كتب

تونس.. وثيقة الاستقلال الذاتي وهزيمة صالح بن يوسف

تونس.. بورقيبة يكسب معركة الاستقلال عن فرنسا وينهي دور صالح بن يوسف  (أنترنت)
تونس.. بورقيبة يكسب معركة الاستقلال عن فرنسا وينهي دور صالح بن يوسف (أنترنت)

الكتاب: الباهي الأدغم الزعامة الهادئة.. ذكريات وشهادات وخواطر
الكاتب: إعداد وإشراف وتحرير الدكتور عبد الرحمن الأدغم، مراجعة وتنسيق الدكتور عبد اللطيف عبيد، والأستاذ عادل الأحمر
الناشر: دار نيرفانا للنشر، تونس، الطبعة الأولى تشرين ثاني (نوفمبر) 2019، 
748 صفحة من القطع الكبير

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثالث من عرضه لكتاب "الباهي الأدغم الزعامة الهادئة.. ذكريات وشهادات وخواطر"، التفصيل في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، وحقيقة الخلاف التاريخي بين الزعيمين التونسيين الراحلين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف.

 



طريقتان لحل المسألة الوطنية في تونس

انفجر الصراع بين جناحي الحزب الحر الدستوري الجديد في عام 1955، بسبب اتفاقيات 3 حزيران (يونيو) من العام ذاته.

يقول أحد أساتذة التاريخ الفرنسيين التقدميين في تحليل الأحداث التي أعقبت التوقيع على اتفاقية "الاستقلال الداخلي" لتونس عام 1955، والتي قاومها الشعب التونسي بكل فئاته وفصائله: "وطلب بورقيبة مساندة القوات الفرنسية له من أجل قمع سريع وبدون رحمة، فقبلت الحكومة (الحكومة الانتقالية) فوراً، وتحصلت القيادة العسكرية على الإمكانيات التي حرمت منها من قبل كي تقضي على عصابات الفلاقة (رجال حرب العصابات في تونس إبان الاحتلال الفرنسي) المتمركزة بالجبال التونسية وشنت الجيوش التونسية والفرنسية التي يدعمها الطيران بقيادة الجنرال غيوبون حملة ربيع سريعة. فتم سحق الانتفاضة في ستة أسابيع بينما أسدلت الصحافة الصمت على الحوادث".

لقد أدرك بورقيبة أنَّ التسوية السياسية مع الاستعمار الفرنسي هي مفتاح الحل للمسألة الوطنية التونسية، لذلك ضحى بالمقاومة المسلحة وعمل على تجريدها من السلاح، لأنه يعلم أن استمرار المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، يعني أنَّ مركز الثقل السياسي سيميل بكل تأكيد لمصلحة الحركة اليوسفية التي تقود هذا الكفاح المسلح، والمتحالفة عضويًا مع الثورة الجزائرية.

 



يقول الباهي الأدغم في هذا الصدد: "أحضرت لائحة نطالب من خلالها بالسيادة الكاملة المتجسمة في الاستقلال، بما فيها الخارجية والدفاع. فقال لي الحبيب بورقيبة: "أنا لست متأكدًا أنّ الفرنسيين سيذهبون في هذا الاتجاه". فقلت له: "أُنْظُرْ إلى محادثات "السال سان كلو" (التي دارت بين المغرب وفرنسا من 1 إلى 6 تشرين ثاني (نوفمبر) 1955 وكما تعلم، فإِنَّ سلطان المغرب محمد الخامس الذي حضرها كانت نزعته استقلالية، وقد اشترط رجوعه إلى المغرب من المنفى بالاستقلال التام. ووقع على ذلك إدغار فور Edgar Faure، فأصبح حدثًا جديدًا". فأثار ذلك إعجاب بورقيبة، وهذا بالرغم من أنَّ الباي كان ضعيفًا، وخاصة بعدما تبين تواطؤه مع الحركة اليوسفية"(ص 344 من الكتاب).

غادر الزعيم الحبيب بورقيبة تونس متجها إلى باريس يوم 2 شباط (فبراير) 1956 ليتقابل مع آلان سافاري، وغي موليه، لإعلام الحكومة الفرنسية بضرورة اختصار المراحل للوصول إلى الاستقلال ومن ذلك حل المشكلة الجزائرية. بعد مفاوضات بورقيبة مع آلان سافاري في باريس، قال له هذا الأخير: إِنَّ ما طبق على المغرب سيطبق على تونس (أي الاستقلال)، فاتصل بالباهي الأدغم هاتفيًا، كنائب لرئيس حكومة الطاهر بن عمّار، ليدعوه إلى الالتحاق به، وهو ما حصل.

سافر الباهي الأدغم إلى باريس يوم 5 شباط (فبراير) 1956، بوصفه نائب رئيس الحكومة وأحد المفاوضين، وتقابل مرّة أخرى مع ألان سافاري بصفته ممثل البلاد الشرعية، أي ممثل الباي والحكومة، لأن بورقيبة ليست له صفة شرعية بل كانت له سلطة معنوية فحسب. وحررنا بذلك البيان المعروف ببدء مفاوضات الاستقلال.

يقول الباهي الأدغم في هذا الصدد: "وبذلك كَوِّنَا الوفد المفاوض، على أن يكون أعضاؤه يحظون بموافقة الفرنسيين، وهو يتكون من الطاهر بن عمار، والباهي الأدغم، والمنجي سليم وزير الداخلية، ومحمد المصمودي وزير الاقتصاد. كما يتكون من المرافقين محمد (حمَّادي) السنّوسي (مستشار قانوني)، والطيب سليم والحبيب الشطي. غادرنا تونس يوم الأحد 26 شباط (فبراير) 1956 لتبدأ المفاوضات بعد ثلاثة أيام. وكان بورقيبة في استقبالنا بباريس. واتفقنا في نهاية المطاف على أن أبقى شخصيًا هناك. ويبقى الرئيس بورقيبة في الفندق، ويبقى كذلك محمّد المصمودي لأنَّ له علاقات بالأوساط الفرنسية ومنداس فرانس، وهذا بعد رجوع الطاهر بن عمّار والمنجي سليم إلى تونس يوم 9 آذار (مارس)، على إثر القلاقل التي اختلقها الاستعماريون الفرنسيون واليد الحمراء وهاجموا فيها المركز الثقافي الأمريكي بتونس وحرقوا العلم الأمريكي، كما هشموا سيارة سيدو ومزقوا علم بلادهم"لتواطؤ البلدين" مع تونس"(ص346 من الكتاب).

في المفاضوات بشأن الاستقلال، اعترض الوفد التونسي العديد من العراقيل، من ضمنها مسألة ممارسة السيادة، إذ قال وزير خارجية فرنسا كريستيان بينو للباهي الأدغم: "هل ستكونون وزارة الخارجية"؟ فأجاب الباهي الأدغم: "نعم، وذلك مباشرة إثر تكوين حكومة منبثقة من الانتخابات التشريعية المزمع عقدها". فلم يوافق بينو. وفي الغد 17 آذار (مارس) 1956 قدّم بينو اقتراحًا آخر لبورقيبة يعتمد الاستقلال التام، إلاّ أنَّنا وجدنا بعد التوطئة، عبارة تونس ستمارس السيادة، أي في "المستقبل"، وليس حالاً، فيما يخص الدفاع والخارجية، ووجدنا حرفيا ما يلي: "تونس ستمارس مسؤولياتها في الدفاع والأمن والعلاقات الخارجية في إطار التكافل بين المصالح"(أي تونس وفرنسا).

اعترض الباهي الأدغم على هذه الصيغة، واقترح على بورقيبة والمفاوضين الفرنسيين استعمال المصدر"الممارسة " (L EXERCICE)، وهو ما يعني أنّ الممارسة تكون فورية، فأصبح النّص: "يترتب على ذلك ممارسة تونس لمسؤولياتها في الشؤون الخارجية، والأمن والدفاع بما في ذلك تكوين جيش وطني تونسي".

يقول الباهي الأدغم: "عند ذلك أحسست حقيقة أنّ المهمة وصلت إلى نهايتها. وأعلمت مباشرة الجماعة في تونس، وتحول الطاهر بن عمار مصحوبًا بالمنجي سليم إلى فرنسا صبيحة 20 آذار (مارس) 1956. وفي الحقيقة فإنّ بورقيبة كان هو الصانع الأساسي لهذا العمل وهو الذي أثار في النهاية هذه المسألة".

 



وتحول الوفد التونسي إلى الكاي دورساي (وزارة الخارجية الفرنسية)، ودخل القاعة الكبرى، عشية يوم الثلاثاء 20 آذار (مارس) 1956، والساعة تشير إلى الساعة الخامسة، جلس الطاهر بن عمار في الوسط، وكنت على يمينه، وعلى شماله كريستيان بينو، وزير الخارجية الفرنسية، وآلان سافاري كاتب الدولة للشؤون التونسية والمغربية، وجلس على يميني كل من المنجي ىسليم ومحمد المصمودي، كما جلس من ورائنا حسان بلخوجة والبشير المهذبي والمنذر بن عمار وباقي الطاقم المرافق..

وخلاصة القول أنّنا تحصلنا على ما نصبو إليه، بعد أن شهدت بعض الخلافات توترًا لتباين الموقفين، ذلك أنّنا كنا متمسكين بمبدأ الاستقلال في حين كان الفرنسيون يتبنّون منطلق تطوير الاتفاقيات. وقد تشبثنا بمطالبنا وثبتنا على المبدأ، تساعدنا في ذلك، والحق يقال، الحركة اليوسفية من جهة بانعكاساتها السلبية على الوضع الداخلي، والحرب الدائرة رحاها بالجزائر من جهة ثانية، إلى جانب تصريحات آكس لي بان (22 آب / أغسطس1955) ما يخص الاعتراف بالوطنيين المغاربة والسلطان محمد بن يوسف الموجود في المهجر، ثم التصريح باستقلال المغرب في (2 آذار / مارس1956) الذي كانت فيه بعض التنازلات السرية كالخارجية والدفاع، لفائدة فرنسا" (ص 349 ـ 350 من الكتاب).

نهج الحركة اليوسفية 

على الرغم من أنَّ صالح بن يوسف حاول أن يحسم الصراع مع بورقيبة على أرضية سياسية، من خلال انعقاد مؤتمر تاريخي للحزب ليحسم الشعب الخلاف حول الاتفاقات، إلا أن بورقيبة بتحالفه مع الاستعمار الفرنسي ولجوئه إلـى القوة لحسم الخلاف مع خصمه، جعل بن يوسف يحتاج إلـى أسلوب المواجهة العسكرية أمام بورقيبة الذي هزمته شعارات العروبة والإسلام المتجذرة في أعماق نفوس الشعب التونسي. 

آنذاك استقطبت الحركة اليوسفية قيادات حركة المقاومة المسلحة في تونس، ومن بينها الطاهر الأسود باعتباره القائد العام لجيش التحرير التونسي، ومجموعات فدائية تتألف من عناصر تونسية وجزائرية مشتركة ومن أبرزها مجموعات رضا بن عمار بالعاصمة، عبد اللطيف زهير بالساحل التونسي، مصباح النيفر بالجنوب الشرقي، عبد الرحمن جابا الله في الجنوب الغربي، الطيب زلاق بالشمال الغربي. أما عن تقدير أعدادهم فيتراوح ما بين 600 و1500 رجل.

 



وأمام هذه التعبئة للمقاومة المسلحة من جانب الحركة اليوسفية، والتحام هذه الأخيرة بالثورة المسلحة الجزائرية، وتحالفها مع حركة القومية العربية الصاعدة في المشرق العربي، عمل بورقيبة رئيس "الديوان السياسي" للحزب الدستوري الجديد على بعث "لجان اليقظة" وهي ميليشيات حزبية تتألف من مجموعات مسلحة يقودها رجال مثل محجوب بن علي، وحسين بوزيان، وساسي لسود، وحسن الصيادي، وعمر شاشية، وغيرهم، حيث كان يكمن دورها في تصفية الحركة اليوسفية. وقد تحالفت هذه اللجان مع القوات النظامية التونسية والجيش الفرنسي للقيام بهذه المهمة. 

لقد أقلع سلاح الجو الفرنسي من تونس بين 27 كانون ثاني (يناير) و2 شباط (فبراير) 1956، 62 مرة في مهام استطلاعية أو لحماية القوافل العسكرية. وقد أدّى التدخل المكثف للطيران الفرنسي إلـى إحداث مذبحة في منطقتي مدنين ومطماطة، بعد انضمام قبائل الجنوب إلـى الحركة اليوسفية، حيث كان الشعور بالحضور العسكري الفرنسي حاداً. وقد أسفر هذا التدخل عن أكثر من 400 قتيل بين كانون ثاني (يناير) وحزيران (يونيو) 1956. وقامت الشرطة من جهتها باعتقال 2372 من اليوسفيين حسب المصادر الرسمية. هذا البطش أدى إلـى استسلام تدريجي لأهم القبائل في الجنوب، تلاها استسلام المجموعات المسلحة. وأبرزها استسلام الطاهر الأسود في 3 تموز (يوليو) 1956. وقد بلغ عدد المقاومين الذين استسلموا للسلطات التونسية 600 رجل بين شباط وتموز 1956.

ونظراً إلـى ما كان للحركة اليوسفية من حضور شعبي مسلح في الجنوب التونسي ومن خطر ماحق كان يهدد الاستعمار الفرنسي على صعيد تونس والجزائر معاً، بسبب التحالف والتمازج بين رجال المقاومة المسلحة على طول الشريط الحدودي للبلدين، وتخوف بورقيبة من امتداد الثورة الجزائرية إلـى تونس، لجأت فرنسا إلـى الدخول في "لعبة الاستقلال". وهو ما أفصح عنه الآن سافاري وزير الشؤون المغربية والتونسية آنذاك، حين صرح أمام البرلمان الفرنسي في حزيران (يونيو) 1956 قائلاً: "لقد وقعت فرنسا اتفاقية 20 آذار (مارس) 1956 (وثيقة استقلال تونس) كي توقف الثورة التي تنخر تونس، وكي تقطع محاولات الالتحام مع حركة الثورة في الجزائر، وتمنع تونس من الاشتراك في الجامعة العربية وكي تساند أخيراً حزب بورقيبة صديق فرنسا الذي يعمل على إيقاف المد القومي العربي تجاه أفريقيا الشمالية".

 

إقرأ أيضا: الاستقلال التونسي وجذور الخلاف بين بورقيبة وبن صالح

 

إقرأ أيضا: تونس.. كيف كسب بورقيبة معركته مع اليوسفيين؟ شهادة



التعليقات (0)