دخلت حكومة مهدي جمعة المرحلة الحرجة من مهمتها. فبعد مرور مائة يوم عن إدارتها للشأن العام، وجدت نفسها عرضة للتساؤل والمحاسبة عما فعلته وعما تنوي القيام به. وإذ يكاد لا يختلف اثنان حول تحسن الحالة الأمنية في البلاد خلال الأشهر الأخيرة، بعد سلسلة واسعة من المداهمات والاعتقالات لعناصر قيادية وقاعدية توصف بالمتشددة، إلا أن ذلك لا يعني أن الخطر قد زال، وهو ما جعل الكثيرين يطمئنون للقطب الأمني الشامل الذي شرعت
الحكومة في عملية بنائه، والذي قيل بأنه سيكون بمثابة التجربة الثانية بعد الجزائر التي ستنجز بالمنطقة العربية، وهو ما يدل على المعركة ضد الجماعات المسلحة مرشحة لكي تطول.
في الوجه الآخر من الحالة
التونسية يبرز التحدي
الاقتصادي. هنا مهدي جمعة لم يتردد في القول بأن أزمة الاقتصاد التونسي هيكلية وليست ظرفية. وبالتالي لن يكون الأمر مجديا إذا تم الاكتفاء باتخاذ إجراءات عاجلة ووقتية كما يطالب البعض، وكما حدث مع الحكومات السابقة. هو يعتقد بأنه قد حان الوقت للشروع في تغيير تدريجي في منوال التنمية الذي تآكل وأصبح غير مجد. وليتحقق ذلك ذكر بأن البلاد في حاجة إلى لسلة من الإصلاحات الجذرية التي ستشمل المؤسسات العمومية، والبنوك، والنظام الضريبي، وخاصة سياسات الدعم.
الجدل الدائر حاليا في تونس يتمحور حول مسألتين رئيسيتين.
تتعلق المسألة الأولى بصلاحيات الحكومة، أي هل هي مفوضة للقيام بتغييرات جوهرية في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية، أم أنها مطالبة فقط بتنظيم انتخابات تكون نزيهة وديمقراطية. هناك أحزاب عديدة من بينها الجبهة الشعبية تعتبر أن ما تنوي الحكومة القيام به يخرج عن دائرة اختصاصها، وإنما هي مقيدة بخارطة طريق تتضمن فقط تحسين الحالة الأمنية، وتغيير التعيينات السابقة للمسؤولين الذين تم اختيارهم على أساس حزبي، وعليها أيضا حل ما سمي برابطات حماية الثورة التي تصفها المعارضة بالمليشيات، وأخيرا توفير الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية، مع السعي لتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية. أما ما عدا ذلك فإنه يفرض وجود حكومة سياسية منتخبة وتمارس صلاحياتها لمدة لا تقل عن خمس سنوات.
لرئيس الحكومة وجهة نظر أخرى، فهو يعتبر أن المخاطر التي يمكن أن تهدد المسار الانتخابي غير منحصرة فقط في الجانب الأمني، وإنما تتسع لتشمل بالضرورة الأوضاع الاقتصادية الصعبة. وبالتالي فإن الشروع في القيام بالإصلاحات الجذرية يعتبر من أولويات المرحلة الراهنة.
أما المسألة الثانية التي تثير الجدل فهي تخص استقلالية القرار التونسي، إذ تعتقد أطراف حزبية عديدة ذات توجه يساري بأن الإجراءات التي ينوي رئيس الحكومة اتخاذها أملته عليه مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي. وبالتالي هناك مجازفة خطرة قد تكون لها انعكاسات سلبية على الاستقرار الاجتماعي في حال تم رفع الدعم عن مواد أساسية مثل السكر والزيت والعجين والمحروقات. لكن وزير الاقتصاد والمالية نفى وجود نية للزيادة في أسعار هذه المواد، موضحا أن المطروح هو حماية القدرة الشرائية للفئات الضعيفة ومحدودة الدخل، في مقابل حرمان الأطراف المستفيدة من دعم هذه المواد، رغم أن تنتسب إلى فئات اجتماعية ذات دخل مرتفع.
لقد انعكست هاتان المسألتان على الاستعدادات الجارية لتنظيم مؤتمر للحوار الاقتصادي، حيث تستمر التباينات في وجهات نظر الأطراف المشاركة. فالنقابيون يشككون في جدوى هذا المؤتمر إذا كان الهدف منه توفير الحد الأدنى من التزكية لتنفيذ سياسة لا شعبية، من شأنها أن تزيد من إثقال كاهل الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى. كما أخذ اليسار الراديكالي بالخصوص يصعد من حدة انتقاداته، ويحذر الحكومة من احتمال مقاطعة جبهة الإنقاذ للمؤتمر الاقتصادي.
هكذا يشعر مهدي جمعة بأن النقابات قد تتمرد عليه في هذه اللحظة الحرجة، لكنه في المقابل يجد دعما خفيا من أحزاب كبرى مثل حركة النهضة وحزب نداء تونس اللذان يقومان حتى الآن بتأييد التوجهات الاقتصادية المعلنة لرئيس الحكومة، وقد يذهبان إلى أكثر من ذلك، حيث يحتمل أن يدعما استمرار حكومة التكنوقراط لفترة أطول مما تم الاتفاق عليه داخل أروقة الحوار الوطني، وذلك مهما كانت نتائج الانتخابات !!.
إنها لحظة حرجة ستمر بها تونس خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة. إذ لا يعرف إلى حد الآن مدى استعداد جميع الأطراف المشاركة في عملية إدارة المرحلة الانتقالية لكي تكون صريحة مع التونسيين وتتحمل جزء من مسؤولية إتمام المسار الانتقالي مهما كان حجم الضريبة السياسية التي ستدفعها هذه الأطراف. هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة ..