياسات منكفئة وصفها غالي بأنها "كوراث هزت المحيط الواقى لأمن مصر القومى، وهددت مصادر المياه فى بلاد المنبع"، وهذا يعني أن مشكلة مصادر المياه كانت مطروحة على مبارك منذ التسعينات، لكنه لم يهتم بهذه القضية الخطيرة، لأسباب غامضة، تحتاج إلى تحقيقات رسمية جادة.

(5)
في الشهادة التي تضمنتها مذكراته قال غالي إن موبوتو سيسيكو حاكم زائير (الكونغو حاليا) كان شديد الاقتناع بالدور المصري فى إفريقيا، وسعى لتأسيس حلف ثلاثي في بداية التسعينات "يضم بلاده ومصر ونيجيريا"، يتولى تقرير مصير القارة، وطلب مني أن أدرس هذا المشروع وأعرضه على الرئيس مبارك، وبالفعل عرضته على الرئيس الذي استمع إلي مشككا، دون أن يعطيني أى توجيهات لمتابعة المهمة. وفي فبراير 1998 التقى غالى مع رجل إثيوبيا القوي ميليس زيناوي، الذى خرج عن جدول أعمال الاجتماع الخاص بالفرانكفونية وقال لغالي: "أفضل أن نتاقش موضوع العلاقات بين مصر وإثيوبيا، أنت خبير بهذا الملف، ونريد أن نتباحث فيه.. إن لبلدينا هدفين مشتركين محاربة الأصولية الإسلامية، وتقاسم مياه النيل.. لكن لدي تقارير مؤسفة عن أعمال تقوم بها مصر، تشعرني بحالة من العداء تجاه بلدي، وطوال ساعتين من المحادثات حاول غالي أن يطمئن زيناوي ويقنعه بتجاوز مظاهر سوء التفاهم، وتجاوب زيناوى وبالغ في الاحتفاء بغالي والوفد المرافق له، وعندما عاد غالي إلى القاهرة التقى مبارك في 2 مارس 1998 وأطلعه على محادثاته مع زيناوي والجهود التى يجب أن يبذلها البلدان لاقتسام مياه النيل، لكن مبارك قفز على الموضوع وأهمل الرد. وعلق غالي على هذا الموقف قائلا: لقد سمعني الرئيس مبارك بانتباه، لكنه كان منشغلا بالمشاكل قصيرة المدى أكثر مما تشغله قضية مياه النيل التي كانت تشكل بالنسبة لي اهتماما كبيرا، ولا أتصور أن تكون هذه القضية فى مطلع أولوياتى بينما هي بعيدة عن تفكير الرئيس، بل والإدارة كلها، فقد التقيت في المساء مع الوزير عمر سليمان مدير المخابرات والمسؤول عن العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا، وأحطته علما بما دار بيني وبين زيناوى ومبارك، ووعدني سليمان بالاهتمام بهذه القضية التي يعتبرها أساسية، لكن لم يحدث شيء"، وبعد أيام التقيت مع أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس وأفصحت له عن مخاوفي من السياسة المصرية في إفريقيا، وقلت له بوضوح: إنكم تهملون ملف السودان ومشكلة مياه النيل.. لكن أسامة الباز كان يكتفي كعادته بهز رأسه، ويقول بصوته الأخن عبارة من هنا وعبارة من هناك، ولم يكلف نفسه بتسجيل الملاحظات كما كان يفعل من قبل.

(6)
هذا جانب يسير من شهادة بطرس غالي، وقد استمعت إلى مهازل أكثر من دبلوماسيين وباحثين عن علاقة وثيقة بأفريقيا، واليوم يأتي أكبر مسؤول في فترة الانحطاط طوال ثلاثة عقود حكم فيها مصر، ليحدثني عن الكرامة والقوة والمهابة والطائرة "توبوليف" التي تشبه الآن عربات الكارو بين الطائرات المقاتلة، وأختتم بمقولة لنابليون لا أظن أن حكامنا لديهم جرأة ترديدها أو حتى فهمها.. فقد قال بونابرت: لا أحد مسؤول عن هزيمتي، أنا المسؤول... لأنني كنت أخطر عدو لنفسي.