مقالات مختارة

دستور لا يزول بزوال الرجال

عبد الحميد عثماني
1300x600
1300x600

الدساتير وُجدت لتنظيم علاقات الدولة بمؤسساتها المختلفة، وفيما بينها، ومع المجتمع، أفرادا وتنظيمات، وبالتالي فهي تتطوّر من حيث المبدأ وفقا للحاجيات المستجدّة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.


غير أن ذلك لا يعني أبدا أن تتحوّل أسمى "وثيقة قانونية" إلى مجرد ورقة لا قيمة لها في نظر السلطة، تلجأ إلى محوها موسميّا قبل أن يجفَّ حبرُها، كلما دعتها ضرورة التنفيس للخروج من أزمة داهمتها، رافعة شعار حقّ يُراد به باطل، تحت عنوان "الإصلاح".


في الجزائر عشنا منذ الاستقلال قصّة الدساتير التي لا تعمّر، حتى صار لكل رئيس دستورٌ باسمه، منذ أحمد بن بلة في 1963 إلى هواري بومدين عام 1976 والشاذلي بن جديد في 1989 وليامين زروال عام 1996، أما خلفهم عبد العزيز بوتفليقة فلم يشف غليله حتى عبث به ثلاث مرات في ظرف 14 عاما، في حين كان يمكن أن نكتفي بتعديل واحد، ينقلنا من الأحادية الاشتراكية إلى التعددية واقتصاد السوق، بمقتضى الانفتاح الذي أعقب أحداث أكتوبر 88.


اليوم حان الوقت لنضع نهاية لدساتير الرؤساء من أجل دستور للجزائر، لا يزول بزوال الرجال، لأنّ 30 سنة من التجربة التعددية توجب ثبات التشريع الدستوري، إذ أنّ الحريات العامة والفردية أضحت معلومة، وأصول الحياة الديمقراطية وأسس دولة الحق والقانون ونماذج الحكم السياسي صارت كلها مقرّرة عالميّا، ناهيك على أنّ ملف الهوية في بلادنا محسومٌ بالمصالحة التاريخية مع الذات الحضاريّة.
لذلك، لم يعد مبرّرا على الإطلاق من الآن فصاعدا جعل الدستور مشجبا نحمّله كل أخطاء الحكم والممارسة من الجميع، سلطة ومجتمعا سياسيّا، في حين يعلم هؤلاء أن الأزمة مكمنها اللصوص قبل النصوص، بتعبير الشيخ محفوظ نحناح، رحمه الله.


إنّ العمل بنظرية "الاستقرار التشريعي" من العوامل الأساسية في تسهيل تنفيذ الأهداف المنشودة في كافة المناحي، فلا ازدهار ولا اقتصاد ولا تنمية في ظل الاضطراب القانوني الذي يعيق الإصلاح والمبادرة والاستثمار.


ولكي نصل إلى دستور قابل للاستدامة الزمنيّة، لا بدّ من توفير شروط إنضاجه في مناخ حرّ وتشاركي وتوافقي إلى أقصى حدّ ممكن، وأن تصاغ قواعدُه على مقاس الانتقال الديمقراطي ومقتضياته، بعيدا عن نزوات الحكام وهوى السلطة، بل وجب تحصينه بتشديد موانع التعديل وتعقيد مرورها.


تمنّينا وفق الأصل والمنطق أن يفتح رئيس الجمهورية باب المشاورات أولا مع مكونات الساحة السياسية والمجتمع المدني الفاعل وقوى الحراك لرصد توجُّهاتها إزاء التعديل الدستوري، ليستأنس بها في مشروع الإصلاح الذي تعهَّد بتنفيذه ويبحث قدر المستطاع عن نقاط التقاطع معها، أمّا تكليف لجنة خبراء أكاديميين بإعداد مسودّة، ثم طرحها للنقاش العام، فهو بمثابة وضع للعربة قبل الحصان، إذ أنّ دور هؤلاء كفنيّين يُفترض أن يأتي بعد الانتهاء من مرحلة الحوار التشاوري كيفما كانت أشكاله، ليتكفلوا بصياغتها في قوالب قانونية دستوريّة.

ومع ذلك، فإنَّ الفرصة لا تزال مواتية إن صدقت النيات لاستدراك ما فات، من خلال فتح نقاش جاد في أرضية الخبراء المرتقَبة مع الأطراف السياسية والعلمية والمجتمعية، ذات التمثيل والمصداقية لإثراء الورقة، والحذر من تمييع الحدث بلجان الولاء والتطبيل.

لا بدّ أن يحسم الدستور القادم في كل المسائل المفصليّة المتصلة بتعزيز الحريات بكل تجلياتها والرقابة بكافة أبعادها وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، وتحديد نظام حكم يحقق التوازن بينها، دون تغوّل للسلطة التنفيذية على حساب السلطتين التشريعية والقضائية، حتى نغلق باب الجدل السياسي، وننتقل إلى تجسيد الإصلاحات القانونية والميدانية، لأن الرهانات الوطنية والإقليمية كبيرة والوقت لا يسعف الكسالى المتشاكسين.

(الشروق الجزائرية)

0
التعليقات (0)