قضايا وآراء

عن العنصرية والشيخ الغزالي ومايلز كوبلاند

محمد ثابت
الأناضول
الأناضول
رعى الله أيام الصبا حيث إقرار المفاهيم في النفوس وتثبيتها، فلكأنما يصعب خلاصٌ منها بعدها، ولكأنما يصغي العالم لما نقر في وجداننا، ويعترف بكامل تصوراتنا ويقرها فلا يتزحزح عنها. تستعيد الروح هذه الأماني والأحلام كلما رأت شبابا غضا متفتحا على الحياة، يسعى بدأب وشعور بأنه يملك هذا العالم ويستطيع تغييره.

تتذكر النفس بعض هذه المعاني وهي تلمس "العنصرية" تتقافز -للأسف الشديد- في العالم ضد مدينة صابرة محتسبة كغزة، أو حتى في بلد مسلم اضطرت الملابسات السياسية مئات الآلاف للركون إليه، حتى إن الأصدقاء المقربين اضطر للدخول لمستشفى حكومي ذات صباح قريب بعدما شعر بآلام في القلب، منعته من النوم على جانبيه في الليل لأيام، حجز موعدا وذهب ماشيا لثلث الساعة فتعرق وتعذر التنفس عليه، خافت الطبيبة واستدعت رئيسها، دخل للعناية المركزة وهو يخاف احتمالات العنصرية، جاءه طبيب من أصول عربية فأسرّ له بمعلومة خفية عن علاجه يصعب الوصول إليها، وأخبره الطبيب بأنه سيخضع لمنظار بالقلب بعد ساعات وقد يتطلب الأمر دعامة. خاف من إجراءات طبية ضرورية لما تذكر كيف يعاني مثله من المواقف الخاصة بالاستبداد في بلده من "عنصرية"؛ لا يدري سببا لها ولا يعرف كيف يعرفها!!

ذهب لغرفة العمليات، فوجد الممرضة المختصة به في العناية هناك، تخبر الطبيبة بأنه عربي مجنس لا يعرف اللغة الخاصة بالبلد جيدا، كان قد ترك أمر اسمه الجديد لنجله الذي اختار لقبا للعائلة، مشترطا عدم البعد عن اسمه الأساسي، فوجئ في داخل غرفة العمليات بطوفان من الضحك على شخصه الغريب، واسمه الأقرب للأقدمين من أهل البلاد. لم يكن الأمر يحتاج تفسيرا بعيدا، فإنما الصديق بالأساس ينتمي لمهاجرين نزحوا من هذا البلد منذ نحو 300 عام لمصر، فسّر فما استمعوا له، فلما فاض به خاصة مع الترقب والألم، قال لهم بحسرة ملتقطا كلمة "غريب" التي يتندرون بها:

- إنما نحن مسلمون هنا والغريب هو البريطاني أو الأمريكي!

زاد ضحكهم، فالتفت لأكثرهن ضجيجا قائلا:

- اسمك وأسماؤكم جميعا عربية، فكيف تزعمون أن العرب غرباء بينكم؟!

أكبر كلماتِه الطبيبُ المشرف على الجراحة، رآه يدقق في كل تفصيلة، مرت به ليلة قاسية، دققوا في طلب تحليل معين لبيان مدى تخلص الجسد من مادة تم حقنه بها خلال الجراحة، عاد للمستشفى القريب من بيته بعد خطاب موجه من طبيبة الأسرة، تعتذر لأن التحاليل ليست متوفرة لديها.

جاءه مترجم عربي، فسأل في أدق التفاصيل وأخبره أن يترك "العاجل" ليصعد لطبيب في قسم التحاليل "وهو ونصيبه"، طلب منه تحويلا فقال له؛ إنه ليس مهتما بالترجمة له، وتركه لشد وجذب مع طبيبة الطوارئ.

يسأل المرء نفسه آناء الليل والنهار: من أين تأتي العنصرية لشعوب تداخلت و"أقامت" لدى بعدها عشرات السنوات، صارت العادات والتقاليد الخاصة بأغلب مظاهر الحياة لديها واحدة، اللهم إلا اللغة التي لها قصة خاصة؟ وما تلك العنصرية التي تجعل المسلم يتعالى على مسلم مثله، وأحيانا يحاول التملص من مساعدته، والأصل أن الإنسان من حيث إدراكه لنفسه وموقعه من الحياة لا يتعالى على بشر مثله لضر أصاب وطنه، سواء أسبق لنفس الضر أن أصاب البلد الذي يقيم فيه الإنسان غير المضار أو أنجاه الله؟ وهل تقاس بلايا الحياة بمعيار أو يتفاضل البشر بالنجاة منها؟ فكم من صحيح البدن والروح أصابه إعصار، ذهب ببعض ما يملك أو بعضه! سلم الله الجميع.

وإن جاز -افتراضا أو اضطرارا- لأصحاب بلد أن يشعروا بشيء من "الفضل" على وافدين عليهم ونالوا جنسيتهم، فما بالنا بوافد آخر ابن لبلد عربي يفعل مثلهم، وبمجال خطير مثل الصحة؟!

كنتُ وما أزال أحلم بوطن عربي واحد، أعتز لمن يصحح لمثقف قال تعبير "العالم العربي"، فيرجوه أن يقولها "الوطن العربي" فنحن لدينا: الدين، واللغة، والعادات التقاليد، والماضي والحاضر، والمستقبل الكفيل لأن نكون معا دائما. كنتُ وما زلتُ أتمنى أن تكون القاهرة أختا حقيقية لصنعاء والرياض ودمشق وبغداد والدار البيضاء والبحرين وعمان والخرطوم، يسير السائر بلا خوف على نفسه وأهله من طرابلس الغرب والشرق، حتى سوهاج والمدينة المنورة وطبرية والقدس، بعد أن تتحرر كل العواصم العربية المحتلة والواقعة تحت الظلم، ولكن الواقع بعيد وشحيح للأسف المرير، تعاني من أجله أجيال، وأخشى أن المستقر بالأذهان لدى شعوبنا مخالف لتلك الحقائق التي صارت أحلاما.

فاجأني الأمريكي "مايلز كوبلاند" في كتابه "لعبة الأمم" لما تحدث ببساطة عن أنه منذ قبل الستينيات لا رباط بين العرب شكلا أو موضوعا، قدرتُ أن الرجل يبالغ لكنني لما دققتُ في كلمات الراحل الشيخ محمد الغزالي؛ أن العرب لا يجمعهم إلا الدين، ومن يتوهم غير هذا فالواقع يكذبه. علمتُ أن الأمر ليس هيّنا، فما بالنا إذا ما غلب على الشعوب الإسلامية حلم أن تصير وطنا واحدا؟

إن على المثقفين من عرب وغيرهم دورا خطيرا لا يضطلعون به للأسف الشديد إلا قليلا، وهكذا صرنا نرى الطبيب يشي بمريضه بالتقارير النهائية عن حالته، وصرنا نرى سخرية عارمة في غرفة العمليات من مريض مجنس، وصاحب أصول تعود للبلد نفسه الذي يجري فيه الجراحة، لمجرد أنه لا يتحدث اللغة كأهلها. وبين هذه التفاصيل وأكثر، يكاد الغرب يعصف بأوطاننا بداية من غزة، وما زلنا نتحدث وكأن كلا منا يعيش في جزيرة منفصلة عن الآخر، ولعل للحديث بقية إن كان في العمر بقية!
التعليقات (0)