عندما أعلن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بأنه سيعيّن مدير مجلس إدارة شركة "اكسون" النفطية ريكس تيلرسون وزيرا للخارجية تعززت الآراء التي تعتبر أن ترامب ذاهب لنسج أقوى العلاقات التشاركية أو التحالفية مع روسيا. فتيلرسون كما هو معروف صديق مقرب من بوتين.
لا شك في أن لهذه الآراء ما يسوّغها من خلال عدة تصريحات سبق وصدرت عن ترامب أثناء معركته الانتخابية أبدى فيها إعجابه ببوتين ورغبته في بناء علاقات وثيقة بروسيا. وقد جنح الأمر بمنافِسته هيلاري كلينتون في معركة الانتخابات الرئاسية إلى نقد تلك العلاقة واعتبرتها خطراً على أمريكا ومصالحها.
من هنا برز السؤال: هل يتوجب اعتبار هذه المؤشرات دليلا على ما سيشهده العالم من علاقات روسية- أمريكية، أم قد يحدث العكس تماما وتنقلب الصداقة إلى نقيضها بعد أن يجلس الطرفان على طاولة التفاوض؟
صحيح أن العلاقات الشخصية بين الرؤساء تؤثر إيجابا أو سلبا، في العلاقة بين دولتين. ولكنها في الحالتين: الإيجاب أو السلب ستظل خاضعة لمدى التوافق أو التقاطع، أو التضاد، بين استراتيجيتيّ الدوليتين. وبالمناسبة ليس ثمة ما هو أسوأ من انقلاب علاقة صداقة، أو "حب"، أو إعجاب، إلى نقيضها.
لأنها ستكون أشدّ عداوة من حالة العلاقات السالبة أو المتعادية أصلا. وهو ما يحدث أحيانا في الحياة العادية حين تنقلب الصداقة إلى عداوة فكيف في حالة الدول؟ بل كيف في حالة الدول الكبرى؟
لهذا يُفترض التروي في الإجابة عن السؤال ريثما يتسلم دونالد ترامب الإدارة الأمريكية ويكشف عن الاستراتيجية التي ستحكم السياسات الأمريكية للمرحلة القادمة.
فقد انتهت منذ ربع قرن تقريبا تلك الاستراتيجية الأمريكية التي قادت أمريكا طوال الحرب الباردة، والتي كانت تتمتع بإجماع داخلي وبتبني الحزبين الجمهوري والديمقراطي لها. فبعد انتهاء الحرب الباردة ومع بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما، لم يعد لأمريكا استراتيجية عالمية، متوافقاً عليها داخليا، وتتسّم بدرجة عالية من التماسك والاستمرارية.
لقد راحت أمريكا مع كل عهد تتذبذب في تحديد أولوياتها بالنسبة إلى روسيا والصين وأوروبا على مستوى عالمي، كما بالنسبة إلى السياسات الخاصة بكل مشكلة إقليمية. وهذا ما سمح لروسيا بوتين على الخصوص، وبلا تدخلات أمريكية وضغوط، أن تمضي في إعادة بناء روسيا الدولة الكبرى بعد أن كانت سائرة إلى الانهيار والتفسّخ في عهد يالتسين. وهو الذي سمح للصين، أيضا، خلال عشرين عاما بأن تخرج من استراتيجية الاحتواء، إلى غزو كل أسواق العالم، وإعادة بناء قدراتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وأمريكا لا تحرك ساكنا.
لقد راحت أمريكا في العهود الثلاثة كلينتون-بوش الابن-أوباما تتخبط في طرح استراتيجيات وسياسات ارتجالية أو وهمية، بعيدا من تحديد دقيق وصحيح (من زاوية أمريكية). بل راحت تهادن روسيا والصين.
مثلا، كيف يجوز لكلينتون أن يُشغل معظم وقته في التسوية عندنا، مستندا إلى منظور بيريز للشرق الأوسط الجديد ويفشل، تاركاً روسيا تتهيّأ لمجيء بوتين وقبله بريماكوف وتاركا الصين تتقدم لانطلاقة جديدة.
وكيف يجوز لجورج دبليو بوش أن يعلن "حربا عالمية على الإرهاب" والذي هو قوّة متواضعة في طورا بورا، أو يذهب لحرب أفغانستان والعراق تحت حجّة "بناء الشرق أوسط كبير جديد" ويفشل فيما بوتين يُعيد بناء روسيا، وفيما الصين والهند وتركيا وإيران وجنوبي أفريقيا والبرازيل، ناهيك عن الدول الثورية في أمريكا اللاتينية والمقاومات والممانعات تحقق الانتصارات وتثبِّت أقدامها.
وكيف يمكن لأوباما الأشدّ خيالية وتخبطا أن يعالج ما خلفه كلينتون وبوش الابن من تراجعات وهزائم وهو الذي لم يستطع أن يحافظ على تماسك علاقات أمريكا بأشدّ حلفائها التاريخيين وثوقا مثل السعودية ومصر وتركيا والفلبين. وحاول أن ينقل الأولوية الاستراتيجية إلى الصين فيما راح ينغمس وزير خارجيته "على غير هدى" في سورية. وكذلك وزير دفاعه في العراق، وناهيك عن أوكرانيا. فكان مثل حراثة الجمل (يحرث ويلبّد).
المقصود مما سبق القول أن أمام ترامب بل أمام البنتاعون وقيادات الأجهزة الأمنية وقادة الحزبين والخبراء الاستراتيجيين والجنرالات المتقاعدين أن يتوافقوا على استراتيجية عالمية لتكون هاديا للسياسة الأمريكية سواء تلاقت أو تعارضت مع تصريحات ترامب التي أطلقها جزافاً هنا وهنالك في أثناء معركته الانتخابية.
هنا ستتقرر العلاقات الروسية- الأمريكية ومستقبلها. ولكن إذا افترضنا أن الوضع الداخلي الأمريكي المنقسم، لم يعد قادرا على رسم استراتيجية عالمية تحظى بالإجماع. ووجد ترامب نفسه أمام طرح استراتيجية خاصة بعهده كما حدث مع الرؤساء الثلاثة الذين سبقوه، فإن العلاقات الروسية – الأمريكية سترتطم بتناقضات جادّة بين الطرفين. فعلى سبيل المثال ماذا يمكن لروسيا أن تقدّم لترامب الباحث عن إنجازات في ما يتعلق بالصين أو إيران إن كان ترامب يريد حصارهما والتضييق عليهما ويريد من روسيا أن تؤيّده أو تقف على الحياد.
فصداقة ترامب لروسيا لن تكون مجانية بل سيطلب منها مقابل الانفتاح عليها أو تلبية طموحها بأن يعترف بها الدولة الكبرى الثانية إلى جانب أمريكا أو كما يشترط بوتين "علاقات تكافؤ ونديّة". ولهذا لا عجب إن راح بوتين يترحم على عداوة أوباما.
هنا ستتقرّر العلاقات الروسية- الأمريكية وتدخل مرحلة الجد والمساومة المتبادلة ولنفترض المتكافئة والنديّة. الأمر الذي يرجح التصادم أكثر من التوافق أو في الأحرى قد يصبح شبيها مع فارق للتوافق والتصادم في آن.
إذا نظر في موضوع التناقضات فإن التناقض بين أمريكا والصين يفترض به أن يكون أشدّ من التناقض بين أمريكا وروسيا. وذلك من ناحية المنافسة على المستويين الاقتصادي والإنتاجي والقدرات عموماً، عدا المستوى الصاروخي- النووي حيث التناقض أشدّ.
ولكن ما يجعل التناقض مع روسيا أكثر احتمالا للتأزم والاشتعال فيرجع أولاً لأن روسيا، خلافا للصين، دولة كبرى تحاول أن تكون منافسة في أوروبا وفي أغلب النقاط فهي دولة كبرى يهمّها نفوذها العالمي. الأمر الذي يجعل احتكاكها مع أمريكا أقوى من احتكاك الصين بأمريكا عدا نقطة واحدة قد تؤدي إلى الاشتعال أو الاحتكاك الأشد وهو تايوان وبحر الصين فعدا هاتين النقطتين يمكن للصين أن تتهرب من الاحتكاك مع أمريكا.
ولهذا فإن التوافق بين ترامب وبوتين لا يقتصر على بلد معين أو منطقة معينة وإنما يشمل خريطة العالم أو في الأدق مناطق كثيرة من العالم. الأمر الذي يجعل العلاقات الروسية الأمريكية مرشحة للتوتر بالرغم من كل الإشارات التي أرسلها ترامب في معركته الانتخابية أو اختياره لريكس تيلرسون وزيرا للخارجية.