مقالات مختارة

التجربة السويدية في التعامل مع جائحة كورونا

عبد الباسط سيدا
1300x600
1300x600

النموذج السويدي في ميدان التعامل مع جائحة كورونا “كوفيد- 19” التي اخترقت معظم دول العالم، وكانت أوروبا، وما زالت، هي الأكثر تضررا بها ، يستوقف الجميع داخل وخارج السويد. فهناك من يستنكر برودة أعصاب السويديين في تعاملهم مع هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة، وهي الكارثة التي اعتبرت دول عظمى نفسها في حالة حرب مع مسببها غير المرئي، رغم انتشارها في العديد من المدن السويدية الأساسية، وفي المقدمة منها ستوكهولم، وهناك اليوم مخاطر جدية بامتدادها نحو مدن أخرى كبرى مثل مالمو، ويوتوبوري (غوتنبرغ)، وأبسالا.

ومن بين أشد الانتقادات التي تعرضت لها السويد، تلك التي وجهها إليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي شكك في أطروحة مناعة القطيع، ودعا إلى اعتماد أسلوبه في مواجهة الجائحة.

 

وقد أثارت هذه الانتقادات حفيظة وزيرة خارجية السويد آن ليندي التي رأت أنها لا تستند إلى معلومات موثقة؛ فالسويد تحاول قدر الإمكان تسطيح منحنى الإصابات، حتى لا ينهار نظامها الصحي، ويكون في مقدوره القيام بواجباته في مجال تقديم المساعدة للمحتاجين. أما مناعة القطيع فليست محور الاستراتيجية المتبعة، ولكن إذا تحققت هذه المناعة بأقل الخسائر والتكاليف، فما المانع.

هذا في حين رفض رئيس الوزراء ستيفان لوفين التعليق عليها، وبيّن في أكثر من مناسبة أن السويديين أيضا يعتمدون استراتيجية التباعد والإبعاد والعزل، ولكن كل بلد يطبق هذه الاستراتيجية بأسلوبه، ووفق ما يتناسب مع طبيعة وضعه. فالسويد قد طبقت أسلوب التعليم عن بعد في الجامعات والمدارس الثانوية.

 

ومنعت زيارة دور المسنين، ومنعت تجمعات المناسبات العامة التي يزيد أعداد المشاركين فيها عن الخمسين، كما أعطت الكثير من التوجيهات الخاصة بالمطاعم والمقاهي، وضرورات المحافظة على مسافات الأمان، وهي مستعدة عند الحاجة لإعطاء المزيد من التوجيهات، واتخاذ المزيد من الإجراءات. وهي كلها توجيهات وإجراءات يلتزم بها السويديون بصورة شبه كاملة.


وما يدور حوله الجدل كثيرا خارج السويد هو أن حكومة هذا البلد لم تغلق البلاد، كما فعلت معظم الدول الأوروبية الكبرى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، وإلى حد ما ألمانيا وهولندا. ولم تعلن حالة الطوارئ القصوى. كما أنها لم تنزل الجيش إلى الشوارع لإرغام الناس على الالتزام بتعليماتها؛ بل اعتمدت حكومة الأقلية التي يقودها ستيفان لوفين، رئيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي، منذ اللحظة الأولى استراتيجية الالتزام بتعليمات وتوجيهات الأطباء والمختصين في الهيئة الوطنية العامة للصحة، ولم تتأثر الحكومة المعنية بالضغوط التي مارستها أوساط صحافية، وحتى طبية خارج نطاق الهيئة الرسمية المعنية؛ وهي ضغوط كانت بهدف دفع الحكومة نحو اعتماد إجراءات العزل شبه التام التي اتخذتها غالبية الحكومات الأوروبية، بما فيها حكومات إسكندنافية.

كما درست الحكومة السويدية الوضع بعناية فائقة، ووازنت بين انتشار الفيروس ومخاطره، وبين الإمكانيات المتاحة، والاحتمالات المتوقعة في المستقبل المنظور. والجدير بالذكر هنا هو أن الدول الإسكندنافية تتابع تجربة السويد عن كثب، وهي تدرس الآن موضوع السماح بعودة الطلاب إلى مدارسهم بعد إجازة عيد الفصح، وذلك بناء على النتائج التي كانت في السويد حتى الآن.


لقد تعاملت الهيئة الوطنية العامة للصحة مع الجائحة بهدوء وعقلانية لافتين، رغم أنها كانت في مواجهة أزمة استثنائية بكل مقياس مع فيروس لا يُعرف عنه الكثير؛ ولا توجد حتى الآن أية أدوية لعلاجه؛ كما لم يتم التوصل بعد إلى لقاح مضمون من شأنه مساعدة الناس على وقاية أنفسهم منه. لا توجد أية قواعد واضحة مضمونة تساعد الناس على معرفة أفضل الطرق لتجنب العدوى.

 

ولكن المعارف والخبرات السابقة في ميدان التعامل مع الفيروسات، دفعت بالمعنيين في الهيئة المذكورة إلى اعتماد استراتيجية اتخاذ كل الإجراءات التي تؤدي إلى تأخير أو إبطاء عملية الانتشار السريع للفيروس، وهو ما بات يعُرف لدى المختصين بـ “تسطيح منحنى الإصابات”؛ خاصة أن الإحصائيات الواردة من الصين وإيطاليا وفرنسا تؤكد أن نسبة الوفاة بين ضحايا الفيروس متدنية جدا قياسا إلى الأوبئة الأخرى؛ وهي تقتصر بصورة عامة على المسنين وذوي المناعة الضعيفة جدا نتيجة بعض الأمراض المزمنة.

لذلك لم تطالب الهيئة المذكورة بإغلاق المصانع والأسواق المطاعم، وحتى محلات الحلاقة. كما لم تشجع على إغلاق المدارس الأساسية (الابتدائية والإعدادية). ولكنها في الوقت ذاته دعت إلى الالتزام بالحذر وعدم السفر ما لم يكن هناك سبب ضروري يدعو إليه. ومن باب الاحتياط قررت الهيئة المعنية إغلاق المنتجعات المخصصة للتزلج على الثلج أمام المواطنين أثناء عطلة عيد الفصح.


كما اعتمدت الهيئة الوطنية العامة للصحة نهج الشفافية التامة مع السويديين. فهي لم تتلاعب بأعداد الوفيات والمصابين، ولم تعط الآمال الكاذبة. والسويديون، بناء على التجربة الديمقراطية المستقرة الطويلة، يثقون بمؤسساتهم، ويلتزمون بتعليماتها وتوجيهاتها، من دون الحاجة إلى أية إجراءات زجرية إرغامية. كما أن الإعلام السويدي المستقل سياسيا وماليا يمارس دوره المطلوب على أكمل وجه من ناحية إجراء التحقيقات، والمتابعة والكشف عن الأخطاء وحالات الفساد، وإتاحة المجال أمام الجميع للتعبير عن أفكارهم ومقترحاتهم وانتقاداتهم بكل حرية، وبغض النظر عن توافقها أو تعارضها مع سياسات الحكومة ومؤسساتها.

أما الحكومة، فقد كانت وما زالت في حالة انعقاد شبه دائمة، إذ تحولت إلى خلية عمل متكاملة. وهي حريصة منذ بداية الأزمة على التفاهم والتعاون مع الأحزاب المساندة لها من خارج الحكم، ومع الأحزاب الأخرى المعارضة لها؛ وتوافق الجميع على اتخاذ كل التدابير والإجراءات لمواجهة جائحة كورونا من جهة، والأزمة الاقتصادية الناجمة عنها، وانعكاساتها على حياة الأفراد والشركات الصغرى والكبرى والمجتمع بصورة عامة من جهة ثانية.

وتم التوافق حتى الآن على توزيع خمس رزم من المساعدات المالية، تبلغ الأموال المخصصة لها مئات المليارات من الكورونات السويدية بصورة عاجلة، لدعم القطاع الصحي، ومساعدة الذين فقدوا أعمالهم ووظائفهم بكل أصنافهم، ومن دون أي تمييز. هذا إلى جانب مساعدة البلديات والمحافظات بعد أن فقدت الكثير من مداخيلها نتيجة تراجع وتيرة العمل في عدد من القطاعات الإنتاجية والخدمية.


وهناك عمل مستمر في ميدان بناء المشافي الميدانية، وزيادة أجهزة التنفس الاصطناعي، وتأمين مستلزمات الحماية الخاصة بالنسبة إلى العاملين والعاملات في الحقل الصحي الذين التزموا بالعمل ساعات إضافية، بل تطوع الكثير من المتقاعدين الذين خدموا سابقا في القطاع الصحي، بالإضافة إلى العاملين في المجالات الأخرى، للمساعدة على تغطية النواقص، والتخفيف من الضغط المتزايد على هذا القطاع. كما اتخذت الحكومة إجراءات الحوافز الاقتصادية لهؤلاء العاملين، وتكفلت بتغطية نفقات الإجازات الصحية لجميع العاملين، وذلك لتمكين الناس من أخذ الاحتياطات اللازمة؛ وعدم تعرضهم أو تعرض مؤسساتهم للخسائر الناجمة عن ذلك.

وقد أسهمت كل هذه الخطوات في استمرارية الحياة في مختلف المؤسسات الاقتصادية التي تكيّفت مع الأزمة، إذ يعمل الكثيرون من منازلهم، مستفيدين من التقنيات الرقمية المتطورة الموجودة. وفي موازاة كل ذلك، يتسابق الباحثون المختصون في مجالات الأوبئة والأدوية واللقاحات مع الزمن من أجل الوصول إلى دواء ناجع لمعالجة ضحايا كوفيد-19، ولقاح مضمون لتقديمه إلى الناس من أجل الوقاية.
مضى أكثر من شهر ونصف على اكتشاف أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا في السويد، وعدد الضحايا من الوفيات والمصابين ما زال حتى الآن ضمن الحدود المتوقعة المفهومة.

السويديون، شأنهم في ذلك شأن غيرهم، يواجهون المحنة وهم على استعداد لمختلف الاحتمالات بالحكمة والعقلانية والهدوء كعادتهم دائما. المؤسسات الديمقراطية تؤدي دورها على أكمل وجه، ولكنها تأخذ بعين الاعتبار رأي جهة الاختصاص. وجميع القرارات التي تؤخذ عادة بعد مناقشات معمقة، وبمشاركة كل الاتجاهات وعلى مختلف المستويات، تمتلك بذاتها سلطة معنوية يلتزم بها الناس عن طيب خاطر.

وما يستوقف في اللوحة السويدية هو التركيز على العلم السويدي وإظهاره كرمز لوحدة السويديين وتضامنهم في زمن محنة غير مسبوقة، مجهولة الأسباب والنتائج. وما يطمئن كثيرا هو أن الكل يقوم بواجبه ضمن إطار استراتيجية عامة، توافق الجميع على أنها الأصلح حتى الآن.


وأخيرا وليس آخرا، لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى الدور الكبير للمرأة السويدية التي أثبتت كالعادة كفاءتها القيادية المتميزة. وهذا أمر ربما لا يثير انتباه السويديين أنفسهم كثيرا، لأنه بات من المألوف اليومي لديهم منذ عقود؛ ولكنه بالنسبة لمجتمعاتنا ما زال في عداد الأحلام والتمنيات المطلوبة للنهوض.

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)