قضايا وآراء

خواطر حول فشل "المشروع الديمقراطي" في تونس

عادل بن عبد الله
لا شك عندنا في أن إخراج الإسلاميين من الحقل السياسي القانوني بمنطق الانقلابات الناعمة أو الصلبة هو ضربة للمشروع الديمقراطي في صيغته الليبرالية (الديمقراطية التمثيلية).. الأناضول
لا شك عندنا في أن إخراج الإسلاميين من الحقل السياسي القانوني بمنطق الانقلابات الناعمة أو الصلبة هو ضربة للمشروع الديمقراطي في صيغته الليبرالية (الديمقراطية التمثيلية).. الأناضول
ما بين علماني مسكون بنظرية "الاستثناء الإسلامي"، وينفي الديمقراطية عن "الإسلامي" بصورة جوهرية لا تقبل المراجعة حتى بعد الفصل بين الدعوي والسياسي، واتخاذ قرار "التخصص الوظيفي" (أي الاشتغال بالسياسة دون الدعوي كما حصل لحركة النهضة في تونس)، وإسلامي يرى في حكم الإخوان في مصر وسلميّتهم حتى بعد الانقلاب العسكري عليهم، ويرى كذلك في توافقات النهضة في تونس و"تنازلاتها المؤلمة" للتوافق مع المنظومة القديمة ـ بعيدا عن خيار مواجهة الدولة أو التمرد ضد سلطتها ـ، دليلا على أن الإسلامي (الإخواني تحديدا) كان هو الديمقراطي الأوحد ـ بحكم غياب شريك علماني ديمقراطي مبدئي وموثوق ـ في تجارب الانتقال الديمقراطي المجهضة، ما بين هاتين السرديتين المتقابلتين تقابلَ تضاد، سيحاول هذا المقال أن يطرح قضية فشل كل الفاعلين الجماعيين ـ في تونس مثلا- في بناء مشترك وطني جامع، يحول دون نوازع الانقلاب والاستبداد، ويقطع مع استراتيجيات النفي المتبادل وثقافة الإقصاء (أي منطق التكفير الديني ومنطق الاستئصال الأمني)، بما تحمله من عنف رمزي ومادي.

لتقديم إجابة معقولة ـ من بين عدة إجابات ممكنة ـ لقضية فشل الانتقال الديمقراطي في تونس، سيكون علينا أن نؤكد منذ البدء أن ذلك المسار ومآلاته الواقعية لم يكن يوما شأنا تونسيا خالصا. فبحكم غياب مقوّمات السيادة في مختلف أشكالها وقابلية أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني للاختراق، أو لتنفيذ أجندات قوى إقليمية ودولية ليس من مصلحتها نجاح التجربة الديمقراطية التونسية (تجربة الاحتكام للإرادة الشعبية ولصناديق الاقتراع، وخاصة تجربة الحكم المشترك بين العلمانيين والإسلاميين)، وبحكم هشاشة الطبقة السياسية "الجديدة"، ومحدودية صلاحياتها ـ أو على الأقل محدودية قدرتها على فرض خياراتها ـ في مواجهة "الدولة العميقة"، أو النواة الصلبة للمنظومة القديمة التي كانت تتحكم في المشهد من وراء الستار، لم يكن مسار الانتقال الديمقراطي مرتبطا بإرادات الفاعلين المحليين ،بقدر ما كان هؤلاء ـ في أغلبهم الأعم ـ مجرد وكلاء لفاعلين خارجيين يتقدمهم محور الثورات المضادة والجزائر وفرنسا والولايات المتحدة، وبصورة أقل فاعلية المحور القطري ـ التركي. ولكن، هل إن التدخلات الخارجية-مهما كانت قوتها ـ تُعفي الفاعلين المحليين ـ بلائكييهم وإسلامييهم ـ من المسؤولية السياسية عن المآلات الكارثية لما سُمي ذات ربيع عربي بـ"الاستثناء الديمقراطي التونسي"؟

عندما تحدث المرحوم مالك بن نبي عن "قابلية الاستعمار"، فإنه لم يكن يتخيل أن هذا المصطلح سيبقى صالحا للاستعمال، حتى بعد زوال الاستعمار العسكري المباشر. فـ"قابلية الاستعمار" لم تنتف بخروج المستعمر الفرنسي مثلا، ولكنها انتقلت لترتبط بالاستعمار الداخلي أو بالسياسات الاستعمارية في مرحلة الاستلحاق الاقتصادي والثقافي والأمني والديبلوماسي، إلخ للمستعمرات السابقة بالمركز، أي بباريس ومخابراتها الخارجية. إن الاستقلال الصوري عن فرنسا لم يعمل على القطع مع قابلية الاستعمار، بل كيّف تلك القابلية وطرحها في السوق السياسية التي يهيمن عليها باعتبارها ضربا من الوطنية. ولذلك كانت معاداة أنظمة "الاستقلال الصوري" وسردياتها التحديثية (الوطنية من جهة الدعوى والتابعة بل العميلة واقعيا)، تعني الخروج عن "الإجماع الوطني"، بل كانت تعني "الخيانة العظمى". وهو ما أعطى "قابلية الاستعمار" في شكلها الجديد، حصانة لم تكن تتمتع بها في الفترة الاستعمارية المباشرة.

قابلية الاستعمار" لم تنتف بخروج المستعمر الفرنسي مثلا، ولكنها انتقلت لترتبط بالاستعمار الداخلي أو بالسياسات الاستعمارية في مرحلة الاستلحاق الاقتصادي والثقافي والأمني والديبلوماسي، إلخ للمستعمرات السابقة بالمركز، أي بباريس ومخابراتها الخارجية. إن الاستقلال الصوري عن فرنسا لم يعمل على القطع مع قابلية الاستعمار، بل كيّف تلك القابلية وطرحها في السوق السياسية التي يهيمن عليها باعتبارها ضربا من الوطنية".
ولا شك عندنا في أن السردية البورقيبية (أي الخطاب السياسي المرجعي أو المعياري قبل الثورة وبعدها)، قد ساهمت في التغطية على قابلية الاستعمار في شكلها الجديد، بل إن البورقيبية (في لحظتَبها الدستورية والتجمعية) كانت هي الإيديولوجيا الأساسية لمنظومة الاستعمار الداخلي، وما ارتبط بها من تناقض جوهري مازال مستمرا إلى لحظتنا الراهنة: بناء الشرعية السياسية على أساس استقلالية القرار السيادي، وتمثيل الشعب ومختلف فئاته وجهاته (في مستوى الخطاب)، واحتكار القرار من طرف قوى جهوية ومالية محدودة، ومنع بناء مقومات السيادة السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية (في مستوى الخيارات الكبرى للدولة). ولكن رغم هذا التناقض الجوهري في السردية البورقيبية، فإن النخب الحداثية قد اختاروا النكوص إليها بعد الثورة وفرضها على الإسلاميين، باعتبارها دليل "تَونسة" و"وطنية". فبحكم موازين القوى بين الإسلاميين واللائكيين بمختلف أصولهم الإيديولوجية، لم يكن تجاوز البورقيبية لتُمثل تهديدا حقيقيا للنمط المجتمعي التونسي و"مكاسبه" الموهومة، بقدر ما كان سيُمثل تهديدا مؤكدا لمصالح الكارتلاّت العائلية والشبكات الجهوية والإيديولوجية، وما يرتبط بالمنظومة القديمة من مصالح ورهانات مادية ورمزية.

لضمان نجاح الانتقال الديمقراطي أو على الأقل تقوية أسسه الفكرية، كان على القوى اللائكية والإسلامية التونسية، أن تشرط الخروج من المرحلة التأسيسية بالإجابة التوافقية عن الأسئلة التالية: هل يمكن للبورقيبية أن تكون هي سردية الثورة "الجامعة"، والحال أن الثورة قامت أساسا ضد خياراتها الاقتصادية ومنطقها السياسي وطابعها الجهوي الزبوني؟  هل يوجد في البورقيبية وتراثها السياسي القائم على عبادة الزعيم وعلى ثالوث الزعيم ـ الحزب ـ الوطن (كما قال المفكر محمد أركون) ما يساعد على بناء الديمقراطية وثقافة التداول السلمي على السلطة؟ كيف يمكن استدماج الإسلاميين في التجربة الديمقراطية مع المحافظة على النموذج اللائكي الفرنسي المعادي، وعدم التفكير في نماذج علمانية أخرى أو حتى بناء نموذج وطني للعلمانية؟ هل إن مكونات ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" مؤهلة فكريا وأخلاقيا لأداء دور الحكم في الصراع الديمقراطي، وهل يوجد في تواريخها وتنظيماتها وسردياتها الكبرى ما يسمح لها بـ"التحكيم" أو بوضع معايير اللعبة الديمقراطية في تونس؟ هل يكفي أو يصبح الإسلامي فاعلا سياسيا قانونيا ليتحول إلى فاعل ديمقراطي، وكيف يمكن للإسلامي الذي قبل التحول من دور البديل إلى دور الشريك، وهل يستطيع "المسلم الديمقراطي" أن يتحمل كلفة التخلص من مشروع أسلمة المجتمع، وبأي معنى وعلى أي أساس يمكن بناء مشترك وطني بين العلمانيين والإسلاميين؟

ربما لا يمكننا أن نجزم بأن المآلات الكارثية للثورات العربية قد أكدت أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا شعبيا، ولكننا نستطيع الجزم بأن تلك المآلات قد أكدت أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا حقيقيا من مطالب النخب "الحداثية"، بمختلف سردياتها الوطنية الليبرالية والقومية والماركسية. وسيكون من السهل أن نربط موقف العلمانيين من الديمقراطية التي يشارك فيها الإسلاميون ومسارعتهم إلى نصرة المشاريع الانقلابية، برغبتهم في التخلص من الإسلاميين ومن صناديق الاقتراع التي جاءت بهم. ولكننا نذهب إلى أن المسألة تتجاوز وجود الإسلاميين أصلا في الحقل السياسي القانوني. فـ"الديمقراطي" التونسي أو العربي هو ديمقراطي مادام في المعارضة أو على هامش السلطة، ولكنه يحمل في أعماقه مشروعا استبداديا لن يتأخر في إظهاره بمجرد وصوله للحكم. ولا يهم هنا طبيعة الخصم ولا هويته الإيديولوجية. ونحن نؤكد أن غياب الإسلاميين عن ساحة الثورات العربية لم يكن ليغير من فشل المشاريع الديمقراطية الوطنية شيئا، أو على الأقل لم يكن ليسمح لأي نظام ديمقراطي (بمشاركة الإسلاميين أو بإقصائهم)، بأن يتحول إلى مشروع للتحرير الوطني أو للتخلص من الامبريالية في لحظتها المتصهينة. وهو ما يطرح علينا السؤال التالي: في ظل هيمنة "السلام الديمقراطي" (ومن ورائه نظرية نهاية التاريخ): هل يحتاج العرب إلى الديمقراطية أم إلى دكتاتوريات وطنية فعّالة ـ أي دكتاتوريات تبني الأوطان لا القصور الرئاسية، وتعمّر العقول والجغرافيا لا الحسابات البنكيةـ؟

لا يمكننا أن نجزم بأن المآلات الكارثية للثورات العربية قد أكدت أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا شعبيا، ولكننا نستطيع الجزم بأن تلك المآلات قد أكدت أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا حقيقيا من مطالب النخب "الحداثية"، بمختلف سردياتها الوطنية الليبرالية والقومية والماركسية.
ختاما، لمّا كانت الدول العربية مجرد كيانات وظيفية (على حد تعبير هشام البستاني)، ولا مشروع لمجموعاته الحاكمة وملحقاتها إلا البقاء (على عكس الدول التي تحركها "دوافع أساسية تتعلق بزيادة النفوذ")، فإن المشروع الديمقراطي الذي لا يطرح على نفسه تحقيق مقومات الدولة، ويكتفي بإدارة التخلف والتبعية هو مشروع لا وطني بالضرورة. ولا شك عندنا في أن إخراج الإسلاميين من الحقل السياسي القانوني بمنطق الانقلابات الناعمة أو الصلبة، هو ضربة للمشروع الديمقراطي في صيغته الليبرالية (الديمقراطية التمثيلية)، ولكننا لا نشك أيضا في أن بقاء الإسلاميين (بعد أن دجنتهم الدولة العميقة، وفرضت عليهم شروطها المخالفة لانتظارات الناخبين من "المقهورين")، لم يكن ليغير كثيرا في واقع البلدان العربية اقتصاديا وثقافيا، إلخ. فالديمقراطية التي لا تطرح على نفسها التحرر من منظومة الاستعمار الداخلي، والقطع مع السردية السياسية التي بررت هيمنتها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، هي ديمقراطية كسيحة. ومهما كان اسمها (ديمقراطية تمثيلية، ديمقراطية مباشرة)، فإنها لن تكون إلا صيغة من صيغ إدارة التخلف والتبعية، باعتبارها الوظيفة الأساسية لكل منظومات الحكم في "الكيانات الوظيفية"، التي مازالت كل نخبها (بإسلامييها وعلمانييها) تخاف من مساءلة أساطيرها التأسيسية، خاصة تلك التي تقول بأنها دول حرة مستقلة وذات سيادة.
التعليقات (0)