لم يشفع موت مواطن سوري غرقا في البحر، لزوجته حتى لا يعتقلها النظام، الذي لم يصدق أنه مات في البحر الأبيض المتوسط، مع العشرات أثناء رحلتهم إلى أوروبا هربا من البطش والاستبداد. ورغم كل أنواع التعذيب الذي تعرضت له الزوجة في المعتقل لكي تعترف على زوجها، فإن أكثر ما آلمها أن من وشى بها لأجهزة مخابرات النظام، هو صديقتها المقربة التي تعرف كل أسرارها.
"لبنى" سورية قوية الشخصية، مثقفة، من حلب الشهباء تزوجت ضابطا كان يخدم في جيش النظام، قبل بدء الثورة في
سوريا، وأنجبت منه ثلاثة أبناء، ومع تصاعد قمع النظام لمعارضيه، وجد الضابط أن استمراره في عمله مع النظام خيانة للوطن والشعب، وغدا الخيار أمامه صعبا جدا ومكلفا، ولكنه لم يجد بداً منه.
قرر زوج "لبنى" الانشقاق والهرب برفقة زوجته وأولاده إلى تركيا، في رحلة محفوفة بالمخاطر، وبعدها حاول الضابط المنشق أن يجد له مكانا في صفوف الجيش الحر، ولكن الضباط المنشقين غالبا ما ينظر إليهم بريبة من قبل المقاتلين المعارضين، ولا يسمح لهم بممارسة أي عمل عسكري، بسبب الشكوك حول ولائهم للثورة.
الوداع الأخير.. والقلب المحترق
تقول "لبنى" في حديث خاص لـ"عربي21": "واجه زوجي خيارا صعبا آخر، بعدما أوشكت مدخراته على النفاد؛ إما أن ينضم لغيره من الضباط المنشقين المتواجدين بلا أي عمل في المخيمات على الحدود التركية، بعد أن أصبحت العودة إلى سوريا مستحيلة، ووجوده مع المقاتلين في الداخل غير مرغوب به.. أو أن يهاجر إلى أوروبا بطريقة غير شرعية، وهذا ما قام به حيث جمع كل ما تبقى لديه ولدى عائلته من مال وخاض البحر، بعد أن لفظه البر وضاقت عليه الأرض بما رحبت".
وتضيف "لبنى" قائلة: "ودعته الوداع الأخير، وقلبي يحترق خوفا وقلقا عليه، ووعدني بأن يصل إلى أوروبا ليؤمن لنا مستقبلا أفضل، وسيرسل أحدا لاصطحابنا إليه، ولكن بعد فترة قصيرة من مغادرته بدأت تتوارد الأنباء عن غرق مركب قبالة الشواطئ الإيطالية، وهنا بدأت النار تأكل قلبي، وشعرت أن حياتي كلها غرقت كما غرق هذا القارب في البحر، حيث علمت أن زوجي وشريك حياتي ابتلعته مياه البحر المتوسط، وابتلعت معه آخر آمالنا في العيش الكريم الآمن".
الاعتقال والتحقيقات في المخابرات
تضيف "لبنى": "ملأني الحزن، واضطررت أن أحمل أولادي وأعود إلى حلب، فقد ظننت أنه لا يوجد ما يمنعني من العودة بعد وفاة زوجي الضابط المنشق، فقد أصبح الآن في ذمة الله، ولم يحظ حتى برفاهية قبر يضم جسده الشريد، ولو في أي أرض وعلى أي تراب، ومرت الأيام عليّ عصيبة جدا، تحت سلطة النظام الذي أجبره على الخروج من البلاد حتى لا يصبح شريكا في القتل، ولكن هذه لم تكن كل أحزاني، فالسوريون أصبح قدرهم المزيد والمزيد من الآلام".
الحظ العاثر لم يفارق "لبنى"؛ ففي إحدى الليالي سمعت طرقا قويا على باب منزلها، فشعر أطفالها الصغار بالذعر، وإذا بقوات الأمن تقتادها للتحقيق إلى فرع المخابرات أمام صغارها.
جميع أنواع التعذيب المروعة
وتقول "لبنى": "تعرضت هناك إلى جميع أنواع التعذيب المروعة، ولم تفلح كل محاولاتي لإقناعهم بأن زوجي مات، وكان مطلوبا مني أن أدل النظام على مكان اختبائه، وكيف لي أن أعرف في قعر أي بحر انتهى هذا المسكين؟! وبعد مضي فترة من التحقيقات المضنية اقتنعوا بوفاة زوجي، فكانت تهمتي الجديدة أني لم أبلغ عنه، وقال لي المحقق، إنني لو كنت مواطنة صالحة لكنت سلمت زوجي وأخبرت النظام عنه! وكيف أستطيع أن أسلم زوجي الحبيب لمن أعلم أنه سيقضي عليه؟ لكنني سلمته للبحر وليتني ما فعلت".
بعد مرور شهرين اقتنع ضباط المخابرات بأنه ليست لدى "لبنى" ما تضيفه لهم من معلومات، فقرروا إطلاق سراحها، وهنا عادت إلى أطفالها الذين حرموا منها بعد أن حرموا من أبيهم فيتموا مرتين، على حد قولها.
الصديقة المقربة.. خائنة
وتقول "لبنى": "قبل خروجي من المعتقل وقعت التعهد بعدم التستر على المخربين، وأخبرني أحد الضباط الذي يبدو أنه تعاطف معي، أن من قام بالإخبار عن عودتي إلى سوريا وكافة تفاصيل قصتي مع زوجي، هو صديقتي المقربة التي كانت تعرف عني كل شيء، وقامت بكتابة تقرير عني لأجهزة المخابرات على أثر خلاف نشب بيني وبينها".
تضيف لبنى: "لم أصدق ما حدث في البداية، ولكنني بعد ذلك عرفت أنه لا يمكن أن يكون أحد سواها، فكل هذه التفاصيل الدقيقة عن حياتي لا يمكن أن يعرفها سوى صديقتي المقربة".
وتختتم "لبنى" حديثها بالقول: "اسودت الدنيا في عيني ولم أدر كيف سأتابع حياتي، بعد أن جردني النظام من كل شيء، زوجي وحياتي وصديقتي التي غدرت بي.. ولكني برغم كل هذه الويلات لن أستسلم وسأواصل دعمي للثورة، ولن أرضى مهما كان الثمن باستمرار حكم الأسد ونظامه، فدم آلاف الشهداء لن يذهب هباء، فإما أن نكون أو لا نكون".