وُلد اتفاق وقف العمليّات القتاليّة في سورية من توافق أميركيّ-روسيّ. فرض خطر تدهور التوتّر الروسيّ التركيّ إلى مواجهة عسكرية مباشرة البحث عن آلية مرحلية لاحتواء الموقف.
وهذا ما يمثلّه الاتفاق: هدنة آنية لتحقيق هدف محدود. فهو لا يحمل مقوّمات الصمود. وفي ضوء تعقيدات المشهد الميدانيّ، سيكون من الصعب الاستمرار فيه أو مراقبة التزامه من أطراف الصراع.
ثمّة تداخل في مناطق نفوذ قوى عسكرية يشملها الاتفاق، وأخرى لا يشملها، مثل "جبهة النصرة"، التي لا تختلف الولايات المتحدة وروسيا على اعتبارها إرهابيّة، بينما ترعاها قوى إقليمية يشكّل موقفها من قرار وقف النار متطلبّا رئيسا لنجاحه. وثمّة فصائل مشمولة في الاتفاق لكنّها حليفة لـ"النصرة" على الأرض، مثل "أحرار الشام"، التي تسيطر مع "النصرة" وفصائل أخرى على إدلب، تحت مظلّة "جيش الفتح" الفضفاضة. وهناك أيضا النظام الذي لن يتوانى عن ضرب أيّ فصيل معارض له، وسيبرّر عمليّاته بادّعاء أنّ "النصرة" أو "داعش" موجودان في المناطق التي يستهدفها.
هذا على المدى القصير. المسألة أصعب على المديين المتوسّط والبعيد. تتوقّف الحروب الأهليّة إما بحسم عسكري، أو اقتناع بأنّ كلفة الاستمرار في الحرب أعلى من ثمن وقفها، أو التوصّل إلى توافق على مخرج سياسيّ مدعوم من القوى الخارجيّة التي ترعى أطرافها. أيّ من هذه العوامل غيرُ متوفر حتّى الآن.
لن يستطيع النظام أو المعارضة حسم الصراع عسكريّا. كلاهما ما يزال مقتنعا أنّ بإمكانه تغيير الحقائق على الأرض بالقوّة، وبالتّالي تعزيز موقفه على طاولة المفاوضات. لا اقتراب في موقفَي النظام والمعارضة من معالم الحلّ السياسيّ الشامل.
ومواقف القوى الإقليمية التي تتحارب في سوريا عبر وكلاء ما تزال أيضا متباعدة. فوق هذا كلّه، ما يزال الشعب السوريّ يدفع الكلفة الحقيقيّة الوحيدة للصراع. الكلفة على القوى الإقليميّة والدوليّة المنخرطة في الأزمة تبقى في حدّها الأدنى.
في ضوء هذه المعطيات، لا يمكن النظر إلى اتفاقيّة وقف الأعمال القتاليّة إلاّ كصفقة ضرورة مرحليّة. انهيارها حتميّ إذا لم تؤطّر في مشروع سياسيّ عامّ يبني أرضية لحلّ دائم تقبل به الأطراف المتصارعة سوريّا وإقليميّا. وهذا ما ستسعى الأمم المتحدة إلى تحقيقه عبر العمليّة التفاوضيّة، التي من المفترض أن تعاود الانطلاق في السابع من الشهر المقبل.
لكن لا شيء يدعو إلى التفاؤل أنّ هذه العمليّة ستنجح. شرط تحقيق النجاح هو توافق أميركيّ روسيّ على مخرجات العمليّة السياسيّة المقترحة، وتوافر الرغبة والقدرة عند البلدين على إلزام الدول الأخرى الفاعلة في الأزمة بها. وهذه مسألة صعبة أيضا. ذاك أنّ المصالح والأهداف متناقضة حتّى بين الحلفاء على ضفتي الأزمة.
أولويّة موسكو وواشنطن اليوم هي محاصرة الصراع في حدود سوريا. ومن الممكن أن يشتري قرار وقف النار لهما الوقت الكافي للتّوصّل إلى صيغة تمنع تدهور التوتّر الروسي التركي إلى مواجهة مباشرة، عبر رسم حدود مناطق تحرّك النظام والأكراد في الشمال والغرب. لكن لا مؤشّر أنّه سيحقّق أكثر من ذلك.
لوّحت أمريكا بالخيار "ب" إذا فشل اتفاق وقف النار. لن يكون هذا الخيار قرارا أمريكيّا بحسم الصراع عسكريّا. آفاقه محدودة في زيادة الدعم العسكريّ للمعارضة، ما يعني تفاقم الحرب ومعاناة أكثر للسوريين.
وهناك تحليلات تشير إلى أنّ الخطة "ب" ستتمحور حول إقامة مناطق آمنة ستمنع أمريكا وحلفاؤها روسيا والنظام من قصفها. لكنّ هذا سيعني شرعنة الوضع القائم، أي تقسيم سوريا مناطق نفوذ. لن يحلّ هذا أزمة سوريا، ولن يؤدّي إلّا إلى مزيد من المعاناة للشعب السوريّ أيضا. وسيتعايش النظام مع حقيقة أنّه لا يحكم إلّا جزءا من البلاد.
وباعتبار أنّ النظام دمّر البلد ليبقى في السلطة، فإنّه لن يمانع أن تتقسّم سوريا، ليبقى الأسد "الرئيس" إلى الأبد.