اليومَ، واليوم فقط تُمكن قراءة
الربيع العربي منذ الانفجار الكبير الذي عرفه الريف
التونسي الفقير في قرى سيدي بوزيد والقصرين وسليانة يوم 17 ديسمبر 2010، مرورا بالهزّات المتعاقبة التي عرفتها المنطقة وصولا إلى المشهد الانقلابي في مصر، والمجازر التي ارتكبت في حق الشعب السوري، ومحاولات إشعال الحرب الأهلية في ليبيا واليمن. اليومَ، واليوم فقط أُغلق قوسٌ كبيرٌ من المنجز الثوري العربي، وأتمت الدورةُ الأولى دورتَها بشكل كاف يسمح بالقراءة والتحليل، رغم أن المسار العام لم يبلغ نقطة النهاية، بل هي محطة مركزية في تاريخ الحركة كلها.
لأسباب متعددة يطول شرحها، عبر هذا الحيز الضيق، نجحت الدولة العميقة في الانقلاب على ثورة الشباب من الفقراء والمهمّشين، لا على الترويكا ولا على الإسلاميين، كما تسعى نخب العار الوطنية إيهامنا به؛ لأن الإسلاميين هم اليوم حليف موضوعي غير معلن لعصابة السرّاق. حققت ذلك أساسا بفضل شجع النخب العربية عامة، والسياسية منها بشكل خاص وتعلّقِها المرَضي بالسلطة ورغبتها القاتلة في إرضاء أنَاها الموبوء بوهم الأيديولوجيا الذي يخفي أطماعا شخصية بائسة، هذا إن لم يكن عملا بالوكالة لوليّ النعمة الجالس وراء البحار أو القابع خلف آبار النفط.
كل الخطاب السياسي الصادر من مختلف الجهات الممثلة للدولة العميقة اليوم، سواء ما خرج منها على السطح وبثه "إعلام العار الوطني"، أو ما تم تسريبه، يذكّر بكل وضوح في تَناصّ فاضح مع بيان 7 نوفمبر 1987 الانقلابي بأن البلاد تدشّن مرحلة استبدادية جديدة بطلاء ديمقراطي برّاق لن يمكث أن يزول. اليوم لا حديث في مهد الربيع إلا عن "الديمقراطية" وعن "وعي الشعب التونسي العظيم" الذي أنجز "معجزة انتخابية" بأن مكّن العجوز التسعيني من التربع على عرش ثورة الشباب، وهو خبر لم يفت تندّر الإعلام الفرنسي المقدس عند نخبنا التونسية المستلَبة لغة وهوية.
بالأمس القريب صرح بن علي غداة انقلابه الطبي على العجوز بورقيبة "بأن الشعب التونسي قد بلغ من الوعي والنضـج مـا يسمـح لكـلّ أبنائـه وفئاتـه بالمشاركة البنّاءة في تصـريف شؤونه، في ظلّ نظام جمهوري يولي المؤسّسـات مكانتـها ويوفّـر أسبـاب الدّيمقراطيّـة المسؤولــة وعلـى أسـاس سيـادة الشعـب".
وهي نفس المرتكزات التي يقوم عليها خطاب الدولة العميقة اليوم "فلا ظلم بعد اليوم" كما صرح أحد تلاميذ "بيت الحرية الأميركي"، حيث التبشير بالديمقراطية والدعوة لاحترام المؤسسات وبناء الدولة، في حق صريحٍ يراد به باطلٌ مطلق، لأن الثورة التونسية ودماءَ الشهداء النازفة لم تكن لغير بناء الدولة وتحقيق العدالة والمساواة ومحاسبة عصابة السرّاق. لكن عصابة السرّاق ـ مع تواطؤ الإسلاميين - هي من سيحكم تونس غدا، وهي من سيبني الديمقراطية التي بشر بها "بن علي" من قبلُ، بل ويُدرك منظرُوها من الاستئصالين أن تطبيق الديمقراطية واحترام كرامة الإنسان وتحقيق الحريات إنما هو شرط فناء العصابة؛ لأنها لا تعيش في غير المناخات الاستبدادية و لا تتنفس بغير قمع الحريات، خاصة إذا كانت تشتغل بالوكالة لشركات النهب العالمية التي جعلت من امتصاص ثروات الشعوب شرط رفاهها ورفاه أبنائها.
نتمنى حقا أن تكون هذه القراءة خاطئة ومتشائمة، ونتمنى أن يكون النظام الجديد جمهوريا حافظا لكرامة الإنسان منصفا لدماء الشهداء راعيا لطبقات الفقراء والمهمشين، لكنّ من خبِر طبائع الاستبداد، كما يقول الشيخ عبد الرحمان الكواكبي، يعلم أنه والحريةَ ضدّان لا يجتمعان، خاصة مع عصابة الاستئصالين التي تحوم حول كرسي
السلطة المطلقة التي حازت عليها الدولة العميقة، بدءا بمجلس الشعب البرلمان ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، أي في واحد من أرقى تجليات الأنظمة الشمولية في العالم الثالث.
تونس ليست أول الساحات التي حققت فيها الدولة العربية العميقة نصرَها المبين على الفقراء والمطحونين؛ بل إن ساحات الموت في أرض الشام ومهابط البراميل الطائفية لنظام الممانعة، كانت أول الدروس النموذجية لما يمكن لنظام الاستبداد العربي المتوحش أن يرتكبه، من أجل الحفاظ على نفسه وعلى مكتسباته. سقطت تونس الثورة بالأمس، ونجحت آلة الانقلاب الناعمة في تحقيق فوز تاريخي، قد يغير على المدى القريب المشهد برمته؛ لأن انقلاب تونس هو في نظرنا أخطر الانقلابات في المنطقة العربية كلها.
نقول الأخطر؛ لأنه خرج من صناديق الاقتراع هذه المرة، مما يسمح للنظام الاستبدادي العربي الجديد باكتساب شرعية لم يحلم بها طوال تاريخه الدامي في كامل المنطقة عبر الجرائم الانتخابية الأخيرة، التي مكنت آلاف الموتى من انتخاب ممثل الثورة المضادة. الاستبداد الجديد في تونس معمد بدماء شهداء تالة والقصرين وناطق باسمهم لسخرية الأقدار، أي أن ممثل النظام الاستبدادي مُكلّف غدا بتحقيق أهداف الثورة وجلاد الشعب القديم، هو الذي سينصف المناطق المفقرة والمهمشة التي وصف سكانها في خطابه الأخير بالأوباش والجوعى. سعي الثورة المضادة في تونس لتطبيق الحريات هو كسعي الولايات المتحدة إلى تحرير الشعوب من الاستبداد ونشر الديمقراطية والحرية، هو كذلك كسعي الكيان الصهيوني لمحاربة الإرهاب العربي الإسلامي على أرض فلسطين.
من كان يصدق من المراقبين للوضع العربي في الداخل والخارج أن أعظم إنجاز حققته الشعوب العربية المسحوقة سيسقط بهذه البساطة تحت نعال النخب العربية الزائفة، بل الأخطر من ذلك والأشد رعبا هو التقسيم الانتخابي جغرافيا، الذي كشف بجلاء حجم التصدع الذي أصاب الوحدة الوطنية، من خلال فوز هذا المرشح شمالا والآخر جنوبا بشكل كاسح. هذا التقسيم الخطير مرآة حقيقية لمنوالات التنمية البشرية ولسنوات الاحتقار والتهميش التي عانت منها مناطق بأكملها في توريث فاضح لمنوال استعماري قسم البلاد والعباد. هذا الشرخ الكبير الذي زرعه الاستعمار وكرسه بورقيبة ورسخه بن علي، هو أخطر نتائج الانتخابات في نظرنا بقطع النظر عن اسم الفائز في المسرحية الانتخابية الأخيرة.
اليوم وعوض قراءة المشهد وتسجيل النتائج والعبر؛ من أجل تحصين الوحدة الوطنية وتطبيق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات، تتكالب نخبنا على شيطنة بعضها البعض توددا للحاكم الجديد، ولوكلاء نعمته علّها تظفر ببعض فتات الكعك يشبع نهمها ويسكن جوعها الأبدي للسلطة والظهور. اليوم يسيل لعاب النخب التونسية التي دجّنها بن علي فأحسن تدجينها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار - وهو لعمري أكبر إنجازاته خلال حكمه الاستبدادي. يسيل لعابها من أجل الكعكة الكبيرة التي سمحت لنخب العار التونسية أن تساوم على دماء الشهداء، وأن تصمت دهرا أمام الإقصاء الممنهج لما يزيد عن ثلاثة أرباع السكان، خاصة في الجنوب وفي ولايات الشمال الغربي الفقير الصامد الذي زُوّر واقعه وزوّر وعيه.
"رفع التحديات" هو عنوان المرحلة الحالية كما كانَه زمن بن علي، الذي عُرف عنه إدمانه رفعَ التحديات، لكنه يبقى دكتاتورا غبيا أعماه الاستئصاليون وعجّلوا بسقوطه؛ لأنه لو علم بمرض السلطة عند النخب التونسية وبتجارتهم بالنضال وبالمبادئ وعلى رأسهم الإسلاميون، لمكّن لسلالته من أن تحكم إلى ما بعد "بن علي التاسع عشر".