مقالات مختارة

هل تَغَيَّر التفكير الفرنسي والبريطاني اليوم؟

سليم قلالة
1300x600
1300x600
نعم. بعد قرن من اتفاقيات "سايكس بيكو"، تَغيَّر التفكير الفرنسي والبريطاني اليوم، ولكن باتجاه الأسوأ وليس الأحسن... يقول الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، كما جاء في كتاب أيمن نور، الموسوم "العالم العربي على موعد مع سايكس بيكو جديد"، الصادر عن "عالم الأفكار": قبل خمسين سنة كُنَّا نَحلم بالوحدتين العربية والإسلامية... أما اليوم فقد أصبحنا نخشى حتى على وحدة كياناتنا الموجودة"... فماذا يخبئ لنا الغد؟ ذلك هو السؤال...

في 9 ماي 1916، أي قبل قرن من اليوم كَتَب السفير الفرنسي "بول كامبون" خطابا سرّيا إلى السير "إدوارد غري"، وزير خارجية بريطانيا يُعلِمه فيه بـ: "أن الحكومة الفرنسية قابلة بالحدود كما حُدِّدت بالخرائط التي وقّع عليها السير مارك سايكس والسيد جورج بيكو (اتفاقية سايكس ـ بيكو) وعلى مختلف الشروط المذكورة أثناء هذه المحادثات. ولقد اتفق على ما يلي" (انظر نص الوثيقة في الكتاب المذكور أعلاه ص 187 وإلى ترجمتها العربية). 

ورَدَّ الوزير البريطاني في الـ 15 من الشهر ذاته برسالة سرية أيضا يطلب فيها ضمانات للإبقاء على "كل الامتيازات والحقوق البريطانية" في المناطق الفرنسية المُتَّفق بشأنها مقابل ضمانات للفرنسيين في المناطق البريطانية"... وفي نفس اليوم رد السفير الفرنسي في مراسلة سرية أخرى يقول: "إن حكومة فرنسا مستعدة للمصادقة على جميع الامتيازات البريطانية المختلفة". ورَدَّ السفير البريطاني يوما بعد ذلك، أي في 16 من شهر ماي 1916، بأن بريطانيا بالرغم من أنها ستتنازل عن مصالح كثيرة، فإنها ولمصلحة الحلفاء جميعا: "مستعدة لقَبول الاتفاق المتوَصَّل إليه الآن شريطة أن يتم ضمان تعاون العرب وقبولهم بتنفيذ الشروط المنصوص عليها، على أن يُمنَحوا حمص وحماة ودمشق وحلب..." وأن يتم تبادل مذكرات تفاهم مع الحكومة الروسية كالتي تمت بينها وبين الفرنسيين في 26 أفريل1916... كما ينبغي مراعاة "مُطالبة إيطاليا بالحصول على حصة في أي عملية تقسيم أو إعادة تشكيل للأراضي التركية في آسيا..."

وهكذا أصبحت اتفاقيات سايكس بيكو قرنا قبل اليوم واقعا، ولكن المفارقة كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي أن تلك الاتفاقيات كانت تتحدث بالنص عن رغبة في إنشاء "دولة عربية أو كونفدرالية دول عربية" لتقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية، الرجل المريض آنذاك. أما اليوم، فإن هذه القوى تَعمل على تقسيم ما جزأته قبل قرن، بعد الذي حصل في السودان ويحصل اليوم في العراق وسورية وليبيا واليمن فضلا عمَّا لا نعرف من مخططات سرية لتقسيم ما تَبَقّى من هذا العالم الذي أصبح يُسمَّى بالشرق الأوسط الكبير... أي إن الفرنسيين والإنجليز تآمروا في القرن العشرين على العرب والمسلمين وخدعوهم (باسم إنشاء الدولة الكونفدرالية الواحدة لاستمالتهم ضد الأتراك)، ثم فرضوا عليهم الحماية والتقسيم والانتداب مباشرة بعد انتصارهم في الحرب العالمية الأولى، ثم اقتطعوا منهم فلسطين لإقامة الكيان الإسرائيلي... وهاهم اليوم في القرن الحادي والعشرين يقومون بتجزئة ما جزأوه في تلك الفترة إلى دويلات أقل حجما، بل بالعمل على تفتيهم أكثر مما هم عليه، من خلال إقحامهم في صراعات وحروب أصبحت تأخذ كل الأسماء والصفات إلا أن تكون قادرة على انتظار وعد أن تُصبح ذات يوم موَّحدة أو كونفدرالية...

ذلك الزمن يكون قد ولَّى ولا يُمكننا إلا أن نَتصوَّر السفير البريطاني اليوم يراسل نظيره الفرنسي أو العكس، إلا للاتفاق على كيفية الاستفادة من نار الفتنة المشتعلة بين السنة والشيعة، وكيفية مَنع أي تقارب إيراني تركي، أو إيراني سعودي، وما الذي ينبغي عمله لشيطنة حزب الله، ولتكفير النظام السوري، وتشتيت المعارضة إلى فرق وأحزاب، والإطاحة بالإخوان المسلمين، والزعم بمحاربة "داعش" التي ستُحيي الخلافة وتُقيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق، فضلا عن تفكيرهم في الدور الذي ينبغي أن يلعبوه مع الحليف الاستراتيجي الأقوى الأمريكان، الذي لم يكن يزاحمهم قبل 100 عام، ذلك أنه لم يعد بإمكانهم اليوم القيام بحرب من دونه، دون أن ينسوا في مراسلاتهم التأكيد على حماية الكيان الذي أنشأوه باسم إسرائيل، وكيف ينبغي أن يستمروا حلفاءه الأبديين لما يُقدِّمه لهم من خدمة جليلة حفاظا على مصالحهم التاريخية في المنطقة...

لا يمكن إلا أن نتصور هكذا سيناريو اليوم في ظل ما نراه من حقائق لم تعد تخفى على أحد، ولا يمكننا إلا أن ننطلق من سيناريو كهذا، يربط بين الماضي والحاضر للنَّظر إلى مستقبلنا كفضاء حضاري وكدول تنتمي إليه بحكم الواقع والتاريخ.

يبدو أنه علينا ضمن هذا المنظور التاريخي والحضاري أن ننظر إلى حالنا وإلى مستقبلنا ومستقبل بلدنا.. لا نتصور أن جوهر رسائل السفراء الفرنسيين أو البريطانيين أو غيرهم سيتغير نحو الأحسن، بل العكس هو الصحيح ستتغير المُسمَّيات ونوعية الخرائط والأساليب المستخدمة. أما الجوهر فإنه سيبقى واحدا يبحث عن مزيد من الهيمنة والسيطرة والمصالح، إلا إذا تمكَّنّا نحن من تغييره.

يكفي أن نُتابع تصريحات الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الأخيرة، ونتذكر فحوى السياسة الغربية تجاه ما سموه بمحور الشر، وطبيعة الحرب العالمية المعلنة على الإرهاب، وما المطلوب مِنَّا فيها، وكذا المئات من المواقف لقادة سياسيين وباحثين استراتيجيين من مختلف الاتجاهات الذين مازالوا ينظرون بعين الريبة إلينا، لنعرف أن وجود مخطط أكبر من سايكس بيكو جديد ليس ضربا من الخيال أو إفراطا في شيطنة الآخر.

محكومٌ علينا أن نُفكِّر ضمن هذا المنطق بعيدا عن وهْم أننا مختلفون في الجزائر أو مصر أو سوريا أو العراق أو إيران أو ماليزيا أو إندونيسيا أو مالي أو النيجر ونيجيريا عن بعضنا البعض. ألم نخضع جميعا لذات الاستعمار الغربي سواء أكان بريطانيا أو فرنسيا أو إيطاليا أو هولنديا أو غيره؟

صحيح، إن الأمر يتعلق بالأساس بنا نحن وبمدى تَخلُّصنا من القابلية للاستعمار وعودتنا إلى مرحلة ما قبل صفين، أي ما قبل سنة 37 للهجرة حيث كانت القيادة شورية بالمدينة المنورة قبل أن تتحول إلى قيادة عصبية بدمشق، على حد تعبير مفكرنا مالك بن نبي رحمه الله (مالك في المرجع أعلاه ص 146)، أي إلى ذلك الحكم الراشد الذي كان فيه المواطن المسلم يبدي رأيه في كل مصالح الأمة لا "الرعية" التي تنحني للتعسف وللبطانة التي تمتدح الحاكم... صحيح كل هذا... إلا أنه علينا أيضا ألا ننسى قراءة الآخر وألا نبقى متفرجين على مسار التاريخ... كتاب أيمن نور جدير بالقراءة بحق...

عن صحيفة الشروق الجزائرية
0
التعليقات (0)