قضايا وآراء

العالم ما بين حماقة ترامب وديكتاتورية الصين

محمد الأنصاري
1300x600
1300x600
في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2019، لاحظ طبيب العيون الصيني في مستشفى ووهان المركزي، الدكتور لي وينليانغ، زيادة أعداد المرضى المصابين بأعراض ما يشبه السارس ولكنه من نوع جديد، وقام على أثر ذلك بتحذير زملائه وكل من يعرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي بوجود فيروس متطور يفتك بالجهاز التنفسي للإنسان. لم تمضِ بضعة أيام حتى تم استدعاؤه من مكتب الأمن العام الذي عنّفه على سلوكه، وطلب منه التوقيع على ورقة تحوي اتهاما له "بالإدلاء بتعليقات غير صحيحة" ترتب عليها "إخلال جسيم بالنظام العام".

وجاء في الرسالة: "نُحذرك بشكل رسمي، وإذا تماديت في عنادك، بهذا القدر من الوقاحة، وتابعت هذا المسلك غير القانوني، فسوف تمثُل أمام العدالة. هل هذا مفهوم؟".

وفي ذيل الرسالة، وقّع وينليانغ بخط يده: "نعم، مفهوم"، ولم يعلم أنه قد وقع على شهادة وفاته والتي تمت في 7 شباط/ فبراير 2020، ومعه عشرات الألوف من البشر، شهادة تتجدد كل يوم آلاف المرات بشكل غير مسبوق، ستغير وجه العالم وتنهي دورة المئة عام منذ 1920.

هذه هي طبيعة الإجراءات القمعية التي تنتهجها الصين عادة في ضبط الأمور لديها، عبر التحكم الكامل بالمجتمع والاقتصاد وكل تفاصيل حياة البشر. فبدلا من تقصى الأمر بطرق حضارية تعكس حضارة وتطور الصين الصناعية، كان التوجه بقمع أي تصرف يفسد الحياة التقليدية لديهم ويؤثر على النظام العام بشقيه السياسي والاقتصادي، وكأنهم آلات لا بشر.

ولا زلت أرى (حتى هذه اللحظة) أن الصين لا تفصح بشفافية كاملة عن حالات الإصابة لديها أو عدد الوفيات بسبب فيروس كورونا، رغم مكافحتها لتفشي الفيروس بصرامة، وتسخيرها لكل مواردها مما أدى إلى وقف النزيف لديها محليا ولكن ليس انقطاعه. ولعل هذا ما تنتهجه حاليا بعض الدول العربية عبر إخفاء الحقيقة لأسباب شبيهة، ولكنها لا تدرك أن الثمن سيكون غاليا جدا، فهل هم يخدعون شعوبهم أم يخدعون أنفسهم؟ علما بأن هذا المرض لا يُميّز بين سيّد وعبْد، نعم إنهم يستطيعون إخفاء جزء من الحقيقة وخداع الناس بعض الوقت، ولكنهم لا يستطيعون إخفاء كل الحقيقة وخداع الناس طوال الوقت، فقد تمتلئ حينها الطرقات بالمرضى ولا يجدون مكانا لدفن موتاهم، حينها ستلعنهم شعوبهم قبل أن يلعنهم التاريخ على سوء تقديرهم وإدارتهم للأزمة.

أما في الجهة الغربية من العالم، وتلك قصة أخرى لدول تدعي الديمقراطية، فأثبت قادتها أنهم أكثر الناس فشلا في احتواء الأزمة. فقد وجّه الإعلام الأمريكي في 22 كانون الثاني/ يناير 2020 سؤالا للرئيس دونالد ترامب عن المشكلة الصينية والفيروس الجديد، فأجاب كعادته بغرور وعنجهية “We have it totally under control,” (هو تحت سيطرتنا بالكامل)، واتهم الصين بأنها المسببة للفيروس وبفشلها في احتوائه.

ولكن بعد إعلان الصين عن زيادة الحالات لديها وتفشي المرض عندها وفي دول مجاورة لها، أعلن ترامب عن عرضه لمساعدة الصين في احتواء الفيروس، معللا ذلك بأن "خبراءنا غير عاديين" (المزيد من العنجهية). ثم قام في 30 كانون الثاني/ يناير 2020 بالإعلان عن أن العمل يتم بشكل وثيق مع الصين وغيرها، وتفاخر بأن خمسة أشخاص فقط في الولايات المتحدة أصيبوا بالمرض، وكلهم في حالة جيدة، وهو بذلك يحاول طمأنة الشعب الأمريكي، واستمر في عدم إعطاء الأزمة أي أولوية، مبتعدا عن إصدار أي قرار لمواجهة تفشي الفيروس محليا أو دوليا.

واستمرت خطاباته على هذا الشكل بكلمات جوفاء، حيث كان دائم التهجم على الصين ووصفه للفيروس بأنه "فيروس صيني Chinese Virus" (هكذا كان يتعمد تسميته بذلك وليس "فيروس كورونا)، متهما إياها بأنها السبب في انتشاره، وبفشلها في احتوائه. وفي نفس الوقت كانت الصين تبادله الاتهامات مدعية بأن الجيش الأمريكي وراء إدخال الفيروس إلى أراضيها ضمن مؤامرة غربية لضرب اقتصادها. هكذا كان الحال بين أٌقوى دولتين، والعالم كله بما فيهم أوروبا المتحضرة يراقب المشهد دون قرارات دولية صارمة.

وكلما زاد أعداد المصابين في أمريكا والعالم والحديث عنهم، زاد ترامب من وتيرة اتهاماته، تارة إلى خصومه السياسيين وتارة إلى الإعلام الأمريكي، متهما إياهم بتضخيم الأمور، ونشر الأخبار المزيفة، حيث ذكر في إحدى تغريداته "أن MSDNC وCNN تبذلان قصارى جهودهم لجعل فيروس كورونا يبدو سيئا قدر الإمكان، ولبث الذعر في الأسواق. وبالمثل، فإن الرفاق الديمقراطيين غير الأكفاء فقط يتحدثون، دون أي إنجاز. إن الولايات المتحدة الأمريكية في حالة رائعة".. هكذا كانت ردود فعله على تفاقم الأزمة والحديث عنها.

وفي 9 آذار/ مارس أعاد التأكيد على أن الأمور عادية ويجب أن تستمر الحياة في أمريكا بشكل طبيعي، حتى لو حصلت هناك بعض حالات الوفاة، معبرا عن ذلك في تغريدته التالية:

"لقد توفي 37 ألف أمريكي العام الماضي بسبب الإنفلونزا الشائعة.. لا شيء مغلق، تستمر الحياة والاقتصاد. في هذه اللحظة هناك 546 حالة مؤكدة من فيروس كورونا، مع 22 حالة وفاة. فكروا بالأمر!".

ولم يخف خصومته التقليدية مع الاتحاد الأوروبي أيضا، فقد أعلن مساء يوم 12 آذار/ مارس منع السفر من وإلى الدول الأوروبية باستثناء بريطانيا (الأقرب إليه سياسيا وبرغم تفشي المرض فيها) ولمدة 30 يوما لمواجهة انتشار الفيروس وبحجة حرصه على أمريكا.

لقد حصر ترامب تفكيره خلال الأشهر الماضية في مواجهة المنافسين له سياسيا، بدلا من مواجهة تفشي الفيروس كقائد لأقوى دولة ومهيمنة على النظام العالمي، وتعمد مرارا بتصريحاته الإعلامية المختلفة إنكار وجود أي مشكلة وبائية عالميا وخاصة في أمريكا، ودوما كان يعبر عن ذلك عبر تغريداته وردوده على الصحفيين بأنه مسيطر تماما على الأمور. وقد ذكر ذلك بتغريدة له في 25 آذار/ مارس: "إن الإعلام العاجز (Lamestream) هو القوة التي تحاول دفعي لإبقاء بلدنا مغلقا لأطول فترة ممكنة على أمل أن يضر ذلك بنجاح انتخابي".. هكذا كان يرى الأمور دوما بمنظور انتخابي، ومنافسين يطمعون في إفشاله.

وهكذا كانت جُلّ تغريداته خلال شهر شباط/ فبراير وآذار/ مارس 2020، حيث تهجمٌ على الإعلام والمنافسين له بشكل ساخر، حتى أنه تمادى في ذلك وتهجم على الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما (الديمقراطي)، موجها اللوم له عبر إحدى تغريداته، واتهمه بأنه أحد أسباب الخلل القائم حاليا في الرعاية الصحية، وأعاد تأكيده للمجتمع الأمريكي "أن كل شيء تحت السيطرة".

ولكن تسجيل الحالات بفيروس كورونا كان يسير بشكل متسارع وبازدياد غير متوقع في كل دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدا في ولاية نيويورك، مدينة المال والأعمال والاقتصاد، وبدأت تظهر حالات التخبط والفوضى في العديد من المراكز الصحية الأمريكية، في ظل فقدان أي استراتيجية على مستوى أمريكا ودول العالم للتعامل مع المرضى أو احتواء تفشي الفيروس والقضاء عليه.

ولكن ترامب وتحديدا في 26 آذار/ مارس ولأول مرة يعلن عن اتصاله بالرئيس الصيني عبر محادثة ودية (وأخيرا.. اللهم لك الحمد)، وقد تفهّم جيدا معاناة الصين وما واجهته بسبب تفشي الفيروس، واتفقا سويا على التعاون فيما بينهما لإنقاذ بلديهما والعالم. وختم كلامه بجملة "الكثير من الاحترام (Much respect)".

لقد أدرك أخيرا ترامب سوء تقديره وسوء الأوضاع في بلده خلال الفترة الماضية، وأعتقد أن هناك من حذره وأقنعه أن بلاده على وشك الانهيار إن لم يبدأ بتغيير نهجه وتسخير كل الإمكانيات لمواجهة مخاطر انتشار الفيروس في المجتمع الأمريكي تحديدا، والذي اهتم مواطنوه خلال الأيام الماضية في بعض الولايات بشراء السلاح أكثر من اهتمامهم بشراء الأغذية، أليس ذلك بمؤشر خطير ومخيف على ما سيكون به الحال لو فلت الزمام من أيدي النظام؟

لقد أعلن ترامب مساء يوم الأحد الموافق 29 آذار/ مارس أن الوفيات في أمريكا ستصل ذروتها خلال أسبوعين تقريبا، وكأنه يريد بذلك تبرير تعاظم أعداد المرضى وتدهور حالتهم دون وجود أي دواء أو لقاح رسمي لمواجهة الفيروس. وبرغم كل القرارات الأخيرة له لمواجهة تفشي المرض وتخصيص تريليوني دولار أمريكي لمواجهة انتشار الفيروس، إلا أن العالم وحسب توقعات العديد من الخبراء مقبلٌ على كارثة اقتصادية واجتماعية وسياسية ستظهر ملامحها منتصف هذا العام تقريبا. ولن تبقى الدول بساستها وعظمائها كما كانت، فلا يمكن لأي مريض أنهك المرض جسده ثم شفي بعد معاناة شبه فتاكة أن يعود كما كان.. نعم قد ينجلي مصابه ولكنه سيعود منهكا مترهلا يحتاج فيها لفترة زمنية طويلة حتى يستعيد قواه، ولعله يعود أفضل مما كان عليه، وهذا ما أؤمن به.

إن حماقة ترامب وسياسة الصين القمعية هما من أوصلتا العالم إلى ما هو عليه الآن، وخطأ العالم أنه لم يتدارك الأمر مبكرا، وسار كعادته وفق سياسات "منظمة القوى العظمى" وتحديدا أمريكا؛ بكل شيء، والتي يدير دفتها لسنوات دونالد ترامب بعنجهية وغرور، وإذا استمر بنهجه هذا فسيودي بها إلى الهلاك، وستعود أمريكا ولايات متفرقة كل منها تسعى لحماية ذاتها دون الأخرى.

ومع كل ذلك تلوح في الأفق فرصة حقيقية لمواجهة الفيروس والقضاء عليه، ويتحقق ذلك بتعاون الدول كلها في انتهاج سياسة موحدة بعيدا عن انتظار تعليمات ترامب والسير في ظله، ولعل أولها يكون بفرض سياسة العزل الجغرافية، تبدأ بالقارات، ثم الدول ومن ثم المدن لمدة لا تزيد عن 14 يوما عن آخر مصاب يتم الإعلان عنه، ويتزامن ذلك مع دعم وتوسيع نطاق البحث العلمي بما يخص هذا المرض، وفتح قنوات التعاون والتنسيق بين المراكز البحثية أينما وجدت، وتجريم إخفاء أي معلومة علمية قد تفضي إلى القضاء على الفيروس وعلاج المرضي به.

كما يجب تفعيل دور العمل المجتمعي والتكاتف والتكافل بين كل الطبقات، للتغلب على مرحلة عصيبة ستستمر لعدة أشهر، بإيمان كامل أن الله جل جلاله قد خلق لكل داء دواء، وعلينا العمل جميعا بأوضاع مغايرة عن المألوف، وتقبل ذلك دون الإخلال بالنظام العام، ووأد أي فوضى قد تتولد، حتى يتحقق الشفاء والسلامة للجميع.

إن العالم اليوم، يمر بمرحلة عصيبة وقاسية ومتغيرة، وكل فرد عليه أن يتقبل ذلك ويتكيف مع هذه الأوضاع، ويلتزم بالتعليمات والإجراءات المطلوبة لسلامته وسلامة من حوله. وبذلك سيحيا مطمئنا وينجو بنفسه ومن معه، وسيشهد بزوغ فجر جديد تُطالب فيه الشعوب بإحداث نظام عالمي ديمقراطي جديد أكثر عدالة ونزاهة، دون حروب واحتلال، واقتصاد حر مفتوح دون حصره على دول أو فئات معينة، فالمئة عام التي مضت (منذ عام 1920) قد انقضت الآن وستولد مئة عام جديدة.
التعليقات (0)