قضايا وآراء

هل نشهد ميلادا ثالثا للأمم المتحدة؟؟

1300x600
1300x600
ميلادان للأمم المتحدة شهدتهما البشرية، الأول (عصبة الأمم) بعد الحرب العالمية الأولى (1919م)، بموجب معاهدة فرساي بهدف تعزيز التعاون الدولي وتحقيق السلام والأمن، بين حلفاء منتصرين (المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا، فرنسا والإمبراطورية الروسية)، وضعوا كل شروطهم في المعاهدة. وطرف منهزم (دول المحور: الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية ومملكة بلغاريا)، دورهم التوقيع فحسب؛ دفعت البشرية (16) مليون قتيل، و(20) مليون مصاب. واستخدمت فيها الطائرات والبوارج والدبابات والبنادق وغيرها.

لأن ما بني في فرساي بني على الطغيان والظلم والجبروت والاغترار بالقوة، فإنه لن يقف عند حق أو عدل أو إنسانية، لذلك لم تفلح عصبة الأمم المتحدة في تحقيق السلم والتعاون، لأنها صناعة بأيدي منتصرين جبابرة، فاشتعلت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، التي انتهت بعد إلقاء أمريكا قنبلتين نوويتين على مدينتين يابانيتين (هيروشيما وناغازاكي)، وخسرت البشرية ما يزيد على (60) مليونا، وأهم النتائج تشكيل خريطة القوى الدولية الجديدة، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية فاعلا رئيسيا في النظام الدولي الجديد، وسجل العالم الميلاد الثاني (لمنظمة الأمم المتحدة) لتكريس سيطرة المنتصر على شؤون العالم كافة، ولأنه منتصر، والقوة مصدر البطش والجبروت، فقد عاشت البشرية، منذ الميلاد الثاني ولغاية اليوم، أنواعا شتى من الظلم والقهر والتفرد، وتقمصت أمريكا دور المشرع والقاضي والمنقذ للبشرية، فوصلت حال البشرية إلى ما وصلت إليه من وضع محزن.

فلسفة الأمم المتحدة، وضعتها دول انتصرت في حروب تقليدية على دول مهزومة، لذلك مثلت وجهة نظر السطوة التي لا ترحم، والأنانية البغيضة التي لم تقم للعنصر البشري ذي الأصل الواحد قيمة أو اعتبارا.

واليوم نشهد حرب الكورونا، هذا الحدث الفريد، الذي قد يكون يتيما في تاريخ البشرية، حربا اختلفت وسائلها؛ ساحتها الكرة الأرضية كلها، وهدفها الوجود البشري كله، ويمكن تلخيص ملامح هذه الحرب بالآتي:

- بالطريقة ذاتها التي تسلل الإنترنت فيها إلى بيوتنا، تسلل الموت والرعب، وبالسرعة والانتشار ذاته، ودون شعور أو إنذار.

- العالم في حرب لا مهاجم فيها، ولا أحلاف ولا تجمعات ولا جماعات، بل الجميع في حالة دفاع فردي (كل دولة وحدها)، والذي يهاجم الجميع غير منظور ولا محسوس، وكل بدأ دفاعه على طريقته، ووفق إمكاناته.

- أعظم الأسلحة الدفاعية في هذه الحرب أجهزة التنفس، وأسرة العناية المركزة، والمعقمات، ومناديل التنشيف، والكمامات، وأدوات التنظيف، كم هي بسيطة هذه الأسلحة!! ولكن الدول عجزت عن توفيرها لمواطنيها، فانكشفت الأحوال، والمواطن المرفه الذي اعتقد بقوة دولته العظمى، صدم بأنها غير قادرة على توفير علبة مطهر ليديه ولا كمامة!!!

- رتبت دول الرفاه العظمى أمرها على التخلص من كبار السن، فسقطت أخلاقيا قبل أن تسقط قانونيا (الدساتير تحمي حق الحياة).

- هذا المجهول فرض مبدأ المساواة الذي لم تستطع قوانين الأرض ولا المنظمات الدولية أن تفرضه، استطاع أن يوقف جميع الدول في صف واحد، تحاذت فيه المناكب، وتباعدت المسافات بالقدر الذي يفرضه قانون التباعد الاجتماعي، فتقاربت الدول في مستواها الفني وتباعدت في تفاعلها مع الحدث، منها ما استهتر ولم يكترث، ومنها ما استجاب مباشرة.

- ظهرت عورة القانون في بعض الدول التي كانت تصنع القانون في لحظة لمعاقبة الدول الأخرى، ففي أمريكا نفدت محلات بيع السلاح أولا، قبل الطعام، ما يعني أن الأمن الفردي مهزوز.

وهجم المواطن الأمريكي على المحلات التجارية ناهبا كل شيء، ولم تستطع الشرطة عمل أي شيء، ما يعني أن الأمن القانوني لدى الفرد أيضا مهزوز، وكذلك الأمن الغذائي، ولو كان يثق بقدرة الدولة على حمايته وتأمين معيشته، لما تجرأ على ذلك.

- ظهرت حاجة الجميع للجميع، على المستوى الوطني والدولي، بل قل تبدلت فلسفة تعامل الداخل الوطني مع أجزائه، ما يفرض إعادة النظر في فلسفة التشريع، فعندما تقدم المافيا في إيطاليا مليارات الدولارات مساعدة للدولة لمواجهة الجائحة، بينما يحجم أغنياؤها عن ذلك، يعني أن هناك خللا في نظرية التجريم في الدولة، ما يحتم على المشرع تغيير فلسفته التي سار عليها، المبنية على الليبرالية التي أثبتت بعدها عن وجدان البشر وفطرته.

وبين الدول، ظهرت هشاشة الروابط الاقتصادية الجامعة، وانكشفت البشرية أمام ذاتها، فهذا الاتحاد الأوروبي يتخلى عن مساعدة دول كانت لبنة فيه ترتجي التلاحم (إيطاليا مثلا)، وذهبت إلى الأخ في الإنسانية البعيد فاستجابت (تركيا مثلا)، فما فائدة كل نصوص الاتحاد والتوحد إذا كانت المصلحة الذاتية فوق كل الاعتبارات والارتباطات والتعاهدات؟!

- مبدأ العهد شريعة المتعاهدين فقد متانته، وتحللت دول من التزاماتها تحت ذريعة القوة القاهرة، والأصل أن هذه القوة القاهرة التي تعم الجميع يكون أثرها على الجميع بالقدر ذاته، ويكون ذلك مدعاة التكاتف لا التخالف.

- هذا القانون الدولي الذي يقوم على القوة قد سقطت سطوته ووظيفته، فلم يعد للقوة مكان، ولا سطوة للرأس الكبير، ولم تعد الدول العظمى مقصدا لحل المشكلة أو مصدرا لجلب نفع أو دفع ضر.

- النقطة الجوهرية في الموضوع كله، أن البشرية من غير دين لا قيمة لها، أمس القريب سقطت الشيوعية، واليوم سقطت الليبرالية، والإنسان شعر بشكل عميق أن المنقذ هو خالقه، ولا أحد سواه، فهرع إليه عز وجل، راضيا أو مرغما، واستمطرت البشرية رحمته، ولا مبالغة في القول بأن الإسلام هو طريق البشرية القادم، لأنه يملك مقومات العدالة الموضوعية بين البشر، بصرف النظر عن الدين واللون والعرق، فقط لأن الجميع أخوة من أصل واحد.

وهذا الأمر بالذات، الأصل أن يكون له عظيم الأثر في فلسفة التشريعات، الوطنية والدولية، بدءا من الحقوق والالتزامات الفردية، وانتهاء باختيار الحاكم، الذي لم تسعف الديمقراطية المتداولة في اختيار الرؤوس الحاكمة ذات الضمائر الحية، ولا ما دونها من مستويات المسؤولية.

والنتيجة التي يجب أخذها بعين الاعتبار، أن العالم كله بحاجة إلى تغيير في تفكيره وفلسفة تعامله، ولأن الجميع سواسية في القدرات، بعد أن أثبتت القدرة المادية للتفوق العسكري أنها لا تكون إلا على حساب صحة المواطن وأمنه الاجتماعي والاقتصادي والقانوني، فقد بتنا بحاجة إلى ولادة ثالثة للأمم المتحدة، فلسفتها:

- جوهر الوجود هو الإنسان، وأن ما يملكه من أسباب مادية يجب أن تسخر لخدمته.

- لا يمكن أن يستغني الإنسان عن الإنسان، مهما امتلك من ثروة.

- التعامل بالعدل وتقنين معاهدات قائمة على المعادلة، سبيل وحيد لحياة الجميع.

- الحرمان من الحق في الحياة، في لحظة، يمكن أن يعم الجميع.

- يجب على القوي أن ينظر إلى الضعيف (ماديا) بعين النفع وتبادل العلم والتعاضد.

- لا يمكن أن تعيش دولة في أمان وحدها، الأمان إما أن يحياه الجميع أو يحرمه الجميع.

- إعادة تصنيف الوظائف والمهن عالميا وفق أهميتها للبشرية، لا وفق خطط إلهاء الشعوب.

- تكريس احترام الأديان بشكل موضوعي.

- رد المظالم، وتفعيل مواثيق حقوق الإنسان.

- لا بد من التسليم بأن الحق فوق القوة، ولا بد من قوة لإعادة الحق.

- تفعيل مبدأ المساواة بين الدول، لا استئثار دول بعينها بالقرار الدولي، خاصة أن الدول المعنية لم تقدم للبشرية في هذه الحرب ما ينقذ، بل كانت في وضع أصعب من دول أدنى منها مرتبة.

وأخيرا، البشرية بحاجة إلى الإصلاحيين لوضع خطط التغيير، وللمصلحين للعودة بالبشرية إلى فطرتها التي حرفتها عنها القوى التي تؤدبها الكورونا اليوم.
1
التعليقات (1)
احمد عاشور
الإثنين، 06-04-2020 03:44 م
تحليل موضوعي شكرا

خبر عاجل