كتاب عربي 21

متى يعلنون وفاة الاتحاد الاشتراكي؟

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في السنوات التي اصطلح على تسميتها ب"سنوات الرصاص" المغربي، كان مجرد النطق باسم حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" بطولة مثله مثل عدد من التنظيمات اليسارية السرية منها والعلنية. أما الانتماء للحزب ولمنظماته الموازية  فكان تأشيرة مباشرة على زيارة مخافر الشرطة والسجون والمعتقلات.

في العام 2015، وعلى أبواب انتخابات محلية وجهوية ستجري في الرابع من شهر سبتمبر القادم، يبدو أن مرحلة الاحتضار التي دخلها الحزب منذ سنوات توشك على الانتهاء تمهيدا للإعلان على وفاة حزب ظل في السنوات الأخيرة مجرد كيان بلا روح ولا مبادئ ولا رؤية ولا مشروع. فحزب خبر المواجهة الشرسة مع النظام وأجهزته في فترات القمع السياسي بما مثله ذلك من استنزاف للطاقة والجهد والمناضلين، يتمكن منه اثنين من "الأعيان" الطارئين على المدرسة الاتحادية، ويصير التحاقهما بحزب "إداري" مشارك في الحكومة توقيعا على شهادة الوفاة، أهون من أن تنتظر منه "القوات الشعبية" الدفاع عن مصالحها أو الذود عن حقوقها.

في الأسبوع الماضي تأكد خبر انضمام كل من محمد الدرهم وسعيد اشباعتو، وهما قياديان في حزب الاتحاد الاشتراكي كان  تم استقطابهما إلى صفوف الحزب في إطار حملة "الأبواب المفتوحة" التي ابتدعتها القيادة الحزبية بعد أن نضب معين الجامعة والروافد التقليدية التي كانت تمد الحزب بأطره ومناضليه، ولم يبق غير فتح الأبواب أمام الأعيان الذين ألفوا ممارسة السياسة من بابها الانتخابي لا غير. وبما أن الحزب كان قائدا لتجربة حكومية بدت للكثيرين "واعدة"، فقد صار الانتماء إليه وسيلة لضمان رضا الدولة ومؤسساتها ومن خلال ذلك الاستمرار في مواقع التمثيلية السياسية دون عناء.

ليس جديدا حدوث انسحابات أو انشقاقات في حزب "القوات الشعبية" منذ أن قاد هو حملة انشقاق أولية عن حزب الاستقلال في السنوات الأولى لاستقلال البلاد، فكانت ولادة "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" باختياره الثوري، قبل أن يوجه قادة الحزب النافذين وجوههم وجهة استراتيجية النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات منتصف سبعينيات القرن الماضي حيث حمل اسم الحزب الذي استمر معه حتى اليوم. وفي الطريق تساقطت منه أوراق عديدة كتلك التي أفرزت تأسيس "حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي" منتصف ثمانينيات القرن الماضي، تلتها انسحابات هناك وهناك استجابة لمقولة "أرض الله واسعة" التي أشهرها عبد الرحمان اليوسفي، أول رئيس حكومة مغربية يعين من المعارضة، في وجه الأسماء المشاكسة إبان مرحلة التناوب التوافقي فتفرقوا شيعا بين تنظيمات سياسية مجهرية لعل أهمها حزب اليسار الاشتراكي الموحد، الذي يبدو أنه قبل الدخول أخيرا تحت سقف بيت الطاعة المخزني والمشاركة في الانتخابات بشروط السلطة لا بشروط بياناته النارية المكتوبة من مدواة سنوات السبعينيات رغم انحسار المد الثوري الجماهيري. لكن المثير في الموجة الجديدة من "انشقاقات" المكون الأساسي للعائلة الاتحادية هو حصولها أياما قليلة قبل انتخابات محلية وجهوية يُنظر إليها على أنها بالون الاختبار الأهم قبل انتخابات البرلمان القادمة، بما فرض على الدولة العمل على إعادة تدبير المشهد الحزبي المغربي المحتاج إلى أحزاب قوية بحضور انتخابي وازن، لمواجهة ما يمكن تسميته بتمدد حزب العدالة والتنمية وتحالفه غير المعلن مع جماعة العدل والاحسان المحظورة، بالشكل الذي منح نقابة الحزب رتبة متقدمة في انتخابات المأجورين كواحدة من النقابات الأكثر تمثيلية لأول مرة في تاريخها.

ولم يكن إعلان اندماج السلفيين والشيعة المغاربة، قبل أسابيع، في خلطة غريبة داخل حزب الحركة الشعبية الديمقراطية، الميت اكلينيكيا، كمحاولة لبعث الروح فيه من خلال خلط أوراق الأصوات "الإسلامية"  ليمر مرور الكرام خصوصا وأن الحزب المذكور تابع لكوميسير سابق حامت حوله كثير من الاتهامات بممارسة التعذيب في حق معارضي الحكم أيام انتمائه لجهاز الأمن، وكان دخوله غمار العمل السياسي واحدة من أوراق التمييع السياسي التي مارستها جهات داخل الدولة المغربية لسنوات.

محاولة خنق ما تبقى من حزب الاتحاد الاشتراكي تمت قراءتها في نفس اتجاه إعادة هيكلة الحقل السياسي ومنع تشتت الأصوات الخارجة عن الصندوق المضمون سلفا لحزب العدالة والتنمية من خلال ضخ "منشطات انتخابية" لفائدة  حزب التجمع الوطني للأحرار منعا لوصول الحزب "الإسلامي" لعمودية المدن ولقيادة الجهات وهو القائد للتجربة الحكومية  بتحالف مع حزب الأحرار ذاته. فالمعروف أن التحالفات الحزبية المحلية كثيرا ما لا تأخذ بالاعتبار الأجندة الوطنية للقيادة فتشهد خلطات عجيبة تجمع المعارضة بالموالاة وكأن الموجه والمحرك الفعلي خارج دائرة القرار الحزبي.

لم يعد على ما يبدو لليسار في المغرب ما يقدمه، وعلى رأسه حزب "الوردة الذابلة"  بعد تجربة التناوب التوافقي التي أجهزت على ما تبقى من "بكارة" الحزب ومشروعه المجتمعي البديل، بعد أن قبل بشروط لعبة سياسية لم يكن يملك من مفاتيحها شيئا، فانهار الحزب وانهارت معه تجربة يسارية سياسية اشتغلت في العلن واختارت العمل من داخل المؤسسات منهاجا. وقد تكون مرحلة الاحتضار الطويلة والمعاندة التي يبديها الحزب في رفضها الانضمام إلى لائحة التنظيمات السياسية "النائمة" تشكل نوعا من العبء على التوازنات السياسية المطلوبة محليا وإقليميا، وهو الذي كان استدعاه الراحل الحسن الثاني لإنقاذ البلد من "السكتة القلبية" في خطاب تاريخي مهد لأول تجربة تناوب سياسي في المنطقة العربية قبل أي حديث أو مجرد تفكير في "ربيع عربي" تحول بقدرة قادر إلى خريف.

وفي ظل هذا الخريف، تغيرت الأولويات فأصبحت تقوية حزب ليبرالي كالتجمع الوطني للأحرار بموازاة قوة حزب الاستقلال الانتخابية والحضور الوازن لحزب الأصالة والمعاصرة سبيلا ممكنا لمواجهة حزب محافظ كالعدالة والتنمية بنفس أسلحته وخطابه الهوياتي والشعبوي الذي يبدو مؤثرا في الناخبين، بل من داخل أغلبيته الحكومية أيضا.

يأتي هذا مترافقا مع خروج إعلامي غير مسبوق لرئيس الوزراء عبد الإله بنكيران في حوار شامل مع مجلة "زمان" أفرد فيه جزءا هاما، دون مناسبة ظاهرة، لشخص بذاته هو محمد الساسي، الذي شكل لفترة "ضمير" حزب الاتحاد الاشتراكي كقائد للشبيبة الاتحادية قبل أن يشهر عبد الرحمان اليوسفي عبارة "أرض الله واسعة" في وجهه عربون دخول الحزب في مرحلة تدبير جديدة لا تسمح للأصوات "المزعجة" للسلطة من أن تنطلق من داخله، فكان البحث عن كيان بديل حمل اسم "اليسار الاشتراكي الموحد".

لم ينس بنكيران كيف خذله الاتحاديون حين طلب مساندتهم لتجربته الحكومية باعتبارهم الخيار الأول الذي كان ينوي الالتجاء اليه لتقوية عضد فريقه الوزاري لولا أن قيادة الحزب وقتها خرجت ببيان، كان في ظاهره ديمقراطيا لكنه في الباطن حمال قراءات، فاعتبرت أن الجماهير الشعبية اختارت معاقبة الحزب على مشاركته  في التجارب الحكومية السابقة للانتخابات لتسقطه إلى الرتبة الخامسة دليل انحيازها لخيار مجتمعي بديل لا يجد معه غير الالتزام بخيار الشعب والعودة لصفوف المعارضة. كان الهدف على ما يبدو رص صفوف الحزب وإعادة تنظيمه بعد أن نال منه التدبير الحكومي. لكن ما شهدته السنوات الثلاثة الأخيرة أظهر أن لا سبيل لإعادة إحياء جثة تكاد تكون متحللة ولو استعار "مناضلوها" كل مفردات المعارضة والعراك السياسي مع وحش إعلامي شعبوي بوزن عبد الاله بنكيران. وربما يكون الأخير قد فهم أن تركة حزب الاتحاد الاشتراكي معروضة في المزاد بين الفرقاء السياسيين فأراد توجيه رسائل لمن يهمهم الأمر بما فيهم كل الذين لفظهم الحزب ومنهم أولئك الذين اختاروا تأسيس حزب جديد باسم "البديل الديمقراطي" حصل على ترخيص من وزارة الداخلية، هذا الأسبوع، لممارسة العمل السياسي خصوصا وأن دم زعيمهم الروحي أحمد الزايدي كان اختلط بدم قيادي العدالة والتنمية عبدالله باها قبل شهور في حادثي وفاة "غريبين" وقعا في نفس المكان وبفارق أربعة أسابيع لا أكثر.

خلاصة القول أن المشكلة ليست في سقوط فكرة اليسار أو ايديولوجيته، فما رأيناه في دول أمريكا الجنوبية وما يعتمل على الساحة السياسية الأوروبية باليونان واسبانيا كمثال، يؤكد أن لليسار مستقبل إن هو تخلص من "بورجوازيته" السياسية وخطابه الأقرب الى اليمين، وقدم مشروعا شبابيا بأفكار ووجوه تبتعد عن الصورة النمطية لديناصورات الأحزاب المحتكرة للحديث باسم "القوات الشعبية" هنا وهناك وفي كل مكان. والشرط الأهم كف يد الدولة عن التدخل في الصراع السياسي  وترتيب الخريطة الحزبية بما يوافق انتظاراتها، وأن تمتلك الأحزاب استقلالية قرارها، وإلا فالشعار المرحلي سيصير دون منازع "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" منطبقا على الدولة كما الأحزاب على حد سواء.

[email protected]
التعليقات (0)