كان يبدو الإلحاح على "الضربة الجوّيّة الأولى" في الخطاب الدعائي للنظام
المصري في حقبة مبارك، وكأنه تأسيس لحلقة من حلقات النظام الذي يستند في شرعيته إلى "ثورة" يوليو، ثم حرب أكتوبر. وإذا كان السادات مساهماً في تلك "الثورة"، فإنّه الرئيس الذي أطلق حرب أكتوبر، أمّا وقد تباعدت الحلقات، فإلى أيّ شيء تستند شرعية حلقة
السيسي الذي صعد إلى الرئاسة في سياق غير ديمقراطي، وعلى سلّم انقلابيّ واضح، ولم تكن له سابقة عسكرية تذكر، ولا هو من جيل "الثورة" ولا من جيل الحرب، كما أنّه لم يكن نائباً لرئيس سابق، بخلاف كلّ من السادات نائب عبد الناصر، ومبارك نائب السادات؟!
لا تنبثق الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية عن شعوبها المحكومة انبثاقاً طبيعيّاً، ومن ثمّ، في واقع الحال، فالشعب ليس هو مصدر السلطات، ولا هو المجدّد لشرعية النظام الحاكم، والذي لا يستند بدوره في استمراره إلى شرعية الإنجاز، وإنما إلى شرعية تاريخية تقادمت، بما يضعف مفعولها الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، كشرعية الثورة، سواء كانت ثورة حقيقية ضدّ الاستعمار كالثورة الجزائرية، أو الثورة الفلسطينية المعاصرة، أو كانت انقلاباً كما هو الحال في البلاد التي حكمتها أنظمة عسكرية/ قومية، أو شرعية السلالة، أو شرعية التوحيد والتأسيس. وإذا كانت هذه الشرعيات مفهومة في إنشاء الدولة، وفي تسويغ النظام في مراحله الأولى، فإنها غير مفهومة لمنح الديمومة لنظام أو لسلطة سياسية، لا تنبثق عن الشعب، أو لا تملك إنجازاً يعتدّ به.
لم تكن الصنيعة المخابراتية (30 يونيو)، بصالحة للتأسيس لشرعية الحلقة الجديدة في سلسلة النظام، حلقة عبد الفتاح السياسي، لقد انكشفت تلك المظاهرات سريعاً، والحلقة الجديدة من النظام، كما هو شأن النظام نفسه، شديدة العداء للفاعلية الشعبية، ومن ثمّ لم يعد ممكناً الاحتفاظ بنسخة 30 يونيو حتى لو كانت صنيعة أجهزة النظام.
نكّل السيسي بكل شركائه الذين ساعدوه في التأسيس لمرحلته، ابتداء من
عمليات التشويه للتجربة الديمقراطية التي صعدت بالإخوان للرئاسة، والحشد الممنهج ضدّهم، وانتهاء بتوفير الغطاء الشعبي للانقلاب الدموي، ومن لم ينكّل به همّشه، وانفرد بالسلطة ضمن شبكة زبائنية متحركة داخل النظام نفسه.
فضّ اعتصام رابعة هو التدشين الفعلي لحقبة السيسي، بما تمثّله هذه الحقبة من أيديولوجيا خنق المجال العامّ. فهذا الاعتصام من وجه ما كان استمراراً لثورة يناير، ومن وجه آخر انطوى على حقانية خالصة، وحيدة ومثابرة في وجه نظام انقلابي تمكّن من توظيف الغرائز الأوّلية لتجنيد غالب الوسط السياسي لصالحه. أمّا مظاهرات 30 يونيو فلم تكن إلا أداة قابلة للتخلص السريع منها، وإذا وفّرت الغطاء الشعبي للانقلاب العسكري، فإنّ أسلوبها (أي المظاهرة والحشد والاعتصام) مرفوض أن يتكرّس أداة للتغيير أو لمجرد الاعتراض السياسي، ولذلك كان لا بدّ، بعد توظيفها المؤقت، من محوها كأداة للتغيير بسحق الاعتصام النظيف الناهض على مضمون من الحقّ والجدّية والمبدئية، وهو اعتصام رابعة، وبهذا كان سحق اعتصام رابعة تأسيساً فعليّاً لحقبة السيسي بأكثر من اعتبار. إنّه الإعلان الصريح عن القطع مع ثورة يناير، والمنشور الدموي لأيديولوجيا السيسي وحلقته في سلسلة النظام.
يدرك السيسي تماماً بشاعة ما اقترفه، بالفضّ الدموي للاعتصام، كما يدرك وضاعة الخديعة التي أحاط بها الرئيس الذي رفع رتبته وعينه وزيراً للدفاع، فما المجد الذي يمكن للسيسي أن يدعيه في بقية (عقود) حكمه كما يأمل؟ لا بدّ والحالة هذه من إعادة تشكيل التاريخ والذاكرة على الفور، لتحويل البشاعة والوضاعة إلى مجد يمكن الافتخار به. ولمّا كان سحق الإخوان، والتآمر عليهم والمكر بهم، هو التأسيس الفعلي لصعود السيسي، فإنّ المعركة معهم راهنة وستبقى مفتوحة، حتى لو الجماعة نفسها لم تعد فاعلة، فاستدعاء التاريخ المزوّر واختلاق السرديات من أهم أدوات هندسة الوعي وصناعة الشرعيات الزائفة.
حتى الآن لا يملك السيسي إنجازاً يجدّد به شرعيته، وذلك وسط ما يلفّه من تشكيك، جرّاء الانتكاسات التي منيت بها مصر في الملفات الإستراتيجية الثقيلة، في الجغرافيا والغاز والمياه، وطبيعة العلاقة الغامضة مع الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يدفع نحو الاستدعاء المزمن واللحوح للحظة التأسيس الأولى، أي سحق الإخوان المسلمين، بعد إعادة تصويرها بما يجعلها إنجازاً وطنيّاً، ويجعل السيسي "الرئيس الضرورة"، و"الرئيس الاختيار" في الوقت نفسه، بحسب مصطلحات الراحل محمد حسنين هيكل!
السيسي لم يكن وحده في صناعة المذبحة، كما لم يكن وحده في الإدارة المريبة للملفات الثقيلة للدولة المصرية، مما يجعل الحاجة للعودة إلى لحظة فضّ رابعة حاجة للنظام كلّه، الذي بنى سمعته، على صور أسطورية، تدمج بين "وطنية النظام الناصعة"، و"تحفّزه الدائم ضدّ الأعداء الخارجيين"، وبين الوطنية المصرية العصابية المتمركزة حول الذات. وهذه السمعة التي جرى تصنيعها وتكريسها على مرّ عقود، تعاني الاهتراء وتواجه التشكيك بفعل السياق الذي صعد فيه السيسي، وبفعل تواطؤ أجهزة الدولة مع سياساته المريبة، الأمر الذي يحتاج عملية مستمرة وراهنة لتجديد السمعة والشرعية.
ومن هنا فإنّ التوظيف المكثّف للدراما، كما في
مسلسل "الاختيار"، وبالرغم من سخونة الحدث، وقرب العهد به وحضور شهوده، هو حاجة للنظام، وبما يعبّر عن أزمته، بقدر ما يعبّر عن انتصاره الراهن!
twitter.com/sariorabi