صحافة دولية

MEE: لم يعد بإمكان "إسرائيل" التستر على مذبحة الطنطورة

المجرزة راح ضحيتها أكثر من مئتي فلسطيني في حيفا- أرشيفية
المجرزة راح ضحيتها أكثر من مئتي فلسطيني في حيفا- أرشيفية

قال المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابيه، إن وثائق كشف عنها مؤخرا تؤكد أن قوات الاحتلال الإسرائيلي ارتكبت جرائم بشعة في قرية الطنطورة الفلسطينية في مدينة حيفا، إبان نكبة عام 1948.


ويروي بابيه في مقال بموقع "ميدل إيست آي"، ترجمته "عربي21" تفاصيل ووثائق عن المجزرة سجلها طالب إسرائيلي قبل أكثر من 20 عاما مع جنود إسرائيليين متورطين في المجزرة، في إطار بحث قدمه لنيل درجة الماجستير في جامعة حيفا، حيث تعرضت الأدلة لمحاولة طمس بقرار قضائي، لكن فيلما وثائقيا أنتج حديثا كشف صحة الوثائق، وسلط الضوء على الفظائع التي ارتكبت في القرية المذكورة بحق المدنيين.


اقرأ أيضا: تفاصيل صادمة يرويها جنود الاحتلال عن مذبحة الطنطورة

 

اقرأ أيضا: كاتب إسرائيلي: النكبة الفلسطينية كان مخططا لها مسبقا


ولفت بابيه إلى أن "هناك 60 ساعة من المقابلات حول الطنطورة والكثير من الوثائق التي تثبت أن ما يقرب من مائتي قروي إما أطلقت عليهم النيران بدم بارد أو قتلوا على يد الجنود الغاضبين الذين عاثوا في القرية تدميراً انتقاماً لمقتل ما يقرب من ثمانية من زملائهم الجنود".


ووصف شهود عيان بشكل مروع عمليات الإعدام التي أشير إليها في الوثائق التي وصفت أيضاً القبور الجماعية التي حفرت بجوار المقبرة حيث يوجد اليوم موقف سيارات أقيم على أطلال الطنطورة.

 

 

وتاليا نص مقال المؤرخ إيلان بابيه:

 

في أواخر تسعينيات القرن الماضي كنت أدرس في جامعة حيفا، وكان أحد أهم المساقات التي درستها هو "النكبة"، وهو المساق الذي ما لبث تحت ضغط هائل من الجامعة أن أعيدت صياغته ليصبح اسمه "تاريخ وتدوين أحداث 1948". كان الطلبة يكلفون في المهمة الأساسية الموكلة إليهم بالبحث فيما حصل عام 1948 في الأماكن التي عاشوا داخلها أو ولدوا فيها.


كان أحد الطلاب خارقاً للعادة، وكان يكبرني سناً. كان مولعاً بنمط حياة الكيبوتز، يرتدي السراويل القصيرة حتى في أبرد أيام السنة، وكان يطلق شاربه في محاكاة لشارب ستالين. تجاوب بتلهف مع التكليف، واكتشف أن كيبوتز ماغال، حيث كان يعيش، أقيم على أطلال قرية زيتا. حاول بسذاجة دعوة الناجين من نكبة عام 1948 لزيارة الكيبوتز والتحدث مع المستوطنين الذين استولوا على قريتهم، إلا أنه تعرض للتقريع والتشنيع من قبل أقرانه من سكان الكيبوتز.


رغب الطالب تيدي كاتز في الاستمرار في البحث في أحداث 1948 في أطروحته لنيل درجة الماجستير، واقترحت عليه كتابة تاريخ دقيق للقرى التي تأثرت بالنكبة. فاختار خمساً منها إلى الجنوب من حيفا وعلى امتداد ساحل البحر المتوسط. اعتذرت عن الإشراف على أطروحته نظراً لأنني كنت وقتها على خلاف مع الجامعة حول كيف ينبغي تدريس وبحث تاريخ فلسطين، ولذلك لجأ إلى مشرفين من التيار السائد.


حصل البحث على علامة عالية بشكل استثنائي، وكشف الفصل الرابع منه من خلال الوثائق والمقابلات التي أجريت مع جنود ومع فلسطينيين أنه في شهر مايو / أيار من عام 1948، ارتكب الجيش الإسرائيلي مذبحة في قرية الطنطورة جنوب حيفا، في جريمة حرب تفللت من معظم، ولكن ليس جميع، التواريخ المعروفة للنكبة حتى ذلك الوقت.


كانت هناك 60 ساعة من المقابلات حول الطنطورة والكثير من الوثائق التي تثبت أن ما يقرب من مائتي قروي إما أطلقت عليهم النيران بدم بارد أو قتلوا على يد الجنود الغاضبين الذين عاثوا في القرية تدميراً انتقاماً لمقتل ما يقرب من ثمانية من زملائهم الجنود. وصف شهود عيان يهود وفلسطينيون بشكل مروع عمليات الإعدام التي أشير إليها في الوثائق التي وصفت أيضاً القبور الجماعية التي حفرت بجوار المقبرة حيث يوجد اليوم موقف سيارات تابع للكيبوتز الذي أقيم على أطلال الطنطورة.


الضغط المتراكم


لم يكن كاتز مضطراً لتسجيل المقابلات التي أجراها، ولكنه أسمعها لكل من كان راغباً في الاستماع إليها، بما في ذلك أنا شخصياً – وما زلت أحتفظ بنسخ لجميع الساعات الستين. نفس الجنود الذين اعترفوا بارتكاب المذبحة أرعبهم أن يعلموا بأن صحفياً وجد بحث كاتز مثيراً للاهتمام فقام بنشر ما توصل إليه من خلاصات في صحيفة معاريف اليومية. ولكنهم تحت ضغط من المحاربين القدامى الآخرين، وبمساعدة محام وثيق الصلة بالجامعة توجهوا إلى المحكمة حيث نفوا صحة الدليل الذي كانوا قد تقدموا به ورفعوا قضية على كاتز بتهمة التشهير.


طلبت الجامعة من كاتز تسليم الأشرطة لها، وكانت تلك هي غلطته الأولى، إذ لم يكن ملزماً بفعل ذلك. انطلاقاً من الأشرطة واعتماداً على بعض الاختلالات البسيطة بين ما ورد في المقابلات وتفريغ نصوصها المنقولة في البحث – حيث كان يوجد ستة من مثل هذه الاختلالات من بين مئات النقول والاقتباسات – توجه المحاربون القدامى إلى المحكمة، ورفضت المحكمة الدفاع عن بحث كاتز الممتاز.


ثم بدأت تتكشف فصول مأساة إغريقية. تحت ضغط من عائلته، وبعد أن مر بتجربة مريرة أثناء يومه الأول في المحكمة، اقتنع كاتز بكتابة اعتراف على الطريقة الستالينية بأنه قام متعمداً باختلاق قصة الطنطورة. ورغم أنه ندم على ذلك بعد ساعات قليلة إلا أنه فات الفوت، ولم يكن بالإمكان تجنب المراحل التي أعقبت ذلك.


أجبرته المحكمة على دفع تكاليف المحاكمة، وأصبح شخصاً منبوذاً داخل الكيبوتز الذي يعيش فيه. طالبته الجامعة بكتابة بحث جديد، ففعل ذلك، مضيفاً حتى المزيد من الأدلة الدامغة حول المذبحة – وعلى الرغم من أنه نجح إلا أنه حصل على علامة أدنى، وأزيل بحثه من المكتبة. لم يكن مستغرباً أن يعاني بسبب كل ما تعرض له من إجهاد لسكتتين دماغيتين، واليوم غدا ذلك الإنسان الذي كان ذات يوم مفعماً بالطاقة حبيس كرسي متحرك.


حملة نزع الشرعية


حصل كل ذلك في مطلع الألفية الحالية، ولقد عملت كل ما في وسعي لتشجيع الجامعة على تغيير سلوكها – وهو الجهد الذي كلفني في نهاية المطاف وظيفتي، رغم أنني كنت محاضراً معيناً تعييناً دائماً. نشرت حينذاك مقالاً باللغة العبرية ذكرت فيه أن مذبحة كانت قد ارتكب في القرية، ومع ذلك لم يجرؤ أحد على مقاضاتي في المحكمة.


حينذاك، وفي أحسن الأحوال، عمدت وسائل الإعلام والمؤسسة الأكاديمية في إسرائيل إلى السخرية من كاتز ومني شخصياً، وفي أسوأ الأحوال كانوا يصموننا بالخيانة. ما زالت الحملة التي شنها بعض كبار المؤرخين الإسرائيليين لنزع الشرعية عن عملي الأكاديمي مستمرة حتى اليوم. ويخذل الطلبة عن الرجوع إلى أعمالي، والتي يصعب على المرء العثور عليها في أي من المكتبات الجامعية، وقد تتسرب إلى الصحافة المحلية من حين لآخر تقارير بشعة عنها، على الرغم من أن مثل هذه التقارير لا تحظى بالقبول لدى المجتمع الدولي.


والآن، تمكن أخيراً منتج الأفلام آلون شوارز من الوصول إلى بعض أنصار هذه المأساة الإغريقية، فاعترف بعضهم أمام الكاميرا بأن كاتز كان يقول الحقيقة وأنه سجل بأمانة ما وقع من أحداث في عام 1948. بل تمكن شوارز باستخدام التكنولوجيا المتقدمة من الكشف عن القبور الجماعية ومن حث القاضية التي كانت تترأس المحاكمة الأصلية على الاعتراف بأنها لم تستمع إلى الأشرطة من قبل، وبعد الاستماع إلى واحدة منها، من ضمن ما ورد في الفيلم، أقرت بأن ما أصدرته محكمتها من حكم كان يمكن أن يكون مختلفاً.


في خضم كل ذلك، ينبغي علينا ألا ننسى ما هو مهم. لقد كانت المذبحة جزءاً من الجريمة الكلية ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل في عام 1948 وما زالت مستمرة في ارتكابها حتى يومنا هذا – وهي جريمة مازالت تُنكر على نطاق واسع. لن تكفي للتكفير عن تلك الجريمة كل الأفلام والأبحاث التي ينتجها يهود إسرائيليون من ذوي الضمائر الحية.


لن يسدل الستار على هذه الجريمة المستمرة سوى إنهاء الاستعمار لفلسطين التاريخية والتطبيق الكامل لحق العودة. في فلسطين الحرة والديمقراطية، قد تفيد إقامة نصب تذكاري لمذبحة الطنطورة في تذكيرنا جميعاً بهذا الذي وقع في الماضي. إلا أن هذا الماضي لا يتم الحديث عنه حتى الآن إلا على صفحات هآريتز، الصحيفة التي تعبر عن التيار الصهيوني الليبرالي، وما لم تتخذ إجراءات حقيقية لتصحيح خطيئة الماضي فإن مجرد الإشارة إليه بهذا الشكل لن تزيد الجرح إلا غوراً.

التعليقات (0)

خبر عاجل