أخبار ثقافية

ثلاثون عاما على فيلم رابطة الشعراء الموتى.. اقطف زهورك متى استطعت

Dead Poets Society
Dead Poets Society

ملاحظة: هذه المراجعة للفِلم تحرق الأحداث.

 

في الفصل الأول من روايته (بارنابي رَدچ Barnaby Rudge) يُنطِق تشارلز دِكِنز (چون وِلِت) صاحبَ الحانة التي تدور الأحداث على خلفيتها بهذا الرّد على ابنه (چون) لأنّ الأخير تجرّأ وأدلى برأيه تلقائيًّا في مسألةٍ ما:

- "لا. ليس لك أن تفتحَ فَمَكَ أبدا. حين يُطلَبُ رأيُكَ قُلْه. حِينَ تُخاطَبُ تَحَدَّثْ. أمّا حِينَ لا يُطلَب رأيُكَ ولا تُخاطَبُ، لا تُدْلِ بِرَأيِكَ ولا تَتَحَدَّثْ. مِنَ المُؤَكَّدِ أنَّ العالَمَ تَغَيَّرَ كثيرًا مُذ كُنتُ صغيرا. أعتقدُ أنه لَم يَعُدْ هُناكَ صِبيَة. لَم يَعُدْ هناك شيءٌ يُسَمَّى صَبِيّا. لا توجد مرحلةٌ وُسطَى هذه الأيامَ بين مولودٍ ذَكَرٍ ورَجُلٍ ناضِج. كُلُّ الصِّبيَةِ ذَهَبُوا مع جلالَةِ المَلِكِ المُعَظَّم چورچ الثاني".


هكذا رسم (دِكِنز) رؤية كثير من الآباء المتعنتين لما يجب أن يكون عليه أبناؤهم الصِّبية. على الصبي أن يسمع ويطيع ولا يناقش إلا إن طُلِب منه ذلك، فإن تجرأ وفعل غير ذلك فهو يحاول عبثًا أن يطاول الرجال الناضجين، بينما هو في الحقيقة لم يتخطّ مرحلة المولود الذَّكَر!


هذه الرؤية هي بالضبط رؤية أكاديمية (وِلتُنWelton's Academy) التي نقلها إلينا كاتب السيناريو (توم شولمان Tom Schulman) في فِلمِه (رابطة الشعراء الموتى)، متفقة بالضبط مع رؤية الأب المتعنت (مستر بيري Perry) والِد (نِيل Neil) أحد أبطال الفِلم. وهي رؤية يتحداها (مستر چون كيتنغ John Keating) الذي قام بدوره الراحل العظيم (روبن وليامز)، ويحاول جاهدًا أن يكسرها ويحضّ الطلَبَة على التمرد عليها لتحقيق ذواتهم. 


في الفِلم الذي أخرجَه بيتر وِير Peter Weir من إنتاج عام 1989 نرى أكاديمية وِلتُن الخيالية - وهي مدرسة ثانوية داخلية أرستقراطية للأولاد فقط – شديدة التمسُّك بالتقاليد، تتبع استراتيجيّة تعليمية وتربوية محافِظة إلى أبعد الحدود، وعلى رأسِ الأكاديمية مستر (نولان) الذي يجسّد الصرامة التي لا تلين إزاء الطلَبة. يبدأ الفِلم مع أول يوم في عام دراسي جديد، حيث يصبح (تُد أندرسن) الخجول المنطوي زميلَ غرفة واحدٍ من أنجح الطلَبة (نيل بيري)، وتدريجيًّا يستوعبه أصدقاء هذا الأخير: (نُكس أوفرستريت) و(رتشارد كاميرون) و(ستيفن ميكس) و(جيرارد بتس Pitts) و(تشارلي دالْتن). وبعد استعراض سريع لأساليب بعض أساتذتهم – تحديدًا أساتذة الكيمياء واللاتينية وحساب المثلثات – وكلها تتوافق مع تقاليد الأكاديمية الصارمة، نفاجَأ مع الطلَبة بمستر (كيتنج) أستاذ الإنجليزية الذي يدخل من الباب الأمامي للفصل وهو يدندن اللحن الأساسي من افتتاحية 1812 لتشايكوفسكي، ثم يخرج من الباب الخلفي ويدعوهم للخروج وراءه إلى الطرقة الواسعة المتاخمة للفصل. وهنا نتابع مشهدًا عبقريًّا لا أظن أن بإمكاننا نسيانَه. يسألهم (كيتنج) عن قائل السطر الشعري: O Captain, My Captain فلا يجيب أيٌّ منهم، فيخبرهم بأنه (والت وتمان) في مرثيته للرئيس الأمريكي (أبراهام لنكن)، ويطلب منهم – إن وجدوا في أنفسهم الجرأة – أن ينادوه من الآن فصاعدًا بهذا النداء: O Captain, My Captain! ثم يوقِفُهم أمام صور الفِرق الرياضية القديمة لطلَبة الأكاديمية وأمامها دروعهم وكؤوسهم، ويحثهم على أن يرهفوا أسماعهم لما يهمس به هؤلاء الطلَبة القدامى الذين أصبحوا في عَداد الأموات، ويهمس هو بنفسه في صوتٍ أجشّ كأنه خارج من القبر: Carpe diem.. وهي العبارة اللاتينية الشهيرة التي تعني: اغتنموا اليوم.


يومًا وراء يوم، يكرّس (كيتنج) صورتَه كمعلِّم غير نمطي، فهو يرفض ابتداءً مقدمة كتاب الناقد الخيالي (J.Evans Pritchard) التي يتحدث فيها عن معاييره الثابتة لنقد الشِّعر على أساس رسم بياني يضع جماليات النص على المحور الأفقي وأهمية موضوعه على الرأسي ويحسب حظ النّص الشِّعري من العظَمة بناءً على المساحة المحصورة بين هذين المحورَين! يعلمهم (كيتنج) أننا نقول الشعر ونقرأه ونتذوقه لأننا ننتمي إلى النوع الإنساني ولأن الشِّعر هو تطلّع الإنسان إلى الجَمال. 


يكتشف الطلَبة أن (كيتنج) الذي كان طالبًا قديمًا بالأكاديمية كان عضوًا في رابطة غير رسمية، اسمها (رابطة الشعراء الموتى)، فيقررون إحياء هذه الرابطة تأثرًا بأستاذهم، ويبدأون الاجتماع في كهف قريب، متسللين ليلاً من غرفهم بالأكاديمية، ليقرأوا الشِّعر. يثور كلٌّ منهم على وضعه متأثرًا بأستاذه والشعار اللاتيني الذي بثّهم إياه، فيتقرب (نُكس أوفرستريت) من (كريس) الجميلة رغم القيود العائلية، ويكتب لها قصيدة يلقيها على مسمعيها في فصلها الدراسي، ويتغلب (تُد أندرسن) على خجله ويرتجل قصيدة حبلى بالصُّور الرائعة أمام زملائه، ويثور (نيل) على رغبة والده في إلحاقه بمدرسة الطب العريقة في (هارفارد) ويقرر أن التمثيلَ عِشقُه الحقيقي فيلتحق بفريق المسرح ويجسد دور (بَك Puck) في (حلم ليلة صيف) لشيكسبير، بينما يأتي (تشارلي) إلى الكهف بفتاتين تفكران في الانضمام للرابطة، ويكتب مقالاً في صحيفة المدرسة يطالب فيه الإدارة بالسماح للفتيات بدخول الأكاديمية. 


تتوتر علاقة (كيتنج) بالإدارة حين تصل إلى (مستر نولان) أخبار طريقته الثورية في التدريس، وتتصاعد حِدّة التوتر حين يحقق (نولان) مع (تشارلي) ويرغمه بأن يعترف على زملائه في الرابطة، ثم يبدي (بيري) والِد (نيل) استياءه ورفضه لالتحاق ولده بفريق المسرح، ويصعّد موقفَه إلى سحب (نيل) من الأكاديمية ليُلحِقه بمدرسة داخلية عسكرية إلى أن يلتحق بهارفارد، مما يتسبب بشكل مباشر في انتحار (نيل). يحقق (نولان) مع الطلَبَة في قضية انتحار (نيل)، ويجدون أنفسهم مجبَرين على الإشارة إلى أن انتحار صديقهم كان بسبب (كيتنج)، فيُفصَل أستاذهم.  


عن شخصية (كيتنج) وأداء (وليامز)- أمريكي ثائر على الإرث البريطاني:
الملمح الأول في شخصية (كيتنج) هو اسمه الذي يستدعي إلى أذهاننا على الفور اسم الشاعر الرومانسي الإنجليزي (چون كيتس John Keats) صاحب المكانة الرفيعة في تاريخ الشعر الإنجليزي في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، فهو اسم محمَّل بطاقة شِعرية من قبل أن ينطق بكلمة واحدة. والمشهور أن (شولمان) كاتب السيناريو - الذي حاز أوسكار أفضل سيناريو أصلي عن هذا الفِلم – بنى هذه الشخصية على أستاذه في الإنجليزية (صامويل بكرنج Samuel Pickering) الكاتب والأستاذ بجامعة كونكتيكت الذي حرص بعد ظهور الفِلم وإشارة (شولمان) إليه على التأكيد على أنه لم يكن يهدف من وراء طرائقه غير النمطية في التدريس إلا إلى تسلية نفسه!.

 

https://muse.jhu.edu/article/42687


ولعلّ لازمة دندنة لحن افتتاحية 1812 التي تكررت في الفيلم تكرّس لانمطيّة هذه الشخصية فضلاً عن حماس (كيتنج) المتّقد وإيمانه بانتصار أسلوبه، فقد كتب (تشايكوفسكي) هذه الموسيقى عام 1880 تخليدًا لانتصار دفاع روسيا على حملة نابوليون عام 1812، كما قاد بنفسه الأوركسترا في المرة الأولى التي عُزِفَت فيها في أمريكا في افتتاح قاعة كارنيجي Carnegie Hall، وأصبحت فيما بعد مصاحَبةً معتادة للألعاب النارية التي تُطلَق في احتفال الولايات المتحدة الأمريكية بذكرى استقلالها عن بريطانيا. 

 

وفي هذا الصدَد لا يفوتنا أن نتتبع اسمًا آخر ربما يكون ذا مغزى في هذا الفِلم، هو اسم الأكاديمية (وِلتن). فالبحث يُطلعنا على أنه لا توجد أكاديمية تحمل هذا الاسم في أمريكا، وإنما هناك قرية (ولتن Welton) في مقاطعة (لنكنشر Lincolnshire) في شرق إنجلترا، حيث تتوفر الأدلّة على استعمار الرومان والسلتيين Celts لها. وبمجرّد ذِكر السلتيِّين، يقفز أمام أعيننا المشهد الافتتاحي للفِلم، حيث الاحتفال باليوم الدراسي الأول بعزف آلة القِرَب – المميزة لتراث السلتيين لا سيما في اسكتلندا - التي يصاحِب عازفوها الطلَبة إلى اجتماعهم الأول بناظر المدرسة (مستر نولان). هنا تقوم الموسيقى بوظيفة تأكيد اتصال الأكاديمية بالتراث الضارب بجذوره في الجزر البريطانية القديمة، وحرصها على التقاليد، وهما أمران يتأكدان بطريقةٍ أخرى لطيفةٍ في المشاهد التي يَخطُب فيها (نولان) الطلَبة، حيث يُلقي خطبتَه بلكنة بريطانية فصيحة، يحرص فيها مثَلاً على ألاّ ينطق حرف R على عادة البريطانيين في سؤاله:


What are the four pillars? ليؤكد أنه non-Rhoter كأجداده في الجزر البريطانية.
وسط كلِّ هذا يدندن (كيتنج) لحنه الأثير الاستقلالي، الذي يستدعي من طرفٍ خفيٍّ السِّمة الدعائية اللصيقة بأمريكا، ونعني بها ترحيب هذا البلد بكل الأعراق والثقافات، فاللحن روسي، لكنه يُعزَف في عيد الاستقلال الأمريكي. ثم إنه يفاجئنا بمعرفته بالاسم الساخر الذي يطلقه الطلَبة على Welton حيث يحرفون المقطع الأول إلى معنى الجحيم ليصبح Hellton فيقول ساخرًا إنه: "درسَ في (هِلـ)تن مثلهم ونجح في البقاء على قيد الحياة." I too attended hellton and survived.


فهو إذن ساخرٌ من هذا الإرث البريطاني الصارم (وإن لم يَقل الفِلم هذا صراحةً أبدًا)، ويسعى لأن يُخرج طلَبته من دائرة هذه الصرامة القاسية. ويوظّف (وليامز) مهارته الأدائية الاستثنائية في رسم شخصية هذا المعلِّم غير النمطي، فمونولوجاته متراوحة الطول داخل الفصل الدراسي تشبه أداء كوميديا الوقوف Stand-up Comedy التي بدأ حياته الفنية بها بالفعل، لاسيّما حين يقلّد مارلون براندو وجون وِاين John Wayne في أدائهما لسطرين من شيكسبير. 


الشعر والموسيقى


لا يصطدم المرء كثيرًا بسينما تقدم الشعر بهذه الكثافة. احتشد الفِلم بالاقتباسات من والت وتمان على الخصوص، وإن كان قد اقتبس كذلك من شيكسبير وروبرت فروست وألفرد لورد تنيسون وفِاتشل لِنزِي Vachel Lindsay، فضلاً عن مقطع نثري طويل من (هنري دافيد ثورو). والملاحَظ في كل هذه الاقتباسات أنها محتفية بالحياة وإيقاعها الصاخب وتمجّد السخرية كقيمة أصيلة. ربما يكون أوفرها حظًّا من السخرية ذلك الاقتباس غير المكتمل الذي يتلوه في أحد اجتماعات الكهف (جيمس وُاترستن James Waterston) الذي يجسد دور الطالب (جيرارد بتس)، وهو من أنشودة (وليام بلوت Ballad of William Bloat) عن رجل بروتستانتي يذبح زوجتَه الكاثوليكية التي تنغص حياتَه ثم يشنق نفسَه بحبل صنعه من الملاءة التي تغطي قدمي زوجتِه، خوفًا من عقاب القانون، وهو يلعن البابا أثناء انتحارِه! القصيدة لشاعر أيرلندي لم يُذكَر اسمه في الفِلم، هو (رايموند كالفرت):
https://www.antiromantic.com/ballad-of-william-bloat/
     حيث تنتهي هذه القصيدة بأن الزوجة لم تمُت لأن الشفرة التي استخدمها (بلوت) في الذبح صناعة ألمانية، بينما مات زوجُها لأن الملاءة صناعة أيرلندية من بلفاست. وحين نتتبع هذه القصيدة، نكتشف أنّ أشهر أداء غنائي لها هو ذلك الذي قام به المطرب الشعبي الأيرلندي الراحل (تومي ماكم Tommy Makem) الذي غيّر قليلاً في نهايتها بحيث عجزت الشفرة عن الذبح لأنها صناعة بريطانية، ولهذا دلالته في إطار الصراع التاريخي بين التاج البريطاني وأيرلندا. ألا يذكّرنا هذا بما قلناه عن الثورة الضمنية على الإرث البريطاني النّقيّ وتأكيد الصورة الأمريكية المرحّبة بكل الأعراق؟! 

 


 وتتحقق في الفلم توأمة الموسيقى للشعر بشكل وظيفي، فمثلاً في المشهد الذي يصطحب (كيتنج) فيه الطلَبة لركل الكرات بأقصى ما في وسعهم من قوة بعد قراءة سطور من قصيدة A Song of Joys لوالت وتمان، نجده يشغّل في الخلفية المتتاليةَ الثالثة لموسيقى الماء لهِاندل Handel's Water Music Suit III. وكذلك حين يلعبون مباراة في كرة القدم ثم يرفعون أستاذهم على الأكُفّ، نسمع في الخلفية الحركة الرابعة من السمفونية التاسعة (الكورالية) لبيتهوفن. هكذا يصبح الشعر والموسيقى معادلاً في الفِلم للاحتفاء بالحياة ومباهجها واغتنام اللحظة. 


والحق أن الشعار اللاتيني الخالد الذي بثّه (كيتنج) في طلبتِه Carpe diem هو المعادل الشعري الأشهر في التراث اللاتيني كلّه للنزعة الإبيقورية في صيغتها الأشهر المحرّضة على اغتنام اللذات الحسّيّة، وهو شعار مأخوذ من أغاني (هوراس 65 – 8 ق.م). ولا يكاد يضارعه في هذه الشهرة إلا السطر الإنجليزي الذي شفع به (كيتنج) موعظته المحرَضة على الحياة: Gather Ye Rosebuds While You May من قصيدة (روبرت هِرِك Robert Herrick): إلى العذارى ليستفدن بوقتِهنّ To The Virgins, to Make Much of Time!


أما موسيقى القِرَب التي يبدأ بها الفِلم إشارةً إلى التقاليد الراسخة، فهي تظهر ظهورًا خاطفًا في منتصف الفِلم حين يقوم عازف وحيد بعزفها على مركب في الماء، في لقطة ربما تبدو غريبةً في سياقِها للوهلة الأولى، وإن كانت في رأيي تشير إلى أنه لا فِكاك من ذلك الإرث الصارم، ولا يمكن التملص منه بشكلٍ كامل، وربما يتجاوب هذا مع مشهد (كيتنج) حين يستقبل (نيل) في غرفته وهو يكتب خطابًا إلى حبيبته التي تعيش في لندن (لندن بالتحديد)، كما يتجاوب مع استنكار (كيتنج) لما فعله تشارلي – الذي قام بدوره جِال هانسن Gale Hansen – من كتابة المقال باسم الرابطة والتجرؤ على (نولان) أثناء خطاب التقريع الذي ألقاه الأخير على الطلَبة، حيث وصف (كيتنج) هذه الأفعال بالغباء، ونصح (تشارلي) بموازنة الأمور. 


ويأتي الظهور الأخير لموسيقى القِرَب في الفِلم مع نزول شريط النهاية، حيث كتب (موريس چار Maurice Jarre) موسيقى النهاية تعزفها القِرَب في المقام المِكسوليدي Mixolydian Mode وهو مقامٌ ليس فرِحًا تمامًا كالسلّم الكبير Major Scale/ Ionian Mode ولا رصينًا متأملاً تمامًا كالصغير Minor Scale/ Aeolian Mode وإنما يبدو فرِحًا ينغّصه اضطرابٌ غريبٌ في بنيتِه، فكأنه يلخَص حكمة الفِلم في النهاية: سنحاول أن نثور على تقاليدنا وسنفرح بانتصاراتنا الصغيرة ونقطف أزهارَنا متى استطعنا إلى ذلك سبيلاً، لكننا سنموت وينتهي الأمر، تمامًا كما حدث مع (نيل بيري) الذي جسّد دورَه (روبرت شن ليونارد). ربما لهذا اختار (كيتنج) السطر الذي ناداه به طُلاّبُه لحظة الوداع وهم يقفون على مكاتبهم في الفصل رغم تحذيرات (مستر نولان): O Captain, My Captain، نقول ربما لهذا اختارَه من مرثية شهيرة للرئيس (لنكن)، فهو يعرف أنه إلى زوال، وأنه لن يشهد الأثر الذي سيُحدِثُه في حياة طُلاّبه إلى النهاية، وبالفعل حُكِم عليه بمغادرة المدرسة فمات مجازيًّا، كما مات (أبراهام لنكن) في الحقيقة قبل أن يشهد ما أحدثَه من تغيرات في المجتمع الأمريكي.


كلمة أخيرة عن جماليات الفِلم


في تقديري أنه لولا الأداء المعتبَر لطاقم هذا العمل ككل لما استطاع أن يصمد إلى الآن كفِلم خلق طائفةً من الدراويش المتعلّقين به في أربعة أصقاع العالَم Cult Film. من الصعب أن ينسى المرء أداء (إثان هوك Ethan Hawke) لدور (تُد) الخجول المنطوي الذي تتحول شخصيته تدريجيًّا على أثر احتكاكه بـ(نيل) وأصدقائه وبتأثير (كيتنج). لقد آزرَته بحَقٍّ خلجات وجهه ونظرات عينيه في هذه الرحلة الروحية. كذلك كان (جُش تشارلز Josh Charles) موفقًا جدًّا في أداء دور (نُكس أوفرستريت) الذي اختطفَت قلبَه المراهقَ نظرة عابرة من فتاة جميلة، وقُل مثل ذلك عن باقي ممثلي أدوار الصِّبية في رابطة الشعراء الموتى. 


أمّا الإخراج، فبالإضافة إلى قيادة (وِير) الموفقة لجهود (روبن وليامز) الأسطوري ومن معه، فقد ظهرت إشارات لطيفة له من أول ظهور شريط العنوان Dead Poets Society على خلفية الشمعة المُضاءة في الظلام، كأنّ هذه الشمعة إحياء لذكرى كل الشعراء الموتى واحتفال بهم، أو هي تأبين لهم يتجاوز الزمن. 

 

كذلك كان تصوير كادرات الفِلم الخارجية غايةً في الإبداع، خاصةً تلك الآتية على خلفية المناظر الطبيعية، فكأنها لوحات للفنان التشكيلي الإنجليزي الرومانسي العظيم (كونستابل Constable). ومن اللافت تقابلُها مع مشاهد الكهف الليلية ذات الإضاءة الخافتة، حيث يثير هذا التقابُل سؤالاً سياقيًّا في مضمون الفِلم: هذه الأكاديمية التي تنتمي في الظاهر إلى النور والحياة، كيف لها أن تنكر على الطلَبة أي محاولة لتذوُّق هذه الحياة، فلا يصبح أمامهم مِن سبيل لذلك إلا وهم مُحتَمون بظلام الكهف؟! 
     أخيرًا، يتردد أن الناقد السينمائي الأمريكي الأشهر (روجر إبرت Roger Ebert 1942-2013) لم يحب هذا الفِلم، وأنه قد سخر بالتحديد من لحظة قيام الطلَبة للوقوف على مكاتبهم لتوديع أستاذهم في النهاية، كما وصم الفِلم بأنه تجميعة من المواعظ بقِيَم يبشِّر بها السيناريو ثم يتنكّر لها. وفي رأيي المتواضع أنه في هذه النقطة الأخيرة لا يبدو مدركًا تمامًا حكمة الفِلم، تلك الحكمة التي تعترف بأن المحاولة سُدى في التحليل الأخير، وإن كان ترك المحاولة موتًا مبكِّرًا كذلك! أمّا فيما يتعلق بمشهد وقوف الطلبة على مكاتبهم، ففي ظنّي أن (إبرت) انطلَقَ في رأيه هذا من تصوُّر عن السينما الجديرة بالمشاهدة، فحواه أنها تلك السينما التي تُقَدَّر فيها المسائل بقدرها الواقعي دون مبالغة.

 

وأعتقد أنه لم يجانب الصواب في انطواء هذا المشهد على مبالغة مسرحية، لكنني أؤمن أنّ السينما لا يمكن أن تتحرر تمامًا من الأثر المسرحي المبالِغ، وإلا أصبحَت بلا طعم ولا لون ولا رائحة! إننا أمام فِلم يتحدث عن أستاذ يعمد إلى المبالغة طيلة الوقت، صادرًا عن حماس متَقِد للحياة وللتبشير بمباهجها، وطلَبة في مرحلة المراهقة (مليئين بالهرمونات) كما يصفهم (كيتنج) في البداية، فإن أصبحَت حياة هؤلاء في الفِلم فاترة باردة كما كان يحلو لـ(إبرت)، لما كان للحياة نفسها طعم ولا لون ولا رائحة. الحياة نفسها، لا الفِلم السينمائي فقط!

 

 

0
التعليقات (0)