تقارير

محمد محمود صيام.. مسيرة شاعر فلسطيني جسد هوية وطنه في المنافي

محمد محمود صيام.. شاعر فلسطيني ولد في الجورة بفلسطين وتوفي في الخرطوم، وبينهما جاب العالم مدافعا عن هويته الفلسطينية
محمد محمود صيام.. شاعر فلسطيني ولد في الجورة بفلسطين وتوفي في الخرطوم، وبينهما جاب العالم مدافعا عن هويته الفلسطينية
تُوافق هذه الأيام الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر الفلسطيني الإسلامي الشيخ الدكتور محمد محمود صيام، الذي توفي في العاصمة السودانية الخرطوم في 15 شباط (فبراير) 2019، في محطة اللجوء الأخير، بعد أن تنقّل بين غزة والكويت واليمن ودرس في مصر والسعودية.

إذا وُجِدَ شاعرٌ تعيش معه من دون أن تراه، تتأثر به روحياً وفنياً من دون احتكاك، تتلقى شعره بسلاسة وترتوي منه بسهولة، قوي المعاني سهل الألفاظ، يقول الشعر كأنه يتكلّم.. فاعلم أنك قد رُزقتَ حبَّهُ وحبَّ الشعر معه.

قرأتُ عنه في بداياتي الثقافية، في كتاب "شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث" لأحمد الجدع وحسني جرار، في الجزء الثاني من السلسلة.. وما لبثت أن سمعتُ قصائده في أناشيد إسلامية وطنية.. وكتبتُ وأنا طالب عام 1990 مقالةً في مجلة طلابية، مستنداً إلى مقالة له في مجلة المجتمع الكويتية عن "دور الطلاب في الانتفاضة". حتى التقيتُهُ في بيروت عدة مرات في مطلع التسعينيات، حين جاء لزيارة المبعدين إلى مرج الزهور عام 1993، حيث التقى أصدقاءه المُبعدين من غزة.

لم أتوقع أن يكون ذلك الشيخ الكبير في القيمة والشيبة والبدن، ذو الطاقية البيضاء والملتفّ بعباءة العلماء، أن يكون بهذا التواضع والأريحية، وسهولة المعشر، فتلقينا محاضرة عن فلسطين، وسهرنا معه سهرةً مليئة بالذكريات، متدفقةً بالشعر، لطيفةً بالفكاهة والسخرية وحتى الرياضة، حيث خسرتُ معه شوطاً من كرة الطاولة، فكنت كلما "كبستُ" الضربة، يقول لي: الفكرة جميلة لكن التنفيذ فاشل. فأصبحت هذه العبارة محطّ كلام عندي حتى اليوم. وتعلمتُ أن الفكرة الجميلة لا تشفع لصاحبها إذا لم يكن مُتقِناً لعمله.

كان غزير الشعر، يقوله في كل شيء، حتى أنه عندما أوصى أحد الشباب على "المَرامِيَّة"، واستلمها أمامي قال بيتين فكاهيين من الشعر (أذكر أن معناهما: أم محمود تنتظر المريمية أكثر من انتظاري أنا، فشكراً لك لأنني سأستطيع العودة)، ولم تخلُ اللحظة من فائدة دينية تاريخية تراثية، فقال لنا إن سيدتنا مريم استخدمت هذه النبتة ليسهل عليها المخاض، وأن اسمها الحقيقي "المَريَمِيّة" وليس المتداول اليوم، رغم أن الأجانب يقولون أنها استخدمت "إكليل الجبل" الذي أسموه "روز ماري"، ولكننا أصحاب هذه الأرض وهذا التاريخ، وتراثنا أصدق.

وبعد سنوات، صرتُ محرراً في مجلة "فلسطين المسلمة"، وافتتحنا صفحة للذاكرة بعنوان "حصاد الأيام" تولَّيتُ شأنها، فكان الشيخ صيام أول من خطر ببالي، حيث كتب العديدون في هذه الصفحة، كل واحد حلقة أو حلقتين، إلا شاعرنا الذي كتب سلسلة من قصص الذاكرة الجميلة والمُعبّرة.. وهذا ما أتاح لي أن ألتقيه عدة جلسات لأستلم منه المادة المكتوبة بخطّ اليد، ثم أكتبها وأحرّرها وأقسّمها على حلقات.

وأدركتُ في هذه الجلسات فعلاً، ما كتبه الدكتور محسن صالح عنه لاحقاً في هذا الموقع، بعد وفاة شاعرنا: وجهٌ بشوشٌ، وقلبٌ صادقٌ، وتواضعٌ وأريحيةٌ وتلقائيةٌ وكرمٌ، وسرعةُ بديهةٍ، وروحُ دعابةٍ، وقريحةٌ شعريةٌ متدفقةٌ... تحملها روحٌ مسكونةٌ بالعمل للإسلام والعمل لفلسطين، ربطت نفسها بهذا المشروع منذ الطفولة وتحملت معاناتها، ودفعت أثمانها الثقيلة، عن رضى واحتساب وطيب خاطر.

حياته

ولد الشاعر الشيخ محمد محمود صيام عام 1937 في "جورة عسقلان" في فلسطين (ينقل د. محسن صالح عنه قوله: وُلد في مصر عام 1936 لأب فلسطيني من قرية الجورة، وكان شيخاً أزهرياً، ولأم مصرية). عاش في الجورة، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها. وإبان النكبة، في حرب 1948 لجأت العائلة إلى خان يونس، حيث ما لبث أن استشهد والده الشيخ محمود في قصف إسرائيلي على خان يونس مطلع عام 1949، فانتقل الطفل محمد صيام إلى رعاية عمه، يتيم الأبوين. وحين قدّم الامتحانات الابتدائية العامة في قطاع غزة كان ترتيبه الثاني على القطاع.

انضم صيام إلى الحركة الإسلامية على يد الشاعر أحمد فرح عقيلان سنة 1951، وبرز بينهم ضمن ظاهرة "الفتيان الكبار"، وهم شباب أغلبهم من المتفوقين في المرحلة الثانوية المتطلعين لأخذ دورهم كاملاً في العمل الجهادي والسياسي.

انتقل سنة 1955 إلى جامعة القاهرة لدراسة اللغة العربية، إلى جانب صديقه الشاعر عبد الرحمن بارود. وتخرج عام 1959، وعمل سنة واحدة في التدريس في قطاع غزة، ثم انتقل إلى الكويت في أيلول (سبتمبر) 1960، ليعمل في مجال التدريس. وهناك لم يتوقف عن العمل من أجل فلسطين، فعمل مع مجموعة من الشباب الإسلامي على ترتيبه، فأثمر لاحقاً عملاً طلابياً كبيراً في الكويت..

تفرغ علمياً للدراسة عام 1979 في جامعة أم القرى في مكة المكرمة، حيث أنهى الماجستير في عام واحد (1980)، والدكتوراه في عامين فقط (1982).

وفي سنة 1983، عاد إلى فلسطين للعمل مدرساً في الجامعة الإسلامية بغزة. وبعد بضعة أشهر، أَبعدت سلطات الاحتلال رئيس الجامعة، فتولى صيام رئاسة الجامعة بالوكالة، وتابع إدارتها خلال الفترة 1984 ـ 1988، حيث قاد سفينتها إلى وسط بحر متلاطم من تحديات الهوية التي فرضها الاحتلال والفصائل الفلسطينية. وكان في الوقت نفسه، خطيباً في المسجد الأقصى، جمعة واحدة في الشهر (حصة غزة)، يتناوب مع عدد من العلماء.

وحين انفجرت الانتفاضة الأولى، وانطلقت المظاهرات من الجامعة الإسلامية، برز دوره في الجامعة، وخطبه في الأقصى، فأبعده الاحتلال في تموز (يوليو) 1988 عن فلسطين، بتهمة التحريض، وعاد إلى الكويت.

تميز شعر الدكتور صيام بالسجية والتلقائية والشعبية، بالمعنى الإيجابي، فكان ينظم الشعر بسجيته وتلقائيته فيجري ما في قلبه ووجدانه شعراً على لسانه وقلمه، فيتلقاه الشعب بأبسط الألفاظ موصلاً أعمق المعاني. فهو شاعر مؤمن صادق موهوب، امتاز بقصائده الطوال التي تعبر عن آلام أمته وآمالها، وحظيت فلسطين بالنصيب الأكبر من شعره.

وقد ظهر في شعره كثير من أغراض الشعر. ظهر فيه "وصف" المعارك والقتال والكرّ والفرّ، و"الفخر" بالإسلام وانتصاراته وسمو منهجه، و"الهجاء" للأعداء، و"الرثاء" للشهداء و"الحنين" للوطن..

ويصف صيام شعره ومضامينه بهذه الأبيات:

كـرّسـتُ أبياتي وأشعاري وإن كانت قليله
للذود عن شعبي الأبيّ وعن عقيدته الأصيله
ولـرفـع راية الاستقامة والتدّين والفضيله
ولـكـشف كلّ دسيسة للخائنين وكل حيله
ولفضح ما يستوردون من الشعاراتِ الدخيله
ولِنزعِ أقنعةِ التستُّر عن وجوهِهمُ العميله

له القصائد الطوال الوافرة، وله الومضات القصار الخاطفة.. دون تكلّف أو تقصّد الفصاحة، يكتبها كما تجري على لسانه بما يعبّر عن أحاسيسه ووجدانه، بقوة الصياغة وعذوبة الأداء، ودفء الكلمة وحرارة التعبير.

وما أجمل معارضته لقصيدة أبي البقاء الرندي، كأنه يقارن فلسطين بالأندلس، وكلاهما فردوس مفقود:

"لـكـل شيء إذا ما تم نقصانُ"              ..                   أمـا مصيبتنا: الأحزانُ طوفانُ
والـناسُ لا فرح يبقى ولا ترح                 ..                  "مـن سره زمن ساءته أزمان"
أمـا فـلـسطينُ فالأتراح دائمةٌ              ..                   "قـتلى وأسرى فما يهتز إنسان"
وفـي جـنـينَ أحاديث مروعةٌ                 ..                   "وما لها من طوال الدهر نسيان"
"تلك المصيبة أنستْ ما تقدمها          ..                     فـديـر ياسين تحكيها وبيسان
"لـمثل هذا يذوب القلب من ألم         ..                     إن كان في القلب إسلام وإيمان"

وكذلك معارضته الساخرة لميمية المتنبي:

"على قدر أهل العزم تأتي العزائم"              ..            وتـأتي على قدر الضعاف الهزائم
وتـعـلـو مكانات الرجال بجدهم                  ..             ولا يـبـلـغ العلياء إلا المزاحم
وتـوطـأ بـلدان وَينْدُكُّ صرحُها                      ..               إذا لـم تذد عنها الخفاف الصوارم
ومن لم يكن ضرغامُه يدفع الردى            ..               ويـحمي حماه، تفترسه الضراغم

آثاره الأدبية:

ـ ديوان "دعائم الحق"، الكويت، 1981.
ـ ديوان "ميلاد أمة"، عمان، 1987.
ـ ديوان "سقوط الرفاق"، الكويت، 1990.
ـ ملحمة البراعم (في عشر حلقات)، الكويت، 1990.
ـ ديوان الانتفاضة، الكويت، 1990.
ـ الاغتيال منهج الاحتلال، اليمن، 2004
ـ ديوان ذكريات فلسطينية، اليمن، 2007.
ـ ديوان يوم في المخابرات العامة "صرخة فلسطيني عائد إلى وطنه"، القاهرة، 2008. أصل هذا الديوان قصيدة طويلة (من الكوميديا السوداء) أصدرها في شريط كاسيت عن اعتقاله لدى المخابرات.
ـ المعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي، أطروحة الدكتوراه، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1982
ـ طرفة بن العبد: حياته وشعره، رسالة الماجستير، مكة المكرمة، 1980.
التعليقات (1)
محمود النجار
السبت، 25-02-2023 02:16 م
رحمه الله رحمة واسعة، هو ابن قريتي وصديق والدي وبيننا نسب.. زارنا في الأردن في الثمانينات، ولم أعد أذكر التاريخ بالضبط، تربطني به علاقة تقدير واحترام كبير، إضافة إلى اشتراكنا في شرف الانتساب لآل البيت.. رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له العطاء، وبارك الله في كاتب المقال، وجزته هنا خير الجزاء.

خبر عاجل