جامع الزيتونة هو ثاني الجوامع التي أقيمت بإفريقية -التسمية القديمة للبلاد
التونسية- بعد جامع عقبة بن نافع بالقيروان. ويُنسَب أمرُ تشييده إلى حسّان بن النعمان فاتح تونس سنة 79 هـ، فيما يُنسب أمر اتمام عمارته وزيادة توسعته وضخامته سنة 116هـ إلى عبيد الله بن الحبحاب وَالِي هشام بن عبد الملك الأموي على إفريقية، حسب ما يُرجِّحه أغلب المؤرخين لأنه لا يُحتمَل -منطقا- أن تكون مدينة تونس قد بقيت قرابة أربعين سنة (ما بين فتحها سنة 79هــ وسنة 116هـ) بدون جامع.
كما يُعَدُّ جامع الزيتونة أول جامعة إسلامية شُيِّدت في التاريخ الإسلامي (قبل جامع الازهر بمصر والقرويين بالمغرب)، ويرتاده-اليوم-آلاف طلبةِالعلم فيما يتّسع مقره الرئيسي بالمدينة العتيقة بالعاصمة تونس لنحو 8 آلاف مُصَلّي، ولديه قرابة 26 فرعا داخليا وفرع آخر بالعاصمة الليبية طرابلس-حسب ما صرح به رئيس مشيخته الشيخ حسين العبيدي.
ورغم مكانته العلمية وأفواج العلماء والفقهاء الذين تخرّجوا منه ومرّوا بمشيخته وبالتدريس فيه حيث تخرّج منه كبار الفقهاء والعلماءالأفذاذ كالعلّامة ابن خلدون وابن عرفة ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير ومحمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر سابقا، الا أنه لم يسلم من هجمة مؤسس "الدولة الحديثة" بورقيبة الذي جعل أول "إنجازاته" غداة تمكُّنِه من الحكم اغلاق الزيتونة مع مصادرة أملاكه متمثلة أساسا في الحُبُس والأوقاف، وتشريد خِرّيجيه وإلغاء التعليم والتدريس فيه بحجة توحيد مناهج التعليم، فكانت سنة 1965 سنة "النهاية الفعلية" لإشعاع منارة الزيتونة على العالم وانطفاء شعلتها العلمية، فلمّا جاءتالثورة انصفت هذا الصَرْح ورمزيته بأَنْ أعاد له القضاء اعتباره ومكانته ومكّنه من مواصلة مهمته العلمية، الا أنه لم يسلَم من موجة الانفلاتات التي عصفت بالبلاد اعقاب هروب (بن علي) وانهيار نظامه.
فبالرغم من استبشار التونسيين بالاتفاق الحاصل يوم 12 مايو 2012 بين مشيخة الجامع الأعظم والدولة ممثلة في ثلاثة وزراء، هم وزير التعليم العالي والبحث العلمي ووزير التربية والتعليم ووزير الشؤون الدينية والذي بمقتضاه أصبح جامع الزيتونة مؤسسة مستقلة وسُمِح بإعادة التعليم الزيتونيالى سالف نشاطه، الا أن مؤسسة الجامع الأعظم قد انزلقت-لاحقا-في متاهات التجاذب وأوصلتها الخصومات الى عتبات القضاء والمحاكمفي مواجهة الدولة ممثلة في سلطة الاشراف/وزارة الشؤون الدينية مع دخول عدّة أطراف ساحة التجاذب والصراع.
يمكن ارجاع مسائل الخلاف بين مشيخة الجامع الأعظم والدولة الى أسباب مباشرة وأخرى خفية غير معلَنة.
أمّا الأسباب المباشرة فتتمحور أساسا حول مكانة مؤسسة جامع الزيتونة ودورها المستقبلي وحول الأحقية في تسييرها. ففي حين ترى مشيخة الجامع ممثلة في الشيخ الحسين العبيدي أنه وبمقتضى الوثيقة المبرمة في (12 مايو 2012) المسجلة بإدارة التسجيل بتونس يوم 21 مايو 2012 والتي وقع إشهارها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
و بذلك تكون قد استوفت شروطها لِتُصبح غير قابلة للطعن لفوات أجل الطعن الذي لا يتجاوز بمقتضى القانون العشرين يوما طبقا للفصول 242 و243 و547 من مجلة العقود والالتزامات التونسية،بمقتضى ذلك أصبح سند استقلالية جامع الزيتونة عن
السلطة سندا قانونيا(مجلة العقود والالتزامات التونسية)، ومن غير الممكن العدول عنه، وتبعا لذلك فإنها-المشيخة-تستثني جامع الزيتونة عن بقية الجوامع لأن لديه الاستقلالية الإدارية والمالية، وترى إنه يماثل في حجمه التاريخي جامع الأزهر الشريف بل إنه أعرق جامعة إسلامية في التاريخ وحَرِيٌّ به أن يستعيد بريقه لِيُماثل الأزهر في تلقين المعارف والعلوم، وتَعِدُ بأنها ستعمل على دعم كل الاختصاصات التعليمية بالزيتونة ليعاود الجامع إشعاعه المعرفي، وتطالب تبعا لذلك باسترداد ممتلكاته التي استولت عليها الدولة في عهد بورقيبة.
في المقابل قرر وزراء الشؤون الدينية والتعليم العالي والبحث العلمي وتكنولوجيا الاتصال والتربية سحب أحكام وثيقة استئناف التعليم الزيتوني المؤرخة في 12 ماي 2012 لمخالفتها لمقتضيات القانون التونسي حسب تقديرهم. وجاء هذا القرار وفق بلاغ لوزارة الشؤون الدينية بناء على رأى رئاسة الحكومة السابق -المهدي جمعة- في مشروع الوثيقة من ناحية والذي ينص على عدم قانونيتها شكلا ومضمونا ومن ناحية أخرى على الوثيقة التوضيحية التي أصدرها وزراء التربية والتعليم العالي والبحث العلمي والشؤون الدينية في 7 سبتمبر 2012 والتي أوضحوا من خلالها أن وثيقة استئناف التعليم الزيتوني الأصلي انما هي وثيقة أدبية رمزية تشفع لاحقا بوضع برنامج كامل للتعليم الزيتوني وتنظيمه من قبل هيئة علمية يتم تكوينها بالاتفاق في ما بعد ودون أن يترتب عليها أي مفعول قانونيا.
واعتبرت وزارة الشؤون الدينية في بلاغها أن قرار السحب جاء متناغما مع القانون ومطبقا لمقتضياته باعتبار أن وزارة الشؤون الدينية هي السلطة الوحيدة المؤهلة للنظر في جميع المسائل المتعلقة بجميع المساجد دون استثناء طبقا لمقتضيات القانون عدد 34 لسنة 1988 المؤرخ في 03 ماي 1988 المتعلق بالمساجد وطبقا للأمر 597 لسنة 1994 المؤرخ في 22 مارس 1994 المتعلق بضبط مشمولات وزارة الشؤون الدينية.
ولَـفَتَ البلاغ الى أن ضبط المبادئ الاساسية لمرفق التعليم يدخل في مجال القانون وليس اختصاصا قطاعيا للوزارات المعنية وذلك طبقا لأحكام الدستور والقوانين الجاري بها العمل.
إذن يمكن ارجاع الصراع-في ظاهره-بين السلطة التونسية والشيخ حسين العبيدي، إمام جامع الزّيتونةالى اجتهاد في فهم مدلول وثيقة التفاهم ومدى قانونيتها وما يستتبع هذا الفهم من استقلالية أو تبعية الجامع الأعظم ثم الأحقية في الاشراف عليه والتعليم فيه.
ففي الوقت الذي ترى فيه الدولة أن وثيقة سنة 2012 (اتّفاق بين الوزارات المعنية وشيخ جامع الزّيتونة تقضي بإعادة التعليم الزّيتوني) لا ترتقي إلى أن تكون وثيقة قانونية وهي مجرّد (وثيقة رمزية)منبهة الى أنها ستواصل اتخاذ كل الاجراءات القانونية لمن يتصدى لقراراتها الادارية باعتبار أن كل بيوت الله ترجع اليها بالنظر، فان الشيخ العبيدي يعتبر الوثيقةحكما رسميا،.
كما يؤكد أنه يملك من الوثائق ما يكفي لإسناد قرار إعادة استئناف التعليم الزيتوني، وأنه تمّ القيام بإجراءات ومنها تخصيص الهيئة العلمية وإعادة الاسم الأصلي لها أي مشيخة الجامع الأعظم وفروعه لتصبح كلّ الأمور منظّمة وفق عقود مع وزارات التعليم العالي والتربية والشؤون الدينية، بأن الزّيتونة مؤسسة إسلامية علمية تربوية مستقلّة عن الدولة والتعليم الحكومي غير تابعة للدولة وليست سياسية.
وكان من مضاعفات هذه الخلافات أن سحبت الوزارة-في وقت سابق-من الشيخ العبيدي منصب الامامة وأعلنت في بلاغ لها عن تعيينها لإمام خطيب من منظوريها لإمامة صلاة الجمعة في جامع الزيتونة المعمور كتحدٍّ-على ما يبدو-لرفض امام الجامع الاعظم منذ ثلاث سنوات الشيخ حسين العبيدي لقرار تعويضه من قبل سلطة الاشراف.
وقد أوضح رئيس ديوان وزير الشؤون الدينية السابق عبد الستّار بدر جوهر الصراع حول الشرعية والاحقية في تسيير الجامع حين صرّح بإن "المشيخة كان لها رئيسها والمنبر كان له إمامه وإن ما يهمّ الوزارة في هذه المسألة هو المنبر"• واعتبر بدر أن "جامع الزّيتونة يلعب وظيفتين، الأولى تعبدية شأنه في ذلك شأن بقّية المعالم الدينية والمساجد وأخرى علمية وله في ذلك مشيخته، والوزارة لا دخل لها في الجانب الثاني باعتبار أن القانون يسمح للوزارة بالإشراف على كامل المعالم الدينية وليس هناك استثناء في القانون".
وأشار إلى أن "الوزارة طالبت بأن يكتفي شيخ الجامع الأعظم بالمشيخة الدينية (الجانب التعليمي)، وأن يعيد الجامع إلى سلطة الإشراف، لكنه أبى وتجرّأ على شتم الوزارة"، مذكرا بأن المشايخ القدامى مثل العلامة الراحل محمد الطاهر بن عاشور كان يدرّس بجامع الزيتونة دون اعتلاء المنبر.
كذلك تحوم شكوك وشبهات حول أعضاء من الهيئة العلمية لجامع الزيتونة ومدى ارتباطهم بالسلطة ومحاولتهم القيام ب"انقلاب" على المشيخة حيث أصدروا يوم 21 جانفى الفارط بلاغا أعلنوا فيه عزل العبيدي مستندين في ذلك الى ما وصفوه بارتكاب الاخير لتجاوزات قانونية وأخلاقية خلال فترة توليه مسؤولية رئاسة الهيئة العلمية لمؤسسة الزيتونة.
من ذلك ما صرّح به علي العويني وهو أحد شيوخ الزّيتونة الذين انشقّوا عن الشيخ حسين العبيدي،"إن العبيدي لا يملك أي مؤهلات علمية كي يرأس مشيخة جامع الزيتونة"، واتهمه باستغلال المنبر لِبَثّ الفتنة والتحريض ضد السياسيين والإعلاميين والمثقفين. كما اتهمه بـ"التشدد" وجمع مشايخ متعصبين من حوله، الأمر الذي "أعاق تطوير التعليم الزيتوني الذي بقيت آفاقه غامضة ومُبهَمة بسبب رفض الحوار مع السلطة والقائمين على التعليم" حسب زعمه.
كما أضاف علي العويني إن العبيدي "قام بطرد تعسّفي في حقّ الطلبة والشيوخ، وهي عملية تكرّرت عديد المرّات وشملت ما لا يقلّ عن 20 من شيوخ الزّيتونة"، وأن "ذلك دفع عددا من الشيوخ إلى الابتعاد والانشقاق عنه وسحب ثقتهم منه لأنه لم يكن يحترم النّظام الداخلي للمؤسسة، فجامع الزّيتونة مؤسسة إسلامية علمية تربوية مستقلّة بينما هو خرق هذا المبدأ بهجومه على الجميع"، ولكن العبيدي نفى تلك الاتهامات ولم يعبأ بقرارهم واتهمهم بأنهم "بيادق" و"عملاء" للوزارة، وأكد أن التعليم الزيتوني بدأ يسترجع أنفاسه، بوجود أكثر من سبعة آلاف طالب يتوجهون إلى التعليم الزيتوني لدراسة مواد تعليمية مختلفة بفروعه الـ 26 في البلاد، ويرى أن لُبّ الصراع يكمن في أن "سلطة الإشراف تريد وضع اليد على المؤسسة ونحن نعارض هذه الفكرة بشدة ونطمح إلى إحياء دورها كمنارة للعلم والمعرفة الذي فقدته منذ أقر رئيس الجمهورية التونسية (الراحل) الحبيب بورقيبة توحيد التعليم عام 1965."
هذا عن الأسباب الظاهرة والمباشرة، أما الخفية فيلخّصها الشيخ حسين العبيدي في قوله:"جامع الزيتونة تعرّض لضربات عديدة، آخرها رغبة الدولة في سحب وثيقة استئناف التعليم الزّيتوني جرّاء ضغوط خارجية"،موضّحا:"في الظاهر نرى أننا في تونس انتقلنا من حكم إلى آخر، لكن في الخفاء العكس هو الصحيح، فالحكمُ فرنسيٌّ تُـمْلي فيه فرنسا ما تشاء"، معتبرا إن قرار الحكومة سحب وثيقة استئناف التعليم الزيتوني إنما هو "قرار خاضع لضغوط خارجية، أي أن الدولة وكأنها تحت ضغوط خارجية منها فرنسا أرادت أن تفسخ هذه الوثيقة"،كما تمادى في اتهامه للحكومات المتعاقبة التي انقلبت على ذلك الاتفاق وحاولت استبعاده والاستيلاء بالقوة على الجامع لطمس دوره في التدريس ونشر العلم، وذلك استجابة لإملاءات وضغوطات فرنسا.
وقال إن وزارة الشؤون الدينية "تُعِــدُّ العدة لعزله بالقوة، خارقة بذلك أحكام القضاء التي كرست استقلالية جامع الزيتونة عن الدولة"، وأكد أنه لن يتنازل أمام "المخططات الجهنمية لوأد التعليم الزيتوني"مُنبِها: "الآن نشتمّ من رائحة ما تفعله أنها ستتبع أسلوب العنف، وبذلك نعود إلى عهد دكتاتورية الدولة"، ولم يخِبْ حدسه حيث أقدمت السلطات الأمنية وبموجب حكم قضائي صادر عن المحكمة الاداريةفي 23 شهر جانفي المنقضي، أقدمت يوم السبت 28/03/2015على اقتحام حرم الجامع الأعظم واعتقال بعضٍ من مشيخته وطلبته وكسر واستبدال اقفاله، مُستغِلّة على ما يبدو الظرف الأمني المتوتر والشحن الشعبي تجاه الإرهاب والانشغال العام بآثار واستتباعات عملية باردو الارهابية...لِتُنصّب لاحقا لطفي الشندرلي اماما جديد الجامع الأعظم بالزيتونة، عِلْما وأن الشندرلي هو الإمام الذي أمّ المصلّين يوم عيد الفطر بساحة باردو في اعتصام الرحيل الذي نظّمته الجبهة الشعبية اليسارية وحلفاؤها مناهضَةً لحكومة الترويكا ذات الأغلبية الاسلامية، وهو ذاتُ الامام الذي إتهمه الشيخ حسين العبيديسابقا بأنه عُزل من الإمامة بعد إعتدائه جنسيّا على قاصر بكتّاب مونفلوري من ضواحي العاصمة.
في المقابل تنفي السلطة هذه الاتهامات مؤكدة أن الوزارة ليس لها إشكال مع عودة التعليم الزيتوني شرط أن يكون هناك اتفاق مع الدولة بشأن مناهج التعليم والشهادات العلمية، معتبرة أن التعليم الزيتوني الحالي "مخالف لمنظومة التعليم المعتمدة، ومتعهّدة بأن قرار الغاء وثيقة التعليم الزيتوني لا يعني تراجع الوزارة عن استئناف التعليم الزيتوني الأصلي، معربة عن كامل استعدادها للتنسيق مع الهيئة العلمية التي سيتم انتخابها والمساهمة في وضع الاسس المتينة لهذا التعليم وذلك بإرساء هيكلته واقرار برامجه التي يجب أن تكون متناغمة مع منظومة التربية والتعليم الوطنية. كما تُصِرّ الوزارة حسبما صرّح به مدير ديوان وزير الشؤون الدينية-السابق-عبد الستار بدر على أن جامع الزيتونة يخضع قانونيا لإشراف الوزارة، متهما حسين العبيدي بـ"التمرد على القانون بسبب خلطه بين التدريس والمنبر".
من جانب آخريتهم معارضو حسين العبيدي بأنه يريد استنساخ تجربة الأزهر في تونس دون مراعاة للفوارق والخصوصية المصرية، مستفيدا–حسب زعمهم-من خطة أقرتها حكومة النهضة للالتفاف على التعليم المدني( !!)، وتشجيع شبكات التعليم الديني الموازي بما يسهّل عليها السيطرة على عقول الشباب، ويرَون فيه-العبيدي-ذراعا للنهضة داخل مؤسسة الجامع الأعظم، وأنه لا زال يتمتع بحصانة وحماية شخصيات نافذة في الحركة، وقد فات هؤلاء أن الحسين العبيدي كان قد دخل في خلافات مع حكومة الترويكا متهما حركة النهضة بضرب العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي للبلاد.
ونحن نرى أن جوهر الصراع هذا ليس الا شوطا اضافيا ومواصلة لما أقدم عليه بورقيبة من تبخيس لدور الزيتونة وتحجيما للحضور الديني في المشهد العام، فالذين يتكالبون-اليوم- على الجامع الأعظم ويتهمون الشيخ العبيديهم في أغلبهم نفس الذين انخرطوا بالأمس مع (بن علي) في سياسة الاستئصال وتجفيف المنابع،ها هم اليوم يعاودون محاربة المدارس القرآنية ويُغلقون الجمعيات الخيريّة ورياض الأطفال بنفس الذرائع: تجفيف منابع الإرهاب والتطرف، هم الذين استماتوا في التصدي لتركيز المالية الإسلامية والحُبُس والأوقاف في بلادنا، هم الذين ثارت ثائرتهم ضد الفصل الأول من الدستور لمجرّد ذكر كلمة الشريعة، وضد قدوم بعض المشايخ والوعّاظ، هم دُعاة "النمط" والحداثة المغشوشة والالحاق الحضاري بالغرب، هم الذين يخشون عودة الشعب الى دينه والتزامه بهويته، ولم تكن بعض تجاوزات الشيخ حسين العبيدي الا ذريعة لمحاولة تصفية التعليم الزيتوني قبل ان تقوى عوده فيستعصي على الاجتثاث.
هذا وتذهببعض القراءات المُطّلعة على كواليس ما يعتمل داخل مؤسسة جامع الزيتونة المعمور الى أن الشيخ حسين العبيدي كان ضحيةَ صراعٍ آخر أعمقَ من صراعه مع الدولة حول الشرعية والتدريس داخل مؤسسة الزيتونة، وهو ما تركه يصارع وحيدا في "العراء" عقب تخلّي بعض زملائه من المشايخ عنه في مواجهته مع السلطة بل أغراهم بالخروج والتجريء عليه، صراع يستند الى ما يشبه عقلية الجهويات والعروشية وهي عقلية "الاصطفاء" أو "الصفوة والشَّرف"، حيث ثبت تاريخيا أن امامة الجامع الأعظم وادارته كانت حِكرا على "الشُّرْفَة" (النُّسباء والوُجهاء الذين يَصِلون في نسبهم الى آل البيت فيما يدّعون)، وأن الشيخ العبيدي قد أزاحهم من "عرش" الزيتونة بتصدّره للإمامة والمشيخة في الجامع الأعظم في آنٍ واحد رغم أنه لا يحوز على جانب يُذكر من "الشرف" اعتبارا لأنه من "الأعماق" أو ما يُعبَّر عنه-تندُّرًا- بما "وراء البلايك"، فالشيخ حسين العبيدي يرجع في أصله الى جهة الجريد من الجنوب التونسي وبذلك "لا يحقّ" له تولّي ما هو "حِكرٌ" على غيره.
ومهما تكن خلفيات ودواعي الصراع وأطرافه فانه من المهم في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها بلادنا والأمة الإسلامية عموما من تمدّد لقوى التطرّف والإرهاب أن يستعيد جامع الزيتونة مكانته واستقلاليته في نشر تعاليم الدين الإسلامي وترسيخ قيم الاعتدال والتسامح ونبذ التطرف بعيدا عن كل توظيف أو متاجرة أو أجندا حزبية أيديولوجية أوسياسية ، فهذه الصراعات كادت تنسي الكثيرين جمالَ هذا المَعْـلَم بما يختزنه من ثراء وتاريخ يشهد عليه العالم العربي والإسلامي في كامل أنحاء المعمورة، وبما يحمله من أبعاد حضارية وفكرية، ولما يُمكن أن يلعبه جامع الزيتونة من نشرٍ لِقِــيَم الاعتدال والوسطية والتسامح والتنوير، لأنه ما انتشرت أفكار التطرف وما لاقت رواجا وتمدّدا الا لتقلّص فكر الوسطية وقوى الاعتدال ولتراجع دورها وتأثيرها في الجمهور.