هكذا صرنا نعدم باسم الوطن، وبجانب لافتة كتب عليها اسمه، ولكن محت كتابتها دموع الثكلى، وغطت بعض الأحرف قطرات دماء تطايرت عندما أطلق الوطن طلقاته على أبنائه.
هنا بأرض الموت، حيث أصبحت الشوارع والمنازل والجامعات والسجون، وحتى الصحراء، مشروع مقبرة، لأن من يحكم امتهن مهنة حفار القبور.
بجانب لافتة الوطن ورغم قسوة العيش وضنك الحياة، ظل الملايين يحلمون بتغير تلك اللافتة، ووضع أخرى براقة تحمل الأمل مكان الألم، بجانب تلك اللافتة الكئيبة كانت هناك عيون تغتصب الضحكة كي تستطيع أن تقهر الظلم. لم يفقدوا إيمانهم بأرضهم ولم يفقدوا إيمانهم بأنها تحبهم كما أحبوها، وأنها ستكون أرض أحلامهم.
لكن مع حفار القبور تشنق الأحلام على أعمدة الإنارة الصدأة، ويعدم أصحاب تلك الأحلام بدم بارد. ليس هذا وحسب، بل يتهمون بعد موتهم بأنهم إرهابيون، كارهون للوطن.
فلا يبقى لنا من هؤلاء الحالمين سوى صور تتطلع فينا لتخبرنا ما غاب عنا: أنهم وأننا لسنا سوى أرواحا كانت تدب على الأرض، تحمل شقاء العبيد حين يساقون للموت قربانا، كي يظل الوطن على قيد الحياة.
الوطن يظل على قيد الحياة بمن؟؟ ولمن؟.. وما هو هذا الوطن الذي يرتهن بقاؤه بموت مواطنيه؟
عن أي مقبرة نتكلم؟ الأوطان بكل الدنيا توجد بوجود البشر فيها، فكيف اختلف وطني عنهم؟ إنه لم يختلف إنما اختلفت الطغمة الحاكمة، تلك الطغمة التي تعيش على دمائنا وتقتات من أجسادنا وأحلامنا، فهم مثل دراكولا لا يستطيعون أن يعيشوا بالنور لذا فرضوا علينا الظلام، لا يقتاتون إلا على الدم لذا كلما شعروا بالضعف والجوع ، كانت دماؤنا هي سبيلهم للحياة، ولكن لكي يرضى الجميع أن يصبحوا قرابين كان لا بد من اختراع الوهم أنهم قرابين الوطن وليس الحاكم.
كم منا قُدم كقربان للإله الحاكم في معبد الوطن؟ من عهد فرعون موسى وقرابين الدم تراق من أجل أن يطمئن الفرعون على ملكه لا من أجل الوطن، وتوارث فراعين
مصر ذاك الطقس فكلما شعر الفرعون بخوف أو حلم بكابوس أعلن الحالة القصوى في البلاد ودقت أجراس الكنائس والمعابد وارتقت عمائم السلطان المنابر وخطبوا في الناس "الوطن... الوطن.. كلنا فداء للوطن". فتقام المذابح على شرف الوطن، ومن دمائنا يشرب السادة لأننا العبيد، وعلى قبورنا تُبنى قصورهم ويكفينا من ذاك الوطن لقب الشهيد.
هو الجهاد الوحيد المسموح لنا أن نموت بيد الفرعون بدعوى يحيا الوطن.. يحيا الوطن... يحيا الوطن ولو مات فداءه كل العبيد. كم قتل عبد الناصر بدعوى المحافظة على الوطن، كم قتل السادات بدعوى تحرير الوطن، كم قتل مبارك بدعوى أمن الوطن، وبدعوى يحيا الوطن يقتلنا حفار القبور على أرض الوطن.
من أجل السيد الإله حاكم البلاد العتيد من أيام فرعون إلى أيام فرعوننا الجديد، هذه الفترة التي لم تشهد بلادنا مثلها على مر تاريخها من الاحتلال والقهر. فما نشهده الآن فاق كل سنواتها السبعة الآف ما بين الحضارة والحقارة، سيسطر التاريخ تلك البقعة السوداء التي خطها حفار قبورنا لتوطيد حكمه، تحت سمعنا وبصرنا، وما بين رضوخنا وذلنا وانشقاقنا صار يزرع:
- أحقاداً بين أبناء الوطن الواحد والأسرة الواحدة ربما سنحتاج لسنوات من التأهيل النفسي كي تعالج.
- زرع فوضى في كيان الوطن فحوله لشبه دولة بلا سلطة بل يدار بقبضة عصابة من قطاع الطرق والأرزاق أيضا.
- زرع أحقادا طائفية تغذي نفسها بنفسها بين تفجير بكنيسة هنا وتجديد خطاب ديني لمسجد هناك لأن ذاك المسجد إرهابي يحرض على الكنائس.
- زرع إعلاما فاشيا يتفنن بإيهام الشعب بأنهم بمواجهة عداء كوني يحاول الفتك بهم، مؤامرات خارجية وإرهاب داخلي، وأن الحاكم يحميهم مقابل جوعهم وصمتهم ودمائهم، لا تطلبوا منه شيئا هو يحميكم وفقط.
- زرع أشباه سياسيين يخبرون الناس ليل نهار أن ما أصابهم من جوع وفقر ومرض إنما هو نتاج الحرية التي يطالبون بها والديمقراطية التي ينشدونها.
- زرع الموت بكل زاوية من زوايا الوطن ليحصد بشراً بعمر الزهور من مزارع القهر التي أنشأها لنا.
- وفي
سيناء أرض القمر والفيروز جعل منها أرض لزراعة كل ما فات، هناك زرع الطائفية بقتل المسيحيين وتهجيرهم، هناك قسم الناس داخليا وجعل منهم خونه فأسس الفرقة (103) ما يطلق عليها الصحوات" وهم مجموعة من أهل سيناء يتم تجنيدهم ليكونوا عيون الجيش على أهل سيناء يطلقوا أيديهم في الناس كبلطجية، هناك غاب الإعلام وأن ظهر كان أشبه بالعاهرة التي تصم الجميع بالفساد كي يصبحوا مثلها ملوثين، هناك بسيناء من ارتوت بدماء المصريين عبر التاريخ جند السيسي خبرائه السياسيين ليقنعوا الشعب أن أهل سيناء خونة إرهابيين يحاربون الجيش ويقتلوا الجنود، من سيناء ظهر فيديو يفضح ما يقوم به طغمة العسكر من قتل الأطفال والشباب بدم بارد تمهيدا لإخلائها كي تسلم لإسرائيل فيما يعرف "بعملية القرن".
زرع الموت والخوف والفقر والجوع وفي المقابل على الضفة الأخرى تبنى الإرهاب وصار الراعي الرسمي له، في أرض الوطن القاتل والمقتول دمية بيد الحاكم وضعنا كأحجار شطرنج على رقعة الوطن التي يسعى لتقسيمها..
فالأحجار البيضاء مدنيون يقتلون بيد الأحجار السوداء بدعوى أنهم إرهابيون، والأحجار السوداء جنود يقتلون بيد الإرهابيين الأبرياء من تلك التهمة كما أوضحها آخر تسريبات فضائحهم، لتظهر الصورة كاملة تتحدى تلك الطغمة ومن معها بأن العبيد من المدنيين والجنود يقتلون بأوامر من القائد الذي يتجرع دماءنا كي يبقى حيا ومن جماجمنا وعظامنا يثبت كرسي حكمه وذلك تحت ستار محاربة الإرهاب.
نحن نقتل بدم بارد بيد مجموعة تولت زمام الأمور بالبلاد وأتوا على ظهر الدبابة للحكم، لا يوجد على أرض الوطن إرهاب ملتح، ولا إرهاب بزي مدني، الإرهاب ببلادنا يحمل رتبا عسكرية عالية، الإرهاب ببلادنا ميري يا سادة وليس مدنيا، الإرهاب ببلادنا يا سادة ليس له توجه ديني فهو لا يعرف الله حتى كي يعتنق ديانة.
فإلى متى نظل بيادق تموت من أجل أن يظل الملك تلك القطعة قليلة الحركة عديمة النفع واقفا وحده على رقعة الوطن الممزق؟