وَلَجَتْ مقالتي السابقة الموسومة بـ"عن حلّ السلطة.. وسؤال ما العمل؟!" إلى نقاش لا يكاد يتوقف في أوساط نخب ثقافية فلسطينية، يبحث في الانسداد الذي تعانيه القضية الفلسطينية في هذه اللحظة بالغة الخطورة. وأرادت (أي المقالة) القول إنّ المشكلة ليست في قلّة الأفكار وإنما في إرادات الفاعلين السياسيين، الذين لم يسفروا عن أدنى نيّة للتعاطي الإيجابي مع تلك المقترحات، التي صارت مكرورة إلى حدّ كبير، وإن كان تكرارها والإلحاح عليها لا ينتقص من قيمتها، بيد أنّنا جميعا نقف عاجزين إزاء سؤال كيف؟! إلا إذا كانت وظيفة المثقف أن يُلقي أطروحته ثم يدير ظهره للواقع المستعصي على الاستجابة لمقترحاته.
التنبيه إلى أن المشكلة في الإرادات لا في الأفكار، لا يُقدّم في حدّ ذاته حلا، ولكنه يحيل النقاش إلى ساحة أخرى، وهي كيفية كسر الإرادات الممتنعة عن الاستجابة لمتطلبات التغيير الجادّ. وهذا التحوّل في النقاش من الطرح المجرّد للأفكار، إلى مناقشتها في سياق عملي يلاحظ العقبات كلّها، قد يكون اختبارا لبعض تلك المقترحات التجريديّة، التي بسبب الانغلاق، وتردّي المحيط العربي، واختلال الميزان الدولي، وانقسام الفلسطينيين وعجزهم، تبحث عن حلّ، مؤدّاه في النتيجة حلّ المسألة اليهودية لا القضيّة الفلسطينية، كالنضال في سبيل تعايش مشترك متساوٍ. وهي إلى ذلك لا تقدّم برامج عمليّة قابلة للمضيّ بمثل هذا المقترح، لكنّنا لو انصرفنا لمناقشة عقبات الواقع الذاتي الفلسطيني، والبحث عن ثغرة منها للنضال، قد يتبيّن لنا أنّ النضال في مسارٍ آخر هو الأولى والأجدر والأكثر عدالة وإنصافا، دون أن يغيب عنّا أن القضيّة الفلسطينية أكبر من العامل الذاتي الفلسطيني وحده.
لو انصرفنا لمناقشة عقبات الواقع الذاتي الفلسطيني، والبحث عن ثغرة منها للنضال، قد يتبيّن لنا أنّ النضال في مسارٍ آخر هو الأولى والأجدر والأكثر عدالة وإنصافا، دون أن يغيب عنّا أن القضيّة الفلسطينية أكبر من العامل الذاتي الفلسطيني وحده
بعض المهتمين فهموا أنّ تلك المقالة تعوّل على الفاعلين السياسيين وتخاطبهم. وبالرغم من أنّه لا مشكلة في مخاطبة الفاعلين السياسيين، بل هو أمر لا بدّ منه، فإنّها في الحقيقة كانت تنبّه إلى غياب إرادة التغيير عنهم، وهذا بالضرورة ليس تعويلا عليهم، وإنّما تحذير من أنّ مجرّد مخاطبتهم غير مُجْدٍ، مع أهمية الاستمرار في طرح الأفكار في الفضاء العام.
يبقى أن آخرين فهموا من تلك المقالة أنّها تتوسّل حلا لهؤلاء الفاعلين، ولا سيما الطبقة الفلسطينية الحاكمة. والرأي حينئذ عند هؤلاء المهتمين الناقدين أنّ البحث عن حلّ لمشكلة تلك الطبقة ليس من واجبنا، ولا ينبغي أن يكون له حظّ في اشتغالنا، وإنما فليدفعوا ثمن خياراتهم، وليختر الشعب طريقه بنفسه. وبالرغم من أنّ تلك المقالة، لم تكن تبحث في حلّ ينقذ السلطة أو الاتجاه الذي دفع نحو وجودها، فإنّ هذا النقد فيه قدر كبير جدّا من الخطابة، التي لا تلاحظ الموضوع في كامل حيثياته الواقعية.
حينما يكون لدينا أيّ مقترح، أو تصوّر للخروج من الأزمة، ولو بتثوير الشعب، فينبغي حينئذ دراسة الواقع كما هو، كالظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعانيها الشعب، ومستوى التسييس والتعبئة في صفوف الشعب، واتجاهاته الفكرية والسياسية، وأثر سياسات السلطة الطويلة عليه من حيث أولوياته ووعيه بقضيته، والممكنات النضالية التي تستفيد من تجربتنا الكفاحية الطويلة بإنجازاتها وأخطائها، وتدرك عقبات الواقع، ومن ثم وتيرة الفعل النضالي وعوامل استمراره.
تصحيح مسار السلطة، بوضعها على مسار نضاليّ جديد، هو مساهمة في حلّ مشكلة الفلسطينيين جميعا، فصلاح أيّ فاعل سياسي، واهتداؤه للخط السياسي الصحيح، هو مصلحة الجميع التي تعلو على الرغبة في تدفيع الآخرين ثمن أخطائهم
لا يمكن أن يغيب عنّا، والحال هذه، موقع السلطة من ذلك كلّه، سواء في المسار الطويل الذي وصل بنا إلى هذه اللحظة، أو بدورها الراهن إن كانت عقبة أمام التغيير، أو كان التغيير يتطلب شكلا من المعالجة لها. فنحن لا نتحدث عن كيان منفصل، بل عن كيان يرتبط به الفلسطينيون عضويّا، وتتصل به أرزاقهم ومعايشهم وأمنهم. ومهما كانت المشاعر تجاه نخبة السلطة، ومهما كانت المسؤوليات التي نحمّلها لها عن هذه الكارثة، فإنّ أزمتها من أزمتنا، ومشكلتها منعكسة علينا بعمق، ولا يمكن إغفال ذلك حين التفكير له، فالبحث عن حلّ لها هو بحث عن حلّ لنا جميعا.
إنّ تصحيح مسار السلطة، بوضعها على مسار نضاليّ جديد، هو مساهمة في حلّ مشكلة الفلسطينيين جميعا، فصلاح أيّ فاعل سياسي، واهتداؤه للخط السياسي الصحيح، هو مصلحة الجميع التي تعلو على الرغبة في تدفيع الآخرين ثمن أخطائهم، كما أن دفع الثمن، في علاقات متداخلة ومعقّدة لن يقتصر على تلك الطبقة، وإن كنّا مجدّدا نذكّر بغياب الإرادة لدى تلك الطبقة. فالتوجّه بالخطاب لتلك الطبقة بدافع المسؤولية والرغبة في المساهمة في التغيير وإثراء النقاش الجاري ينبغي ألا ينطوي على أيّ أوهام من حيث التعويل عليها، وإنّما وكما في الآية الكريمة "مَعْذِرَة إِلَىٰ رَبِّكُمْ".
twitter.com/sariorabi