أفكَار

طوفان الأقصى بين النظرية الواقعية وقصة موسى مع فرعون (1من2)

نحتاج اليوم إلى وضع كل القيم والأفكار والفلسفات والمدارس الفكرية التي أنتجتها الحضارة الغربية تحت مشرحة النقد والتجاوز
نحتاج اليوم إلى وضع كل القيم والأفكار والفلسفات والمدارس الفكرية التي أنتجتها الحضارة الغربية تحت مشرحة النقد والتجاوز
العدوان على غزة تجاوز يومه الثمانين، ولازالت دولة الاحتلال الصهيوني ماضية في استراتيجيتها العسكرية دون أن تتمكن من تحقيق أهدافها المعلنة، ودون أن يظهر أن بإمكانها تحقيقها على المدى القريب أو المتوسط، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة حول الخلفيات الحقيقية لهذه الحرب العدوانية المجنونة الجارية على غزة، وممكنات فهم مواقف الدول المؤيدة لاستمرارها والرافضة لوقف إطلاق النار منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى المجيدة يوم السابع من أكتوبر.

نحاول في هذه المقالة تلمس الأهداف الحقيقية للعدوان من خلال النظرية الواقعية في العلاقات الدولية التي ساهمت في تمجيد عنصر القوة العسكرية في العلاقات بين الدول وتجريدها من الجانب الأخلاقي، ومن خلال إحدى أهم القصص القرآنية التي تمثل التجسيد التاريخي لمحطة من محطات الصراع بين الحق مع الباطل حين يكون هناك اختلاف كبير في "موازين القوى" ـ إذا استعرنا هذا المفهوم من المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية ـ بين الباطل المستكبر المتغطرس الذي يمثله فرعون والحق المستضعف المقهور الذي يمثله موسى عليه السلام..

العدوان على غزة هو نكبة ثانية تهدف أساسا إلى إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره

نحن أمام أهداف غير معلنة يجري تنفيذها على الأرض تتمثل في محاولة إبادة شعب واجتثاثه من أرضه بشكل منهجي ومقصود، ولا يمكن تصديق قادة الاحتلال وهم يكررون أمام العالم عبارات دعائية مشفوعة بالوقائع الكاذبة بأنهم يخوضون حربا للدفاع عن النفس هدفها الأساسي ـ بزعمهم ـ هو تحطيم القدرات العسكرية لحماس واسترجاع الأسرى بالقوة، وهي أهداف للاستهلاك الإعلامي والترويج الداخلي، أما الهدف الحقيقي فهو إبادة أكبر قدر ممكن من سكان غزة، وتهجير الباقين، والسيطرة الأمنية على غزة.

من المؤكد أن جيش دولة الاحتلال استخدم أطنانا من القنابل من أجل تدمير المنازل السكنية وإزهاق أرواح ساكنيها من المدنيين من الأطفال والنساء، وقصف جميع الرموز العمرانية لقطاع غزة والاستهداف المقصود للمساجد والمآذن والكنائس، وضرب جميع مقومات الحياة بما فيها قصف المستشفيات بشكل متعمد وقتل الأطباء والممرضين ورجال الإسعاف، وقصف المدارس ومقرات اللجوء..

نحن أمام نكبة ثانية للشعب الفلسطيني لا تقل خطورة عن نكبة 1948 حيث تم تهجير أزيد من 750 ألف فلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين، بالموازاة مع هدم أكثر من 500 قرية وتدمير المدن، مع العمل على تغيير أسمائها من العربية إلى العبرية، والعمل الحثيث على تدمير المعالم التاريخية لفلسطين وتحطيم كل ما يرمز للتراث والتاريخ الفلسطيني..

وإذا كانت نكبة 1948 جرت في غياب متابعة إعلامية دقيقة، فإن ما يجري اليوم من جرائم حرب يتابعه العالم أجمع بالصوت والصورة بشكل مباشر، ولم تنجح حملات الدعاية الكاذبة التي شنتها دولة الاحتلال منذ يوم السابع من أكتوبر في الإقناع بسرديتها للأحداث وفي توجيه الرأي العالمي، وهو ما دفع دولة الاحتلال إلى استهداف الصحافيين وقتل أزيد من 100 صحافي بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب بما فيها الحربين العالميتين، فحسب ما أعلنته مؤسسة "منتدى الحرية"، والتي تتخذ من واشنطن مقرا لها وتدافع عن حرية الصحافة، فإن الحرب العالمية التي أودت بحياة عشرات الملايين من البشر والمعروفة بأنها الحرب الأكثر دموية شهدها العالم الحديث، تسببت في مقتل 69 صحافياً خلال 6 سنوات، وهو رقم لا يمكن مقارنته مع العدد المهول الذي جرى فقدانه في غزة، مما يدل على استهداف منهجي لأصوات الحقيقة، ويؤكد الرغبة الانتقامية من الصحافة الفلسطينية التي نجحت في نقل جرائم الحرب الصهيونية بالصوت والصورة إلى العالم..

فبعد الصدمة الأولى التي خلفتها عملية السابع من أكتوبر الغير مسبوقة في تاريخ النضال الفلسطيني، سرعان ما بدأ الضمير العالمي يستيقظ من أجل فهم أعمق لقضية الشعب الفلسطيني ووضعها في سياقها التاريخي الصحيح، ألا وهي قضية الاحتلال الاستيطاني العنصري لأرض فلسطين من طرف دولة صهيونية غرسها الغرب بالقوة داخل المشرق العربي..

 إن هناك اليوم شبه إجماع عالمي على رفض هذا العدوان والمطالبة بتوقيفه الفوري، وهو ما ترجمه التصويت العام داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار بأغلبية 153 دولة طالبت بوقف إطلاق النار، في الوقت الذي أصرت فيه الولايات المتحدة الأمريكية على ممارسة دعمها للاحتلال في هذه الحرب الهمجية، بل والشراكة معه. فكيف يمكن تفسير ذلك؟

النظرية الواقعية التي تمجد القوة هي مفتاح فهم السياسة الأمريكية ودعمها اللامشروط لدولة الاحتلال..

يمكن قراءة الحرب الجارية على غزة اعتمادا على مناهج دراسة الحروب والأزمات ولا سيما المدرسة الواقعية والواقعية الجديدة التي تربعت على عرش الدراسات الأكاديمية منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم وبرزت في تفسير سلوك الدول في حالة الحرب والسلم باعتبار الدولة هي الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية، كما تألقت في تفسير تفاعلات النظام الدولي استنادا على مفاهيم مركزية مثل القوة وفي مقدمتها القوة العسكرية والمصلحة القومية كمفاهيم قادرة على فهم وتحليل العلاقات الدولية، انطلاقا من تحليل سلوك الدول كما يمارس على الأرض بعيدا عن أي مرجعية قيمية أو أخلاقية لتفسير الأحداث الدولية، أي تحليل ما هو كائن وليس ما ينبغي أن يكون.

نحن أمام نكبة ثانية للشعب الفلسطيني لا تقل خطورة عن نكبة 1948 حيث تم تهجير أزيد من 750 ألف فلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين، بالموازاة مع هدم أكثر من 500 قرية وتدمير المدن، مع العمل على تغيير أسمائها من العربية إلى العبرية، والعمل الحثيث على تدمير المعالم التاريخية لفلسطين وتحطيم كل ما يرمز للتراث والتاريخ الفلسطيني..
لقد أثر منظرو المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية بشكل سلبي، وعملوا على تجريدها من الاعتبارات الأخلاقية وتغليب النزعة الميكيافيلية عليها، وجعلوا محور العلاقات بين الدول يدور حول مفهوم القوة بمختلف أبعادها ولاسيما القوة العسكرية، وهو ما أدى إلى تدهور العلاقات الدولية وفشل منظمة الأمم المتحدة في تحقيق الهدف الرئيس الذي قامت من أجله وهو حماية الأمن والسلم الدوليين، وقد ساهم ثعلب السياسة الخارجية الأمريكية ومهندسها الكبير هنري كيسنجر Henry Kissinger  (27 مايو 1923 ـ 29 نوفمبر 2023) في تعزيز التوجه الذي رسمه المنظرون الأوائل هانس مورغنثو Hans Morgenthau  (17 فبراير 1904 ـ 19 يوليوز 1980) وريمون آرون Raymond Aron (14 مارس 1905-17 أكتوبر 1983) وغيرهم، حيث اعتبر أن مفهوم القوة مهم جدا في العلاقات الدولية وفي الحفاظ على هيبة الدولة، وهو ما سبق أن ذهب إليه مورغنتو الذي اعتبر أن السياسة الدولية ماهي إلا صراع من أجل السلطة.

كيسنجر الذي غادر الحياة الدنيا قبل بضعة أيام يعتبر من أبرز منظري المدرسة الواقعية، ومن أبرز الممارسين لها على الأرض انطلاقا من مفاهيمها التأسيسية، ويعتبر من أبرز المؤثرين في السياسة الخارجية الأمريكية وجعل القوة الأداة الرئيسية لتحقيق المصالح الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن دوره البارز فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، والحيلولة بأسلوبه الماكر أمام ضعف الحس الاستراتيجي لدى القادة العرب في تلك المرحلة، دون تحويل الانتصار العسكري لحرب أكتوبر 1973 إلى انتصار سياسي، والعمل على فصل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي، خصوصا بعدما تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني وهندسة اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من الجامعة العربية لتنطلق مرحلة جديدة عنوانها الأبرز: "لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم" وهو ما سمح بالمزيد من التنازلات على الأرض ووفر الغطاء للأنظمة العربية ل "التحلل" التدريجي من التزاماتها اتجاه القضية الفلسطينية، وبحثها عن مصالحها القطرية، بما في ذلك الشروع في تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال..

لقد دشنت دولة مصر الموجة الأولى للتطبيع منذ اتفاقية كامب ديفيد 1978، وانطلقت الموجة الثانية للتطبيع بعد اتفاق أوسلو 1995، لكن أخطرها هي الموجة الثالثة للتطبيع المندرجة في إطار ما سمي بـ "اتفاقيات أبراهام" والتي جاءت في أعقاب مرحلة جديدة تتلخص في سقوط اتفاق أوسلو وانهيار حل الدولتين وانسداد سبل الحوار بين سلطة أوسلو ودولة الاحتلال واستمرار الحصار على غزة والاعتقاد بخنق المقاومة فضلا عن الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني..

لقد انطلق قطار التطبيع في محطته الثالثة بسرعة هائلة لا يعادلها إلا السرعة التي سقط بها يوم السابع من أكتوبر، فحتى لو استمرت بعض الدول في إنعاش علاقتها مع دولة الاحتلال فإن خيار التطبيع كتوجه استراتيجي لتصفية القضية الفلسطينية من طرف دولة الاحتلال وحليفتها الاستراتيجية انتهى.

إن النظرية الواقعية هي التي أطرت ولازالت تؤطر اليوم الفاعلين الرئيسيين في هذا العدوان، رغم حرص الكثيرين على محاولة مواءمتها مع مقتضيات القانون الدولي والحرص على تمرير العديد من القرارات العدوانية من خلال مؤسسات الأمم المتحدة، وهي تجد جذورها الفكرية في عدد من المرجعيات الفلسفية التي تتعامل مع الإنسان ككائن شرير بطبعه من قبيل كتابات توماس هوبس على سبيل المثال، أو ككائن براغماتي بالدرجة الأولى ككتابات ميكيافيلي على سبيل المثال، لكن حجم الجرائم التي ارتكبت في غزة دفعت أحد كبار منظري المدرسة الواقعية وهو أستاذ العلوم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة شيكاغو  جون ميرشايم  ( John J. Mearsheimer)‏ للخروج عن صمته ليصف ما يجري في غزة ب"الكارثة الأخلاقية" وليتهم إسرائيل ب"التخلي عن اللياقة والقيام بذبح المدنيين عمداً" وليقول في حواره مع الموقع البريطاني UnHerd  "عندما ينظر المؤرخون إلى ما يحدث، يكون من الواضح موقفي من هذه القضية"، وهو ما يعني إدراكه العميق لحجم الكارثة وتنبؤه بأن القادم أسوأ.

في نفس الحوار يجزم جون ميرشايمر بأن حل الدولتين لم يعد احتمالا واقعيا، ليس فقط بسبب ما حدث في 7 أكتوبر وما بعده، ولكن لأن "هدف الإسرائيليين الحقيقي هو "تحقيق إسرائيل التي تضم غزة والضفة الغربية، أي إسرائيل كما كانت موجودة قبل حرب عام 1967" لكن المشكلة التي تواجههم هي المشكلة الديموغرافية، فهناك ما يقرب من 7.3 مليون يهودي إسرائيلي، كما يوجد حوالي 7.3 مليون فلسطيني داخل إسرائيل الكبرى، وهذا يخلق مشاكل ضخمة، بالنسبة لهم، مما يجعل الخيار المطروح أمامهم هو "دولة الفصل العنصري" اتجاه الفلسطينيين دون السماح لهم ببناء دولة حسب ميرشايمر..

والخلاصة:

نحتاج اليوم إلى وضع كل القيم والأفكار والفلسفات والمدارس الفكرية التي أنتجتها الحضارة الغربية تحت مشرحة النقد والتجاوز..

لقد آن الأوان لنا في العالم العربي للقيام بنقد صارم للتراث الفكري الغربي، والانطلاق من التراث الحضاري للأمة لبناء نظريات علمية أكثر عدلا وإنصافا، وأكثر التصاقا بالفطرة الإنسانية المجبولة على حب الخير والسلام ونبذ الظلم والطغيان والعلو في الأرض.

في الجزء الثاني نستلهم مجموعة من السنن والقواعد في صراع الحق مع الباطل من قصة فرعون التي تعتبر تجسيدا تاريخيا لهذا الصراع الذي يتكرر في الأزمنة والأمكنة كلما توفرت شروطه التاريخية..
التعليقات (0)