أخبار ثقافية

بديع خيري.. الباكي الذي أضحك الناس

بروح الفنان المدمن على التجريب والمغامرة، أقدم خيري سنة 1916 على تجربة حظه في عالم التمثيل المسرحي- تويتر
بروح الفنان المدمن على التجريب والمغامرة، أقدم خيري سنة 1916 على تجربة حظه في عالم التمثيل المسرحي- تويتر

وُلِد بديع خيري يوم 18 أغسطس سنة 1893، في الحي الشعبي الشهير؛ حي "المغربلين" في القاهرة.

 

ربما تبدأ الحكاية من هنا، فأيُّ الزجالين وكُتّاب المسرح والسينما لا يتمنى نشأة شعبية كهذه؛ تغرس القيم المصرية في أعماق الوجدان، وتسقي المبدع هموم شعبه وأحلامه معا؟

 

في طفولته، التحق بالكُتاب وحفظ القرآن الكريم، مغذيا ثقافته التراثية والإسلامية.

 

وفي صباه، حرص على ارتياد المسرح والمداومة على القراءة. حرّك ذلك منابع الإبداع في نفسه، فبدأ يكتب الزجل وهو صبي، قيل في عمر الثالثة عشرة.


مضى في دراسته حتى تخرج في مدرسة المعلمين العليا (تُناظر كلية التربية الآن). لكنه ظل شابا غير تقليدي، فاختار العمل في هيئة التليفونات المصرية، بفضل تفوقه في اللغة الإنجليزية، وكانت مصر وقتها في قبضة الاحتلال البريطاني، لكنه فُصِل من الهيئة لأنه كان سببا في تعطيل هاتف أحد مديريها الإنجليز، فعمل مدرسا للغة الإنجليزية.


على أن سبب تعطيله لهاتف المدير الإنجليزي غير متداول في الصحافة المصرية، فلم يوضح أحد، في حدود اطلاعي، إن كان قد تعمد ذلك أم لا، فقد كان ذا تاريخ نضالي كبير، لكن ذلك يقتضي سياقا مختلفا.


وبروح الفنان المدمن على التجريب والمغامرة، أقدم سنة 1916 على تجربة حظه في عالم التمثيل المسرحي، فعرض نفسه على فرقة جورج أبيض، الذي قرر أنه لا يصلح ممثلا.

 

وكان قد أقدم أيضا على مغامرة فنية، اعتُبِرت ثورة في عالم الزجل، عندما كتب القصيدة الواحدة على أكثر من بحر، منوّعا بين أوزان أجزائها، فقد كان السائد هو استخدام بحر واحد للقصيدة كلها.


لم ييأس الشاب بديع بسبب رفض جورج أبيض، فبدأ يكتب لفرقة مسرحية مغمورة، شارك في تأسيسها مع أصدقائه، مستخدما اسما مستعارا حتى لا يخسر عمله في التدريس، فقد كان الاشتغال بالمسرح غير لائق بالمعلمين وقتها.

 

وصادف أن شاهد نجيب الريحاني مسرحيته "أمّا حِتِّة ورطة" (قيل لأنه كان يسكن فوق المسرح الذي تعرض عليه الفرقة أعمالها، وقيل بدعوة من صديقه جورج شفتشي الذي كان مدير الفرقة)، فأعجبته المسرحية حتى إنه أطال التصفيق لها عند انتهاء العرض.


ثم سأل الريحاني صديقه شفتشي عن مؤلف المسرحية، فأخبره أنه (أي شفتشي) مؤلفها. ثم أخبر بديع بما حدث وبرر كذبته برغبته في حماية السرية التي فرضها بديع على هويته، لكن يبدو أن شفتشي كان طامعا في استغلال الموقف، فقد عرض على بديع صفقة ظالمة: أن يبيع شفتشي مسرحيات بديع للريحاني باسم شفتشي، متقاضيا نصف الأجرة، مع أنه لم يكتب فيها حرفا. كان مدركا حاجة بديع للحفاظ على وظيفته كمدرس، فاستغل ذلك.


ولأن الأعمال بالنيات، سرعان ما وقع شفتشي ضحية سوء نيته، ففضح أحد أصدقائه سره للريحاني، إثر خلاف بينهما، فالتقى الريحاني ببديع، مع أنه قدم ثلاث مسرحيات لبديع باسم شفتشي.

 

يحكي بديع بفخر شديد عن مصادفة توقيع عقده الأول مع الريحاني في ذكرى يوم ميلاده: 18 أغسطس! ومع توالي نجاحهما استقال بديع من التدريس، متفرغا لكتابة مسرحيات الريحاني، الذي سافر معه إلى بلاد الشام، وهناك اكتشفا بديعة مصابني.


بدأ القدر يبتسم لبديع خيري. شعر هو والريحاني أن الاستعراضات الفنية التي تتخلل المسرحيات بحاجة إلى ملحن قدير، قادر على تلحينها بما يرضي أذواق الجمهور وينسجم مع روح العمل وطبيعة العصر. وجدا ضالتهما في فنان الشعب سيد درويش.

 

كان أحد أصدقائهما قد حكى لهما أنه شاهد مسرحية رائعة لفرقة جورج أبيض، هي فيروز شاه، فذهب بديع ليشاهدها، وكانت عملا غنائيا مسرحيا.

 

انبهر بتلحينها، حتى إنه أصر على مقابلة سيد درويش فور نهايتها، وكان سيد شديد الإعجاب بأزجال بديع التي كان ينشرها في المجلات، فكان لقاؤهما الأول مفعما بالمحبة.


انضم إليهما سيد درويش، تاركا الإسكندرية إلى القاهرة، فقدموا معا أهم المسرحيات المصرية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، بعضها أوبريتات مثل "العشرة الطيبة"، التي تضمنت بعض السخرية من الأتراك، مما أدى إلى إغلاق مسرح الريحاني بعدها فترة ما، منها أيضا: "مجلس الأنس"، "لو كنت ملك" وغيرها كثير.

 

كما قدموا عشرات المسرحيات، مثل: "عشم إبليس في الجنة"، "حكاية كل يوم"، "لو كنت حليوة"، "الدلوعة"، "ياما وكان في نفسي".

 

وخلال ذلك، قدّمت فرقة الريحاني بعض ألمع نجوم المسرح والسينما مثل عبد الفتاح القصري وماري منيب وعادل ابن بديع خيري الذي سيكون واحدا من أشد أسباب حزنه بعد زمن.


تفتحت شهية بديع، فانطلق يكتب عددا وافرا من أفلام تلك الفترة، واعتبره بعض المؤرخين أول من كتب أفلاما للسينما المصرية. من أفلامه: "ليلى بنت الفقراء"، "عروسة للإيجار"، "انتصار الشباب"، "غزل البنات"، "نرجس".


على أن ذلك كله يقود إلى التساؤل عن طبيعة حياته الشخصية؛ هل تعكس هذه الحيوية الدافقة، والقدرة على صناعة كوميديا استثنائية ميّزت فن الريحاني وشكّلت وجدان المصريين؟
المدهش أن حياته كانت عاصفة من الأحزان والفواجع.

 

تزوج بديع من ابنة خالته بعد قصة حب كبيرة. أنجبا أربعة ثلاثة أولاد وبنتا واحدة، أصيبت بالحمى الشوكية في طفولتها، ولم يكن الطب وقتها متقدما كما الآن، وهو ما أدى إلى إصابتها بإعاقة دائمة، عانت منها الأسرة كلها طوال حياتها.


وقد حكت حفيدته عطية خيري عن الأضرار الفادحة التي ألحقها مرض السكر بالأسرة، التي تسرب إليها بالوراثة، ومضى يقتطع منها شيئا فشيئا؛ فبعد أن اضطر بديع إلى بتر أصابع قدمه مع تقدم عمره، فقدت زوجته الحبيبة بصرها أيضا قبل وفاتها بسنوات، بسبب المرض نفسه.


لكنّ الضربة الأكثر فتكا كانت وفاة ابنه الشاب عادل بديع خيري عن 32 عاما، قضى منها 7 سنوات تقريبا في عالم الفن، استطاع خلالها ترسيخ مكانته كفنان شاب موهوب. كانت وفاة نجيب الريحاني قد فتحت له باب النجومية، فقد حل محله، وأحبه الجمهور.


لكن بديع كان شجاعا حقا أمام ذلك كله. يقول في مذكراته: "من المدهشات أن أقوم بإضحاك الناس وقلبي مفعم بالحزن. وهذا من فضل الله، فضحكات الناس عزائي وقوتي".

التعليقات (1)
morad alamdar
الثلاثاء، 03-03-2020 05:59 م
^^ نجيب محفوظ و الإنسان الطيب ^^ .. نجيب محفوظ : حين أمنّحك وقتي فأنا حينها أمنحك جزأً لن أستردّه من حياتي فأرجو ألا تجعلني أندم .. الإنسان الطيب : تراه دائماً مُبتسم ، و يضحك كثيراً و لا يبالي لشيء ، و تراه أيضاً يُسامح كثيراً ، و يتجاهل كل ما يؤلمه ، لكن لا أحد يعلم ما بداخله إلا الله ! .