تتدحرج كرة جحيم الأزمات المالية والاقتصادية في مصر بشكل مخيف وغير مسبوق، وقد انخفض سعر صرف الجنيه في سوق العملات أكثر من مئة بالمئة خلال عام، في ظل علاقة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي يسودها عدم التفاهم في ألطف التعابير، حيث تَرهن إدارة الصندوق موافقتها النهائية على استئناف دفع القروض لمصر بحصولها على مبلغ ستة مليارات دولار من مصادر أخرى. كما اشترط الصندوق أيضا رفع الدعم عن المحروقات للحصول على قرض الصندوق.
وبالفعل قررت الحكومة المصرية أمس الخميس رفع أسعار المحروقات ابتداء من اليوم الجمعة في خطوة تقضي على قعر حصّالات المواطنين التي صرح الرئيس عبد الفتاح السيسي مرارا بأنه يريدها ويريد الفكة التي فيها لبناء المشاريع الواعدة لمصر الحديثة. علما أن القرار أُعلن عنه بشكل مفاجئ ودون التمهيد للناس قبل رفع الدعم عن المحروقات، التي سترتفع معها بالموازاة أسعار العديد من السلع المتأثرة بها.
وفيما يعيب المراقبون على الحكومة المصرية سياساتها القاصرة عن تجاوز الأزمات أو الحد منها في أضعف الإيمان، يتلقى الرئيس السيسي بصدره الصدمات ويجد نفسه مضطرا للتنقل من منصّة إلى أخرى للتعويض عن العجز الحكومي ببث الروح الوطنية، التي تساعد المواطنين على الثبات في وجه عاصفة الجوع.
فبعد الإعلان الشهير للسيسي عن استعداده لبيع نفسه إذا كان ذلك متيسّرا لأجل مصر، عاد ليضرب من جديد مؤخرا ويعطي المثال على عزة النفس من ثلاجته الشريفة، التي جفاها الطعام طيلة عشر سنوات متواصلة، اقتصر خلالها دورها على تبريد المياه فقط المياه، والله العظيم، يقسم الجنرال.
(نحنا مَناكُلش، حنجوع يعني، آه نجوع..). جوابٌ يقاوم الجوع بالاستعلاء عليه، استخدمه السيسي ذات مرة للرد على سؤال مراسلة تلفزيونية أصابتها الفرحة بلقائه، فسألته عن كيفية الرد على الشائعات التي تتناول مصر، وهي تقصد في أغلب الظن الشائعات التي تُروَّج بأن الجوعَ قادم.. وعاد الرئيس لتطوير الفكرة والمصطلح بعَرض وجداني أجراه في مسرح حاشد، نقل خلاله محادثة افتراضية جرت بينه وبين جمهورية مصر العربية التي حمّلته رسالة إلى أبنائها بأنها لن تتعرض للحاجة بوجودهم، فهُم لن يأكلوا ولن يناموا في سبيل "الروح المعنوية".
لقد أبدع السيسي في حلول "الجنيه" الاقتصادية على طريقة "وان دولار" فطلب من حَمَلة أجهزة الهاتف الخلوي الموبايل أن يُصبّحوا على بلادهم برسائل قصيرة تضمن التبرع بجنيه، ثم أفصح مؤخرا عن رغبته بجمع الفكة لصالح مصر من فروق الفواتير الاستهلاكية الصغيرة في محلات بيع الأغذية والخضار ودوائر المعاملات الرسمية.
لكن هذه الطروحات الاقتصادية الحديثة التي تنتمي إلى فصيلة السّهل الممتنع، فغفلت عنها كبريات المدارس الاقتصادية في العالم الجديد، لم تُميّع خطاب السيسي الاستراتيجي المبشّر بالجوع لكن بكرامة ورضا وحُب، فإذا كان الإعلام المصري يُروج بعد خلع الرئيس حسن مبارك بأن عهد الأخير اتّسم بأن المصريَّ فيه كان له "فم يأكل وليس له فم يحكي"، فإن وسائل الإعلام نفسها روجت في بداية عهد الرئيس محمد مرسي بأنه أصبح للناس "فم يحكي وليس لها فم يأكل"، في إبراز للأزمات الاجتماعية المستجدة. أما في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي فيروّج الإعلام بأن أفواه المصريين اليوم يجب ألا تأكل ولا تحكي، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة بغض النظر عن وجود معركة أو عدم وجودها.
لقد حرص الجنرال السيسي بوجهه الممتلئ الذي يشُعّ بالإيجابية، على التعامل مع الأكل والشرب بمنطلقات صوفية ينحدر معها الكلأ إلى مرتبة حيوانية لا يجب أن تشغل الأشراف، تماما كما العاشقين الذين عبرت عنهم السيدة سميرة توفيق في طقطوقتها الخالدة حين غنّت، لا باكُل ولا بَشرب.. لا باكُل ولا بَشرب.. بَس بطّلع بعيوني.. بالليل يا عيني بالليل.