كتاب عربي 21

شروخ في جسم حكومة السودان

جعفر عباس
1300x600
1300x600

شهد يوم الخميس الموافق 20 من شباط (فبراير) الجاري مظاهرات ضخمة في قلب العاصمة السودانية المثلثة (الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان)، للمطالبة بإعادة هيكلة القوات المسلحة والشرطية، واستنكارا لإحالة بعض صغار ضباط الجيش السوداني للتقاعد، وكان أكثر ما استفز قوى ثورة كانون الثاني (ديسمبر) التي قادت حراكا شعبيا كانت ذروته الإطاحة بنظام حزب المؤتمر الوطني برئاسة المشير عمر البشير، أن ملازم أول محمد صديق كان ضمن الضباط المحالين للتقاعد، ورغم أن صدور قرارات إحالة ضباط الجيش للتقاعد كل عام أمر روتيني، إلا أن ما لم يكن روتينيا هو أن يشمل قرار قيادة الجيش السوداني الأخير ضابطا ذا رتبة صغيرة كمحمد صديق، لأن ما ظل دارجا في القوات المسلحة هو أن تقتصر أمور مثل تلك الإحالة على ضباط من رتبة عقيد فما فوق ذلك.

 

لم يكن ضابطا عاديا

ومحمد صديق ليس ضابطا عاديا، بل هو أحد أهم أيقونات الثورة السودانية، فعندما اعتصم الثوار أمام مقر القيادة العامة للجيش في نيسان (أبريل) من عام 2019، انهمر عليهم الرصاص من بنايات مجاورة للقيادة من عناصر يرجح أنها تتبع لجهاز أمن نظام البشير، فتصدى لهم النقيب حامد عثمان الذي صار اسمه منذ وقتها حامد الجامد، ونجح في صدهم رغم أنه أصيب بطلق ناري استوجب إخضاعه لجراحات كثيرة.

أما الملازم محمد صديق فقد توسط الثوار المعتصمين وأعلن انحيازه للثورة الشعبية، وأمسك بمكبر صوت مخاطبا زملاءه العساكر وحاثا إياهم على رفع السلاح للدفاع عن الثوار المدنيين، وتقاطر حوله عدد كبير من الجنود رفعوا السلاح في وجه القوى التي كانت تحاول فض المعتصمين أمام قيادة الجيش، وبعدها ظل مرابطا بين الثوار المدنيين وصار من ثم صديق علما من أعلام الثورة الشعبية في السودان، ونموذجا للجندي المنحاز للوطن والمواطن، ولو تطلب ذلك عصيان أوامر قادته العسكريين.

 

لا أحسب أن عسكريي السلطة في سودان اليوم يخططون لانقلاب كامل على الحكومة الحالية، ولكن كل السياقات تشير إلى أنهم يمارسون انقلابا ناعما يهدف إلى تجريد مجلس الوزراء، الذي يمثل فيه المدنيون التكنوقراط أغلبية، من معظم صلاحياته


كان موكب الخميس الماضي هادرا، بينما كان موقف قوات الشرطة منها "غادرا"، فرغم أنه يفترض أن الحكومة القائمة نتاجٌ للثورة الشعبية، إلا أن الشرطة تصدت للمتظاهرين السلميين بعنف مفرط، لا تفسير له إلا بأن العسكريين الذين يزعمون أنهم شركاء في الثورة، وبالتالي في الحكومة الانتقالية الراهنة في الخرطوم، يرون أن خروج مظاهرة تشكك في إجراءات اتخذتها قيادة الجيش تطاولٌ ينبغي أن يقابل بالحزم، خاصة وأن قيادة الجيش في يد عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، والذي وبوصفه القائد العام للقوات المسلحة، وبموازاة إحالة عشرات الضباط للتقاعد، منح نفسه رتبة مشير، وأنعم على اثنين من زملائه في مجلس السيادة برتبة فريق أول.

 

زواج متعة بين العسكر وحكومة حمدوك

وفي تقديري فإن العلاقة بين العسكريين والمدنيين في الحكومة السودانية الحالية زواج متعة، والجانب المتمتِّع فيه بالفعل هو العسكريون، فقد هبت في وجه نظام البشير ثورة شعبية عارمة، ولما أدرك كبار العسكريين أن النظام ساقط لا محالة، قرروا ركوب الموجة، بحيث يتغدوا بصغار الضباط قبل أن يتعشوا بهم، بعد أن صار واضحا أن الضباط في الدرجات الصغرى والوسطى كانوا قد انحازوا للحراك الشعبي المدني، ثم نجح كبارهم في الجلوس في القصر الجمهوري متمتعين بسلطات عسكرية ومدنية واسعة.

من الناحية النظرية فإن وزيرا الداخلية والدفاع، وكلاهما عسكريان برتبة فريق أول يتبعان عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السوداني الحالي، ولكن لم تكن لحمدوك كلمة في اختيارهما، فقد اختارهما كبار عسكريي الجيش، وليست له كلمة في الكيفية التي يديران بها شؤون الوزارتين، والأدهى من كل ذلك أن وزير الدفاع العسكري ليست له سلطة على القوات المسلحة إلا في الأمور الديوانية/ المكتبية، لأن المشير البرهان وضع تلك السلطة كاملة في يده بوصفه القائد العام لتلك القوات، وبدوره فإن وزير الداخلية لا يملك صلاحيات تخوله تدبير أمور قوات الشرطة، لأن القانون الذي سنه عمر البشير ووضع فيه شؤون الشرطة في يد "المدير العام للشرطة" وحده ما زال ساريا.

 

إن العلاقة بين العسكريين والمدنيين في الحكومة السودانية الحالية زواج متعة، والجانب المتمتِّع فيه بالفعل هو العسكريون


ولا أحسب أن عسكريي السلطة في سودان اليوم يخططون لانقلاب كامل على الحكومة الحالية، ولكن كل السياقات تشير إلى أنهم يمارسون انقلابا ناعما يهدف إلى تجريد مجلس الوزراء، الذي يمثل فيه المدنيون التكنوقراط أغلبية، من معظم صلاحياته، وكانت البداية بملف السلام مع الحركات التي ظلت تحمل السلاح في وجه الحكومة المركزية منذ نحو ست عشرة سنة، فرئيس وفد التفاوض عن حكومة الخرطوم هو الفريق أول محمد دقلو (حميدتي)، الذي أضفى عليه العسكريون مسمى نائب رئيس مجلس السيادة، وهو مسمى لا وجود له في كل أدبيات تشكيل المجلس، ثم كان انفراد البرهان بلقاء نتنياهو في أوغندا دون استشارة الحكومة، ورغم أنه قال لاحقا إن اللقاء كان استكشافيا فقط، وإن قرار تطبيق العلاقات مع إسرائيل متروك للحكومة كلها، إلا أن الوقائع أثبتت أنه توافق مع نتنياهو على أمر السماح للطائرات الإسرائيلية بعبور الأجواء السودانية، بدليل أن تلك الطائرات باتت فعلا تبحر عبر الفضاء السوداني.

مظاهرات الخميس الماضي في العاصمة السودانية، والتي تعاملت معها الشرطة بنفس القدر من الوحشية الذي كانت تتصدى به للمظاهرات المناهضة لحكم البشير، ستجعل الشرخ القائم بين العسكريين والمدنيين في دست الحكم في الخرطوم يتسع وقد يستعصي على الرتق، وقد تعالت الدعوات سلفا لخروج الجماهير إلى الشوارع بغزارة مجددا لاستكمال الثورة الشعبية وتأصيل "مدنيتها" بتقليم أظافر العسكر.

التعليقات (2)
أبو باسل
الأربعاء، 26-02-2020 12:33 م
المعلومات الصحيحة في مثل هذه المواقف تقود لنتائج معقولة تؤدي إلى فهم الأمور والحكم عليها إحالة الضباط إلى التقاعد أمر روتيني ولم تكشف القوات عن كل سجلات المحالين للتقاعد حفاظا علي أسرارها وحافظت عليهم سواء كانوا صغارا او كبارا الحفاظ علي هذا الجيش يعني الحفاظ عل كيان اسمه السودان اذا انفرط عقد هذا الجيش لن يكون أحدا أمن في أصقاع السودان وحتي في داخل الخرطوم تطبيق قواعد الجيش في كل الأوقات علي الكل من خالف الأوامر يحفظ الجيش ويحفظ السودان حتي لو كان المخالف شارك في الثورة الفرنسية التي أتت بالحرية والمساواة والإخاء الثورة أدت دورها وعلي الجماهير ترك رئيس الوزراء ذو الصلاحية الواسعة يعمل دون معضلات لما يواجهه من قضايا شائكة سيطرة العسكر في السيادة علي محادثات السلام تم بتوافق وحتي بطلب من الطرف الآخر لأن وجود العساكر في المحادثات مهم لأنهم الطرف في الحرب ولا يعقل أن يتفاوض عنهم أناس ليس لهم صلة وحتي أنهم لا يقيمون في السودان طيلة سنوات الحرب العساكر ضمان وحدة وأمن السودان منذ استقلاله سيظل دور الجيش الأهم في السودان اذا أردنا أن يكون هناك دولة اسمها السودان لان أهل السودان لا يمكن ان يتفقوا وهذا ظاهر منذ الاستقلال وازدادت الاختلافات الآن بوجود ثمانية جيوش وعشرات الحركات المسلحة ومييات الأحزاب ذات التوجهات الانفصالية المدعومة من الخارج والله وحده الحافظ هذا البلد
مرتزقة بالزي العسكري
السبت، 22-02-2020 02:39 م
هذا العمل قام به عسكر مصر و الجزائر من قبل يعني القضاء على طبقة العساكر المثقفة و التي تحترم شعبها، هكذا يصبح عسكر الإجرام متجانس في قهر الشعب، لكن الشعب السوداني لن يسكت مثله مثل باقي الاقطار المسلمة.