كتب فهمي هويدي: دعي وفد من المجلس القومي لحقوق الإنسان لزيارة أحدث
السجون التي أقيمت في
مصر (سجن 15 مايو)، وبعد أن طافوا بأرجائه خرجوا منشرحين ومستبشرين، ثم نقلوا إلينا اطمئنانهم في التصريحات التي نشرتها صحف الثلاثاء الماضي (23/ 6)، الأمر الذي كاد يقنعنا بأن فكرة النجوم الخمسة وما فوقها لم تعد مقصورة على الفنادق فقط، ولكنها دخلت إلى عالم السجون.
وخشيت أن يأخذ البعض هذا الكلام على محمل الجد. فيتنافسون على قضاء عطلاتهم في رحاب السجن الجديد أو يحاول آخرون قضاء شهر العسل فيه!
من جانبي اعتبرت إقامة سجن جديد خبرا غير مرحب به، إذ لا أستبعد أن يكون الدافع إلى ذلك هو زيادة الطاقة الاستيعابية للسجون بعدما ضاق المقام منها بالوارد من النزلاء. لذلك أزعم أن استبشارنا كان يمكن أن يصبح أكبر لو أن الخبر تحدث عن تنفيذ خطة لتصفية السجون من نزلائها السياسيين والبدء بإغلاق واحد منها.
لم يكن لدي شك في أن إدارة العلاقات العامة في وزارة الداخلية هي التي رتبت الزيارة، وهو أمر أتفهم دوافعه لأن تحسين صورة الداخلية التي ساءت كثيرا يدخل ضمن اختصاصها. لكن الذي استغربه أن يتصور المسؤولون في الداخلية أن الرأي العام من السذاجة بحيث تنطلي عليه الدعاية فتقنعه بأن مدائح وتطمينات زوار السجن الجديد يمكن أن تغير من الانطباعات المستقرة عنها في الأذهان. وذلك إذا صح فإنه ينتسب إلى تفكير تجاوزه الزمن، حيث لم تعد بيانات الداخلية أو حملاتها الدعائية المصدر الوحيد للمعلومات والمعارف. إذ ينسى هؤلاء أن ثورة الاتصال مكنت كل مواطن من أن يرفع صوته ويرفع شكايته ويبث همه دون رقابة أو مصفاة من أي نوع. آية ذلك مثلا أنه في حين نشر خبر امتداح السجن الجديد، فإن مواقع التواصل الاجتماعي كانت تحفل بالشهادات والهويات التي تتحدث عن معاناة وعذابات الموجودين في السجون، بالأخص الذين ألقي القبض عليهم أو حوكموا لأسباب سياسية.
لدي ملاحظات في الموضوع، لكنني أرجو أن يفهم ابتداء أن المشكلة ليست في السجون ذاتها، ولكنها في الأساليب المتبعة وراء جدرانها. فهي يمكن ان تصبح مكانا تحترم فيه آدمية النزلاء وهي ذاتها يمكن أن تتحول إلى جحيم تنتهك فيه كرامتهم. وهذه الأساليب تخضع للتعليمات، والتعليمات صدى للسياسات والتوجيهات العليا. وكقاعدة فإن التنكيل والإذلال والهوان تظل من نصيب السياسيين دون الجنائيين. والأجانب لهم وضع خاص في الحالتين، لأن لهم دولا ترعاهم واتفاقات دولية تحميهم، أما المصريون فلا صاحب لهم والله وحده كفيل بهم. والثابت أن السياسيين قبل ثورة عام 52 كانوا يلقون معاملة خاصة وعادة ما كانوا يودعون في سجن «الأجانب»، الأفضل حالا والأكثر تميزا. أما بعد الثورة فإن ذلك التمييز اختفى، وأصبح المسجون السياسي كائنا منبوذا يخضع لأحط معاملة. في حين يتفوق عليه في المعاملة المسجونون في قضايا المخدرات والدعارة والسرقة أو النشل!.
وملاحظاتي تنصب على تلك الفئة المنبوذة التي لا نعرف لها عددا، لأن الرقم تتكتمه الجهات الأمنية، في حين يتحدث الحقوقيون المستقلون عن أنهم ناهزوا أربعين ألفا. وقد استقيت ملاحظاتي من حواراتي مع بعضهم إضافة إلى آخرين من المحامين الناشطين في ذلك المجال. وهي تدور حول أمرين هما:
< إن السجون في مصر عالم آخر له خرائطه الخاصة المسكونة بالغوامض والأسرار. فهي أنواع ودرجات، إذ إن بعضها تابع لمصلحة السجون، معروف اسمه وعنوانه. وداخل هذه الشريحة سجون لها وضعها الخاص من حيث الشدة والقسوة، ويودع فيها من يصنفون ضمن الخطرين أو الذين يراد اخضاعهم لدرجة أكبر من التنكيل، إذ إضافة إلى سوء المعاملة الذي يصل إلى حد منع الأدوية عن المرضى، فإن الزيارات تمنع عنهم، ليس الأهالي فقط ولكن المحامين أيضا. وعادة ما يشار في هذا الصدد إلى سجن العقرب وملحق مزرعة طرة. ورغم ان جهاز الأمن الوطني له دوره في سجون السياسيين إلا أن هناك سجونا أخرى خاضعة بالكامل لذلك الجهاز ولا علاقة لمصلحة السجون أو النيابة العامة بها. وفي رأي المحامين أن ضحايا الاختفاء القسري يحتجزون في تلك السجون الأخيرة. حيث يخضعون للتحقيق فيها من خلال استخدام الأساليب التي نعرفها قبل تقديمهم للنيابة ونقلهم إلى السجون العلنية. وهناك سجون ثالثة غير معروفة الاسم أو المكان. ويقول المحامون انها ليست تابعة للداخلية ولا للأمن الوطني، ولا تتحدث عنها وسائل الإعلام المصرية، في حين أن بعضها أشارت إليه الصحف البريطانية (الغارديان نشرت في 22/ 6/ 2014 تقريرا مفصلا عن سجن غير مسجل وغير معروف باسم العزولي).
< هذا العالم كله محظور على المنظمات الحقوقية المستقلة التي لا يسمح لها باجتياز أبوابه. وحده المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي شكلته الحكومة هو الذي يتاح له ذلك. وإلى جانب أن زيارات أعضاء المجلس الأخير يتم التلكؤ في الاستجابة لها. فإنها إذا تمت تكون مقصورة على لقاءات الجنائيين وليس السياسيين، الذين لا يسمح بالتحدث إليهم إلا بصورة استثنائية. وفي كل الأحوال فإن الزيارات تظل تحت إشراف ضباط جهاز الأمن الوطني. وهو ما يعني أن حقيقة ما يجري للسياسيين داخل تلك السجون ليست معلومة، علما بأن الحرص على تكتمها يثير التساؤل ويبعث على الارتياب.
ملف السجون كبير، وما ذكرته يسلط الضوء على بعض فصوله التي نخطئ إذا حملنا الداخلية أو المؤسسة الأمنية بأوزارها. ذلك أنها إذا كانت مختبرا لتفعيل القانون بالنسبة للكافة، إلا أنها بالنسبة للمنشغلين بالشأن العام مختبر لتفعيل السياسات العليا. وبتعبير أكثر دقة، هي أفضل معيار تقاس به حظوظ قيم العدل والحرية والكرامة الإنسانية.
(عن صحيفة الشرق القطرية- الخميس 25 حزيران/ يونيو 2015)