كتب

المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي فيلسوفا سياسيا حرا.. قراءة في كتاب

ممّا يتردّد باستمرار في مختلف كتاباته أنّ العقل هو كل ما نملك في معركة الشعوب لتحقيق النّصر والتقدّم في فرض الحريات الفردية والدينية وفي تحرير المستعمرات..
ممّا يتردّد باستمرار في مختلف كتاباته أنّ العقل هو كل ما نملك في معركة الشعوب لتحقيق النّصر والتقدّم في فرض الحريات الفردية والدينية وفي تحرير المستعمرات..
الكتاب: "العقل ضد السلطة: رهان باسكال"
الكاتبان: نعوم تشومسكي وجون بيركمون
ترجمة: عبد الرحيم حزل
الناشر: دار الأمان ط 1 الرباط ـ دار التنوير، لبنان  2014
عدد الصفحات: 167


1 ـ يشرح الفيلسوف جون بيركمون عنوان الكتاب [العقل ضد السلطة: رهان باسكال]الذي مثل محاورة له مع نعوم تشوميشكي عالم اللسانيات التوليدية والفيلسوف والسياسي الأمريكي ذي الأصول اليهودية. فقد أراد للشطر الأول منه [العقل ضد السلطة] أن يختزل مسيرة تشومسكي وإسهامه الفاعل في المعرفة الإنسانية. فقد كان، ككل مثقف حرّ، يخوض معركته الطويلة ضد السلطة صاحبة الأذرع القوية والمتعددة. ولا نصير له غير العقل. فلا أسلحة دمار لديه ولا أجهزة دولة يوظفها ولا قضاء يوجهه ضد أعدائه.

وممّا يتردّد باستمرار في مختلف كتاباته أنّ العقل هو كل ما نملك في معركة الشعوب لتحقيق النّصر والتقدّم في فرض الحريات الفردية والدينية وفي تحرير المستعمرات وحماية البيئة وضمان حقوق الأقليات والنساء والمحافظة على حق الأجيال المقبلة في حياة سليمة ومقدار من الثروات التي بين أيدينا.

وفي العنوان الفرعي [رهان باسكال] تذكير بمقاربة الفيلسوف والفيزيائي والرياضي بليز باسكال (1623 ـ 1662) البراغماتية لمسألة الاعتقاد في الله وإن على نحو ساخر مفارق. فالإنسان عند الفيلسوف الفرنسي يجد نفسه بين موقفين متباينين كلّما تعلّق الأمر بتحديد موقفه من الذات الإلهية. فله أن ينكر وجودها. وعندها يمكن للحقيقة أن تكون بخلاف اعتقاده. فتحصل له بذلك الخسارة العظمى. وله أن يقرّ بهذا الوجود. ولن يكلفه حينها الإيمان بها شيئا إن كانت الحقيقة بخلاف اعتقاده. وعليه، فمن الأجدى، أن نراهن على العقل، فنختار الموقف الذي لا يكلّفنا الخسارة ويترك باب لنا تحصيل المغانم مفتوحا.

2 ـ  يتطابق هذا مع رهان أبي العلاء المعري (973- 1057) في إحدى لزومياته قبله. فلمّا اشتدت حيرته بشأن الإيمان في ديوانه ذاك. ووجد أحيانا في هذه المعادلة الرياضية مخرجا ملائما فقال:

قالَ المُنَجِّمُ وَالطَبيبُ كِلاهُما      ***      لا تُحشَرُ الأَجسادُ قُلتُ إِلَيكُما
إِن صَحَّ قَولُكُما فَلَستُ بِخاسِرٍ     ***      أَو صَحَّ قَولي فَالخُسارُ عَلَيكُما

وليس يخفى على المرء ما في الرّهانين من تقدير يائس لأبي العلاء ولباسكال. فكلاهما يستند في المسألة العقدية إلى العقل البارد بدل أن يصدر على القلب والروح. وكلاهما يعالج المسألة من منطق الربح والخسارة بدل أن يدعو إلى خوض التجربة الروحانية العميقة كذلك النور الذي قذفه الله في قلب الغزالي ففاض فيه حتى غمره.

لهذا كلّه يعمل تشومسكي على تغيير الرهان باسكال وعلى تصحيح الموقف. فيضل مراهنا على العقل في إنقاذ البشرية من الخسارة العظمى. ولكنه يسعى إلى تغليب الأمل على اليأس والرّوح الإيجابية على السلبية. ويجعل رهان على "العقل ضدّ السلطة".فيقول"فإذا تخلينا عن الأمل، واستسلمنا إلى السلبية، كنا نساعد على حدوث الأسوإ. وأما إذا حافظنا على الأمل وعملنا بجد واجتهاد للدفع بوعوده إلى التحقق، فإن من شأن ذلك أن يدفع بالأوضاع نحو الأفضل".

مما تزعمه بعض اتجاهات الفلسفة السياسية أنّ العولمة تتيح للنظام أن يتجاوز هناته من تلقاء نفسه. وعلى النقيض من ذلك يجد تشومسكي في هذا التصوّر كثيرا من المغالطات. فالعولمة تفتقد للتلقائية حتى نتحدّث عن إصلاح ذاتي.
يمثّل نقد السياسة الأمريكية والتقدم والثورات والفوضى والسوق ودور المثقفين وحرية التعبير مجال هذا الرهان لا الدّين. فتستعيد هذه المحاورة بين الفيلسوفين على نحو ما المواقف التقليدية التي تميّز تشومسكي وتمنحه هويته الفكرية الخاصّة.

3 ـ ولا بدّ لمن يعرف الفيلسوفين أن يتساءل عن الرّابط بين فكر هما وخلفية باسكال الدينية وعن مبرر  ظهور حجة الفيلسوف الفرنسي البراغماتية في الإيمان على عنوان حوارهما. فكل من نعوم تشومسكي وجون بيركمون لا ديني. بمعنى أنهما لا يباليان بالأديان ويعتقدان أنها منجز بشري بغض النظر عن وجود إله خالق للكون من عدمه. وعليه فلا بدّ للإنسان أن يضطلع بمسؤوليته في تحديد مصيره بنفسه وضبط قيمه بعيدا عن وصايتها. وكل منهما يساري فوضوي يرفض المنظومة الرأسمالية الاستبدادية القائمة وما تكرّسه من انحرافات اقتصادية تكدّس الثروة بين أيدي قلة مالكة لوسائل الإنتاج وتمس بجوهر المبادئ الديمقراطية.. ويدعو إلى بناء مجتمع إنساني متكافل.

يشرح لنا جون بيركمون هذه الصلة بنفسه. فـ "تشومسكي يعود كثيراً إلى ما يعتبره تغييراً لرهان باسكال؛ يروم به الإجابة عن السؤال: ما الداعي إلى الفعل السياسي أو الاجتماعي؟ وهل في الإمكان أن نستيقن من جدواه؟.. وقد لا يكون في مكننا أن نأتي بجواب أكثر من هذا إقناعاً عن السؤال المطروح فكل التزام، كيفما كان نوعه إلا يقوم على ما يشبه الرهان»، لكنه رهان ينبغي أن ينبني على إعمال الفكر، وإلا قادنا إلى الحركية غير المتعقلة، وربما تؤدي بنا إلى العنف"ز

4 ـ  تحاول هذه المحاورة التعمّق في فكر تشومسكي منطلقة من موقفه من الأزمة الرهن العقاري التي أربكت المؤسسات الرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكية ثم أثرت في عامة الاقتصاد العالمي خلال سنتي 2007 ـ 2008. فقد توزّعت المواقف منها بين اتجاه يعتقد أنها مؤقتة، يمكن للرأسمالية أن تتعافى منها سريعا فتستعيد عافيتها وآخر يرى أن الأزمة هيكلية وأنّ السيطرة عليها لفترة لا تعني أنها لن تعاود الظهور من جديد.

أمّا تشومسكي فيجعل الأزمة فرصة ليشرح تصوّره للنظام الرأسمالي ويستشرف عبره مستقبل السياسة الدولية. فيأخذ عن غرامشي قوله بضرورة الجمع بين تشاؤم المثقف وتفاؤل أصحاب الإرادة. فعبر تشاؤم المثقف، يقدّر أن الأزمة ستعبر بشكل ما، دون المساس بالنظام العالمي القائم. فالمساهمات المقدرة بمليارات الدولارات من المساهمين التي حصلت عليها بورصة وول ستريت سنتيح لها تجاوز تعثّرها لتعود سريعا إلى الحالة التي كانت عليها قبل انهيار الأسواق. ويدعّم  موقفه بعديد الأدلة. منها قول سيمون جونسون الاقتصادي والرئيس السابق لصندوق النقد الدولي أنّ الحكومة الأمريكية حرصت طوال فترة الأزمة على عدم مناوأة مصالح المؤسسات المالية، وألا تعيد النظر في الخطوط الكبرى للمنظومة الاقتصادية التي أفضت إلى الوضعية الراهنة. ومنها أن إدارة أوباما  الممسكة بالحكم أضحت رهينة لوول ستريت، بعد أن لعب مالها الدور الأكبر في فوزه الانتخابي على منافسه الجمهوري. وليس الأثرياء والأقوياء من السّذّج حتى يضعوا ثقتهم في رأسمالية السوق الحرة دون ضمانات. ولذلك نراهم، فضلا عن استعمالهم لمختلف الحيل والخدع التي تكفل لهم الحماية من مثل هذه الأزمات، يعوّلون كثيراً على مساعدة الدولة ويدركون أنّ الماليات العمومية ستهب لنجدتهم مجبرة.

وأما تفاؤل أصحاب الإرادة فيعود إلى يقينه بأن تغيراً أساسياً وممكناً في المؤسسات التخريبية التي تهمين على النظامين الاقتصادي والسياسي. ولعلّه سيمثّل السبيل الممهدة لاقتصاد مستدام، تواكبه عولمة تخدم عموم الناس، ولا تكون مسخرة لخدمة المستثمرين وملاّك وسائل الإنتاج فحسب.

5 ـ مما تزعمه بعض اتجاهات الفلسفة السياسية أنّ العولمة تتيح للنظام أن يتجاوز هناته من تلقاء نفسه. وعلى النقيض من ذلك يجد تشومسكي في هذا التصوّر كثيرا من المغالطات. فالعولمة تفتقد للتلقائية حتى نتحدّث عن إصلاح ذاتي. فالأثرياء يتدخّلون في مجريات الأمور ويوجّهونها لصالحهم في كلّ مرّة. فيحلّون لأنفسهم عكس ما يملونها على الفقراء. ففي الولايات المتحدة ابتهجت المقاولات ذات العلاقات العمومية بفوز أوباما، واعتبرت وصوله إلى سدّة الحكم انتصارا كبيرا في مجال التسويق لمرشحهم للرئاسة.

بعد عمل دول جنوب القارة الأمريكية على التحرّر من الهيمنة الأمريكية وبعد تخلّص البرازيل من الرئيس اليميني الشعوبي المتطرف جايير بولسونارو وعودتها إلى اليساري لولا دا سيلفا ها أنّ دولا عديدة جنوب الصحراء الإفريقية تعمل على التحرّر من الهيمنة الفرنسية عبر انقلابات أطاحت بالرؤساء المتحالفين معها شأن مالي وبوركينا فاسو والغابون أو من خلال عقد دول أخرى لشراكات اقتصادية، صناعية وفلاحية مع دول مثل الصين وروسيا وتركيا.
وفي الآن نفسه تقريبا انخرطت الغالبية من الأهالي في بوليفيا في المجال السياسي بعد سنين عديدة من النضالات الشجاعة وانتخبت من صفوفها خوان إيفو مورالس أيما ليكون أول رئيس في تاريخ أمريكا اللاتينية من الأمريكيين الأصليين ومن عائلة من المزارعين البسطاء، بناء على برنامج يقوم على مراقبة الموارد واحترام الحقوق الثقافية والعدالة. ولكن النخب التقليدية ومعظمها من البيض، عارضت ذلك الانتصار الذي تحقق للديمقراطية. ووجدت المساندة من الحكومة الأمريكية في جهودها الرامية إلى الارتداد إلى النظام القديم. وبديهي أن ينحاز الإعلام الغربي إلى معسكرهم.

وفي الآن نفسه يجد تشومسكي في هذا النظام كثيرا من الزيف والانحراف. فقد نتجت عن معضلة الرّهن العقاري أزمة مالية لا شكّ أنها حادة قاصمة. ولكن وقعها في الجنوب كان أشد وطأة، فقد تحولت إلى أزمة بطون خاوية لا إلى تراجع في الأرباح. ولكن ففي الوقت الذي صُرفت فيه ملايين المليارات للمؤسسات المالية الممسكة بالاقتصاد العالمي لم يصرف غير مليار واحد من 12.3 موعودة لغذاء الفقراء. وهو مبلغ ضئيل مقارنة باحتياجاتهم. وفضلا عن ذلك فقد أعلن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة خفض مساعداته بين الخُمس والرُّبع بسبب خفض الدول المانحة لمساعداتها. وطبيعي أيضا أن يتجاهل الإعلام الغربي ذلك. فلا أحد يكترث بمصير الفقراء.

6 ـ مقابل كل هذه الانحرافات انخفضت وتيرة الاحتجاج على ما تعيشه الشعوب من الحيف. فهل استسلمت للرأسمالية الجشعة؟ يتساءل جون بيركمون. فيردّ تشومسكي ما يصفه بيركمون بالاستسلام وعدم ارتقاء الاحتجاج إلى الزخم الذي وقع إثر الانهيار الاقتصادي لسنوات الثلاثينيات إلى استخلاص الرأسمالية للدروس والعبر. فقد اتّخذ الحكّام تدابير وإجراءات للتخفيف من وطأة الأزمة الراهنة.

ومع ذلك يظل اللساني والفيلسوف الأمريكي ملتزما بالروح الإيجابية التي جعلته يرفض رهان باسكال. ومن هذا المنطلق يعلن تعاطفه مع تجربة اليسار في أمريكا اللاتينية. فأشكال التقدم التي تحققت في الشطر الجنوبي من العالم الجديد كانت عظيمة الأثر. وفي ردود الأفعال التي قوبلت بها جهود النخب التقليدية لعرقلة التهديد الديمقراطي في بوليفيا دليل على ذلك. فمصرع عدد كبير من الفلاحين مناصرين حكومة موراليس إثر الهجمات التي دبّرتها النّخب التقليدية البوليفية مثّلت باعثاً لإنشاء تجمع اتحاد أمم أمريكا الجنوبية الذي يضم بلدان أمريكا اللاتينية قاطبة. ولأول مرة منذ الغزو الأوروبي تقوم أمريكا الجنوبية بتولي أمورها وتقرير مصيرها بنفسها، من غير تدخل لأي قوة أجنبية.

ويعود الفضل إلى الدور الهام الذي اضطلع به تشافيز في إدماج أمريكا الجنوبية في عملية إعادة توزيع للثروات، بما يخدم المعوزين من السكان في فنزويلا. وينتهي إلى أنّ انتصارات اليسار قد أحدثت رجة في نفوس النخب الأمريكية، وهزت حكومتهم، التي باتت فاقدة للوسائل التقليدية اللتين كانت تضمن لها الهيمنة على أمريكا الجنوبية. ولأن الإعلام الأمريكي ليس حرّا ولا مستقلاّ، على خلاف ما يُعلن، أُوكلت له مهمة إظهار تشافيز في صورة شيطانية.

7 ـ لقد أثبتت الخمس عشرة سنة التي عقبت ظوهر الكتاب وجاهة فكر تشومسكي السياسي. فبعد عمل دول جنوب القارة الأمريكية على التحرّر من الهيمنة الأمريكية وبعد تخلّص البرازيل من الرئيس اليميني الشعوبي المتطرف جايير بولسونارو وعودتها إلى اليساري لولا دا سيلفا ها أنّ دولا عديدة جنوب الصحراء الإفريقية تعمل على التحرّر من الهيمنة الفرنسية عبر انقلابات أطاحت بالرؤساء المتحالفين معها شأن مالي وبوركينا فاسو والغابون أو من خلال عقد دول أخرى لشراكات اقتصادية، صناعية وفلاحية مع دول مثل الصين وروسيا وتركيا. فكان نموذجا للمفكر الحرّ الذي يجعل من العقل يواجه انحرافات السياسة الغربية كما واجه انحرافات السياسة الإسرائيلية في أثره "غزة في أزمة تأملات في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين" الذي حرّره رفقة المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه. وفضح وحشية حربها على غزة في أواخر العام 2008. وكان من "المثقفين الغربيين" الذين، أظهروا موقفا واضحا من حربها على القطاع هذه الأيام.
التعليقات (0)