هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إذا كان فلاسفة القرن السادس عشر هم الذين
حرروا الفكر الإنساني، فإن فلاسفة القرن السابع عشر هم الذين وجهوا هذا الفكر.
أمعن علماء القرن الخامس عشر والسادس عشر في
الاكتشافات العلمية ومكامن الخطأ عند السابقين، محاولين استنباط الوسائل الكفيلة
التي تساعدنا في فهم قوانين الطبيعة.
مع ديكارت (1596- 1650) حصلت النقلة العلمية
والفلسفية الكبرى، فلقب بـ أبي الفلسفة الحديثة.
لم يكن ديكارت عام 1637 قد بلغ مرتبة الفيلسوف
الشهير التي سيحصل عليها بعد بضع سنوات، لم يكن الناس يتحدثون عن نظريته في
الحركة، ولم تكن الصالونات تناقش نظريته في المادة اللطيفة والكوجيتو.
غادر باريس عام 1619 فجأة وبشكل سري ليتنقل بين
الدول الأوروبية: فرنسا، البندقية، روما، هولندا، ألمانيا لمدة تسع سنوات متواصلة.
بدأ عام 1630 بكتابة أطروحة صغيرة عن
الميتافيزيقا، هدفها إثبات وجود الله، وأرواحنا عندما تكون منفصلة عن الأجساد،
الأمر الذي يترتب عليه خلودها، لكن مصير هذه الأطروحة كان مثل مصير الأطروحات
السابقة التي لم تكمل إلى نهايتها.
بعد ذلك، انكب على أطروحة واسعة النطاق من
شأنها رسم الخطوط العريضة لتفسير موحد للظواهر الطبيعية، ولم تنشر إلا بعد وفاته،
وعندما شرع في كتابة كتابه "العالم" في نفس السنة، سمع أن محكمة التفتيش
في روما أدانت غاليليه بسبب قوله بحركة الأرض، الأمر الذي دفعه إلى عدم نشر
الأطروحة.
في هذا الكتاب، دعا ديكارت إلى النظر للعالم
كما لو كان من نقطة ما في فضاء أو خلاء خيالي يمتد بعيدا في جميع الاتجاهات،
كالمحيط عندما ننظر إليه من نقطة ما فيه بعيدة جدا عن اليابسة.
وبعد ذلك، على المرء أن يتخيل الله وهو يخلق
نوعا مجهولا من المادة التي تملأ كل ركن من أركان الفضاء.
لقد كانت فكرة العالم الممتلئ عن آخره واضحة
جدا في فيزياء ديكارت، لكنها تصطدم بالعلم التقليدي، وتتعارض مع المنطق السليم،
حيث أدت به إلى افتراض وجود مادة دقيقة في أي جزء من الفضاء لا تحتوي على شيء مرئي
أو محسوس يمكن إدراكه بالحواس.
ورغم ذلك، ظن ديكارت أنه من الأسهل تبني فرضية
الشكل غير المحسوس للمادة على التأكيد على مبدأ عدم قبول الطبيعة لوجود الفراغ.
يضع ديكارت ثلاثة قوانين للطبيعة:
ـ القانون الأول وينص على أنه ما لم يحدث
اصطدام بجزء آخر، فإن كل جزء من أجزاء المادة يظل على شكله وحجمه وحركته.
ـ القانون الثاني وينص على أن جزءا واحدا من
المادة يمكن أن يكتسب حركة بفعل الاصطدام بنفس القدر الذي يمكن أن يفقده الجزء
المصطدم به.
ـ القانون الثالث وينص على أن حركة أي جسم
متحرك تميل إلى أن تكون مستقيمة، حتى ولو كانت في واقع الأمر دائرية أو منحنية
بفعل الاصطدام.
وبذلك، يكون ديكارت قد نسب التمدد والحركة إلى
المادة.
ولهذا دعا إلى تعلم الرياضيات، ولا يعني تعلم
الرياضيات اكتساب معرفة الأعداد والأشكال الهندسية وخواصها، فليس المهم تطبيق
الرياضيات على الطبيعة، بل المهم بالنسبة إليه هو الحصول منها على طريقة تجنبنا
الوقوع في الخطأ وتعويد الذهن على استعمال المنهج الموصل إلى اليقين.
يعتمد ديكارت المنهج الفرضي ـ الاستنتاجي الذي
ينطلق من الحقائق التي تدلنا عليها البداهة العقلية ومنها يستنتج النتائج، ومن هذه
النتائج يستخلص نتائج جديدة، وهكذا حتى يصل إلى النتائج التي تفسر الطبيعة.
وبهذا وضع ديكارت الأسس الفكرية عن الكون
المادي من منطلق التصور العقلي، وقد كانت بحوثه في البداية تهدف مثل بحوث كبلر وغاليليه
إلى التعبير الرياضي عن قوانين الطبيعة، لكن فكره ما لبث أن اتجه بعد ذلك في اتجاه
فكرة رياضة كلية لا تشغل نفسها البتة بالموضوعات الجزئية التي تدرسها الرياضيات
السوقية، من أعداد وأشكال وتراكيب وأصوات، ولا تهتم بالنظام والقياس.
ورغم ذلك، لم يهمل ديكارت التجربة، بل ألح على
ضرورة اللجوء إليها، للتأكد من صحة النتائج، ليس فقط في بداية البحث، وإنما في
نهايته، وهذا يعني أن التجربة بالنسبة له ليست من أجل القياس والاكتشاف، بل من أجل
التحقق مما قرره العقل مسبقا.
ووفقا لذلك، فإن أساس الفكر العلمي يكون مبررا
عند ديكارت في إحدى الحالات الثلاث التالية:
ـ عندما تكون النتائج التي نستخلصها منه
بالاستنتاج مشابهة لتلك الظاهرة، حتى لو كان هناك احتمال بأن عنصرا آخر خفيا هو
السبب الحقيقي في حدوث الظاهرة، فيكفي أن يكون الفرض يفسر الظاهرة، بشكل مرضي
ومقبول. حيث تتجلى هنا براغماتية ديكارت.
ـ عندما تكون النتائج التي نستخلصها منه
بالاستنتاج، متسقة تماما مع ما يحدث في الطبيعة.
ـ عندما يتبين لنا أنه لا يمكن تفسير الظاهرة
بغير ما فسرناها به، وفي هذه الحالة نكون أمام يقين في مستوى اليقين الرياضي،
ويكون اليقين ناتج عن كون الفرض نفسه قد يتحول إلى قانون لا يمكن استبداله بغيره.
الكوجيتو
أول إصلاح فكري يجب على الفيلسوف القيام به هو
التوصل إلى طريقة قويمة توصله إلى المعرفة الحقيقية، ثم الأخذ بهذه الطريقة في
النظر والعمل، ولهذا السبب رفض منطق أرسطو والقواعد المنطقية التي شاعت في القرون
الوسطى، لأنها تفرض الشيء الذي تطلب البحث عنه، ولا تصنع شيئا أكثر من أن تعرقل
حركة الذهن الطبيعية، لا بل هي توجه عقولنا في دائرة آلية، وتعفينا من التفكير،
دون أن تصل بنا للكشف عن الحقيقة.
ربط ديكارت العلوم في بعضها البعض، فالفلسفة
شجرة تشكل الماورائيات جذورها والفيزياء جذعها، والمسألة عنده هي وضع ميتافيزياء
تستخلص منها فيزياء.
وضع في كتابه الشهير "مقالة في
الطريقة" أربع قواعد للتفكير:
ـ لا أقبل أي شيء على أنه حق ما لم يتبين لي
بالبداهة أنه كذلك.
ـ أجزئ المعضلات المبحوثة إلى ما يمكن من أقسام
لحل هذه المعضلات.
ـ أسوق أفكاري بالترتيب، مبتدأ بأبسط الأشياء
وأيسرها علما، ثم أرتقي إلى المواضيع المعقدة.
ـ أجري في كل مجال إحصاءات وافية ومراجعات
شاملة.
هذه الطرق تستلزم وسيلتين: الحدس ويعني فيه
الوعي المتيقظ الواضح الذي لا يدع مجالا للشك، والثانية هي الاستنتاج، وتعني
استخلاص شيء جديد من شيء نعرفه تمام المعرفة.
انطلق ديكارت من الكوجيتو: أنا أشك وأعلم أنني
أشك، وبالتالي أنا أفكر، وما دمت أفكر، فأنا موجود.
حالة الشك أكدت وجودية الإنسان، لكن وجود هذا
الإنسان هو وجود ناقص، ووجود فكرة النقص في العقل أوجدت مقابلها، أي الوجود
الكامل، فلا يعقل أن يكون الناقص مصدرا للكمال.
وفكرة الكمال وجدت في العقل من خلال الكائن
الكامل، وهذا الكائن الكامل لا بد أنه موجود، ووجوده كامل لا نقص فيه، ولما كان
هذا العالم من حولي موجودا ولم يكن لي يد في صنعه أو ضبطه، فلا بد أن الكائن
الكامل هو الضامن لقوانين هذا العالم.
هكذا، تنطلق عملية المعرفة من الأفكار الواضحة،
ونستنتج من هذه الأفكار أو المعرفة التطبيقات الصحيحة التي تمكن الإنسان من
السيطرة على العالم.
بعد أن يثبت وجود الله، ينتقل ديكارت إلى وجود
العالم، فيثبت أن الماديات ممكنة، والله يستطيع إحداث الممكنات، ثم إن في الإنسان
قوة حاسة هي قوة انفعالية تتطلب قوة فعلية تثري فيها أفكار المحسوسات، وهذه القوة
الفعلية ليست في الإنسان، وإنما هي خارجة عنه، ولا بد ان يكون الله هو الذي خلق هذه
الأشياء المادية في العالم.
هدف ديكارت كان مراجعة للذات من جميع ما آمنت
به من أجل بناء قواعد راسخة وثابتة فهو شك من أجل إعادة البناء.
ومن الغريب أن مذهب الشك لم يقد ديكارت إلى
الإلحاد كما حدث مع آخرين، هل كان مؤمنا
بوجود الإله حقا، أم أنه خشي من محاكم التفتيش؟
مقولة ديكارت عن الشك والغزالي
عمل محمود حمدي زقزوق في كتابه "المنهج
الفلسفي بين الغزالي وديكارت"، ونجيب محمد البهبيتي في كتابه "المدخل
إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين" على إثبات أن ديكارت أخذ الشك من أبو
حامد الغزالي.
ويذكر الباحث التونسي عثمان الكعاك أنه عثر على
ترجمة لكتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في
باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالخط الأحمر وضعها ديكارت بنفسه تحت عبارة الغزالي
الشهيرة "الشك أولى مراتب اليقين"، وعليها حاشية بخط يد ديكارت بعبارة
"تُنقل إلى منهجنا".
ويعلق زكي نجيب محمود في كتابه "رؤية
إسلامية" على مقولة الإمام الغزالي في مسألة الإرادة فيقول: لا بد أن تكون
هذه الصيغة التي اخترناها لنصب فيها الوقفة الغزالية، قد ذكرتك بالصيغة الديكارتية
المعروفة أنا أفكر، إذن أنا موجود وحقيقة
الأمر هي أن الشبه شديد من حيث المنهج وليس من حيث المحتوى بين الغزالي وديكارت.
ويتابع زكي نجيب محمود بالقول إن من الجوانب
التي جاءت مشتركة بين الغزالي وديكارت أن كليهما أقام دليله على وجود الله، على
الطريقة التي أثبت بها وجود نفسه، لكن الفرق بينهما في ذلك هو أنه بينما تعقب
الغزالي في ذاته فاعلية الإرادة، كانت فاعلية الفكر هي التي تعقبها ديكارت، فكأنما
يقول الغزالي انه إنما موجود ما دام كائنا مريدا، على غرار ما قاله ديكارت بعد ذلك
إنه موجود ما دام كائنا مفكرا.