في مقالة، نشرتها لي "الجزيرة. نت" الأحد الماضي، قلتُ إن تغييب العامل الإسرائيلي في تحليل سياسات عبد الفتاح
السيسي خطأ فادح، يحول دون القدرة على الفهم الكافي لسياسات ومواقف هذا الأخير، وهذا العامل ينبغي أن يكون حاضرًا بداهة، دون الحاجة إلى إثبات وجود علاقات خاصة تربط هذا الأخير بالصهاينة.
إن المنطلق الأساس في التحليل هنا؛ هو الاعتبار الموضوعي المجرّد، قبل أي اعتبار آخر يقوم على تقدير حجم وشكل حضور العامل الإسرائيلي في سلوك السيسي، فمهما اختلفنا في هذا التقدير، تظلّ "إسرائيل" دولة إقليمية خطيرة، تحدّها سوريا ومصر، وترتبط مع الأخيرة بعلاقات سياسية وأمنية واقتصادية، وهي، أي "إسرائيل"، محل مراعاة مقاربات الدول الكبرى لقضايا المنطقة، بما في ذلك الموضوع السوري، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ من أخذها أداة للتحليل، دون أن يعني هذا أنها وحدها تملك طاقة تفسيرية نهائية.
ولا يعني ذلك أيضًا أن "إسرائيل" محلّ خلاف -جوهري أو جذري- بين السيسي والسعودية، فلا ينطوي اعتبار "إسرائيل" عاملاً إقليميًّا مهمًّا في صياغة مواقف السيسي؛ على تزكية للمواقف
السعودية تجاه القضية الفلسطينية، أو تجاه "إسرائيل".
ولكن ذلك يعني، أن السعودية -ومهما كانت سياساتها بخصوص القضية الفلسطينية والوجود الصهيوني في المنطقة- تستثمر في شخص ينطلق من غير رؤيتها ومن غير مصالحها، وهذا استثمار خاسر من حيث المبدأ، سواء تحقق تعارض المصلحة الإسرائيلية مع المصلحة السعودية أم لم يتحقق، وهو متحقق إذا أخذنا في الحسبان أن "إسرائيل" معنية باستنزاف كل الدول العربية، وإنهاكها، وتفكيكها، وابتزازها.
في هذا السياق، وإذ تستغل "إسرائيل" والنخب الأكثر صهينة في الإدارة الأمريكية، الضعف الإستراتيجي الذي تعاني منه السعودية، بتفكّك محيطها في الشمال والجنوب، وانحسار المظلّة الأمريكية عنها، واختلافها مع أمريكا حول القضايا المطوّقة لها؛ من المرجّح جدًّا أن تستخدم "إسرائيل" عبد الفتاح السيسي لابتزاز السعودية، بهدف دفعها للتطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، وهنا يمكننا استحضار أصوات سعودية، تنادي باستمرار للتعاون مع "إسرائيل" لمواجهة الهيمنة الإيرانية، ولتعويض الفقر الإستراتيجي الذي تعاني منه السعودية بتفكّك محيطها.
لكن أين كان خطأ السعودية، في الأساس؟!
منذ دخول
مصر فيما عُرف بـ "الحقبة السعودية"، تعوّدت السعودية، على نمط من الحكّام المصريين، تملك قدرة كبيرة من التأثير عليهم، كان أوضحهم مبارك، ولذلك يمكن أن نفهم الاستياء السعودي، من الموقف الأمريكي بخصوص إسقاط مبارك، وقد ترجمت السعودية موقفها هذا بسلوك عملي، تمثّل في دعم عبد الفتاح السيسي، أرادت به تعويض الحليف الذي فقدته في مصر. (ينبغي ألا يغيب عن الذهن هنا، الهزّة التي صنعتها الثورات العربية وصعود الإخوان المسلمين، ومن ثم دخلت هذه الاعتبارات ضمن الأسباب الأساسية في دعم السيسي).
منذ سقوط مبارك، أدركت السعودية أن ثمة بوادر أمريكية لتخلّيها عن حلفائها في المنطقة، فركّبت جملة من الأهداف في دعمها للسيسي، من محاولة تعويض حليفها السابق، ومحاولة استباق لحظة انحسار الحماية الأمريكية، وبالتالي كان الهدف الأساس من دعم السيسي، أن يكون حاضرًا إلى جانب السعودية في هذه اللحظة تحديدًا، التي تعمّقت فيها التهديدات الإستراتيجية، وتأكّد فيها انحسار المظلة الأمريكية.
إنّ السيسي لم يخذل السعودية في اللحظة التي استثمرت فيه لأجلها فحسب، ولكنه فوق ذلك يعمل على ابتزازها فيها، مستغلاً الانكشاف السعودي الناجم عن تفكّك محيطها، وعن انحسار المظلة الأمريكية عنها، وعن التقدم الإيراني في عمقها الإستراتيجي، وعن أزمتها الاقتصادية كذلك، وعن معرفته بعمل النخب الأمريكية الأكثر تصهينًا على ابتزازها ودفعها لتقديم أثمان من القضية الفلسطينية تحديدًا.
في هذا الفراغ، الذي خسرت فيه السعودية العراق وسوريا، وتخوض فيه حربًا مكلفة في اليمن، ويفتقر فيه الخليج العربي إلى وحدة الرؤية والممارسة، فضلاً عن ضعفه الذاتي، بينما لا يمكن التعويل على بقية الوضع العربي؛ لا تملك السعودية الكثير من الممكنات للافتراق عن السيسي مهما عمل هذا الأخير على ابتزازها.
ستظلّ السعودية إذًا، تدفع ثمن هذا الاستثمار الخاسر، دون أن تملك قدرة كبيرة حياله، وهو الأمر الذي أدركه عبد الفتاح السيسي، فقد استفاد من التمويل السعودي، ثم لمّا تراجعت قدرة السعودية على التمويل، وتراجعت مكانتها الإقليمية، مع تعاظم المخاطر التي تحيط بها، وتراجع مكانتها لدى أمريكا؛ سعى لأن يعوّض تراجع التمويل السعودي، بتقديم الخدمات الأمنية حتى وإن كان ذلك لأعداء السعودية، مع إدراكه بأنها لا تملك الكثير لفعله.
لم يكن خلاف الحكم السعودي مع السيسي حول الموضوع السوري وليد التصويت المصري لصالح القرار الروسي في مجلس الأمن، ولكنه كان موجودًا دائمًا، فمواقف السيسي بهذا الخصوص معلنة منذ مجيئه، إن على مستوى القول أو على مستوى الفعل، فلا جديد في الموضوع السوري ليفجّر الخلاف بهذا الشكل.
صحيح أن علاقات العهد الحالي في الحكم السعودي بدأت بخلافات مكتومة مع نظام السيسي، متعلقة بما قيل عن دور للأخير في محاولة التأثير على ترتيبات الحكم ما بعد الملك عبد الله، وبعمل العهد الحالي على مراجعة سياسات العهد الذي سبقه، إلا أن هذه هي المرّة الأولى التي يصعد فيها الخلاف قويًّا إلى الضوء.
إن كان الأمر كذلك، فمن المرجّح، أن يكون الموضوع السوري هو مجرّد عنوان معلن للخلاف الحالي، وأن تكون المعلومات التي تفيد باكتشاف أسلحة مصرية بأيدي الحوثيين صحيحة، فالسعودية في اليمن تخوض حربًا مباشرة لا تحتمل فيها غضّ الطرف عمّن يمدّ محاربيها بالسلاح، فهذا الشكل من الدعم، هو مشاركة فعلية في الحرب على السعودية، ومع ذلك لا يبدو أن السعودية، بحكم ظروفها الراهنة تملك الكثير لفعله بهذا الخصوص!
لقد كان خطأ السعودية أساسًا، أنها لم تطرح السؤال الصحيح، الذي ينبغي أن يكون: "ماذا بعد إسقاط الإخوان المسلمين؟"، وذلك لأنها، لم تحدّد المخاطر التي تواجهها بشكل صحيح، فهي وإن بدأت تقدّر -حينها- احتمال انحسار المظلة الأمريكية عنها، فإنها جعلت "الخطر الإخواني" أولويتها القصوى، إلى درجة مثيرة للدّهشة، حجبت بها المخاطر الفعلية، والأسئلة التي ينبغي طرحها وتقديم الإجابات الصحيحة لها.
وبناء على هذا الخطأ، غامرت وقتها بالسماح للحوثيين بالتمدّد لضربهم بالخطر الإخواني المفترض في اليمن، وتقيّدت بحسابات سمحت للتحالف الإيراني بفرض وقائع جديدة في سوريا، ولكن الخطأ الأساس في موضوع السيسي، أنها ظنّت أن الحقبة السعودية لم تزل قائمة.
لقد فكّرت السعودية لمرحلة قادمة، بعقلية مرحلة ماضية، فظنّت أن السيسي سيكون على غرار مبارك، من جهة مراعاته للمصالح السعودية، ولم تفكّر جيّدًا في احتمالين مهمّين، ينبغي أن يحدّدا شكل وحجم الاستثمار في السيسي، أو حتى الاستثمار فيه من عدمه.
لم تفكّر السعودية وقتها، في الاحتمال الأول، رغم مؤشّراته الواضحة، وهو إمكانية تراجع قدرتها على التأثير على مصر، مع تراجع ممكناتها، بتعاظم التهديدات التي تواجهها، وتصاعد أزمتها الاقتصادية، وفي واقع من السيولة، تحمل باستمرار المفاجآت والتقلبات، ولا يمكن فيها ضمان ولاء أو ثبات مواقف رئيس فاقد للشرعية والكفاءة، جاء إلى الحكم بانقلاب بعد ثورة شعبية.
أمّا الاحتمال الثاني الذي لم تفكّر فيه السعودية أساسًا؛ فهو إمكانية أن يكون للسيسي الذي قرّرت دعمه مرجعيات وعلاقات أخرى مقدّمة على مصالحها وعلاقاته بها، وهذه المرجعيات كما نفترض بالتحليل الذي قدّمناه سابقًا عدّة مرات، مؤيّدًا بالدلائل والمعطيات، هي مرجعيات إسرائيلية، ولكن كان واضحًا أن العامل الإسرائيلي بصفته تهديدًا كان غائبًا عن التفكير السعودي، ومع الأسف لم يزل.
الفائدة المباشرة المستخلصة من هذه التجربة المريرة، أن من يغيّب العامل الإسرائيلي من حساباته، سيكون خاسرًا في النهاية، واستدراك ذلك لا يكون بالتأكيد بالتطبيع مع الكيان الصهيوني.