كتب

الأصول العقلية المعرفية للعصر الحضاري في زمن العولمة

كتاب يقارن بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية من مدخل الأسس العقلية والمعرفية  (عربي21)
كتاب يقارن بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية من مدخل الأسس العقلية والمعرفية (عربي21)

الكتاب: 2020 ومابعد! وما بعد إشكاليات حضارية في عولمة بلاهوية
الكاتب: د. حاتم علامي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ،الطبعة الأولى صيف 2019، بيروت لبنان، 
(359 صفحة من الحجم الوسط).

يشكل الخوض في الأسس العقلية المفهومية للحضارات أحد الخيارات التي يتحتم اللجوء إليها لاستكشاف العمق المعرفي لحضارة ما، وفي موضوع هذا الكتاب، يقدم الباحث إضاءة مقارنة على الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية من مدخل الأسس العقلية والمعرفية، ومن منطلق نزع الادعاءات القائلة بحتمية سيطرة حضارة ما على الحضارات الأخرى كشرط للحفاظ على الاستقرار والتقدم.

وتنجلي من هنا أهمية ترجمة صور التنوع الحضاري إلى سياسات ومواقف من قضايا الإنسان ومشاكل المجتمعات، وبالتالي رفض محاولة تكريس مفاهيم تقوم على تبرير سياسات الإخضاع بأشكالها المختلفة لتحقيق هيمنة حضارة ما على الواقع الراهن، وتأكيداً لمزاعم حتمية صدام الحضارات، حتمية مواجهتها مع بعضها البعض كنتيجة لتطور الحضارات الذي يختزن أسباب هذه المواجهة.

 

نشوء الحضارات

إِنَّ المقاربة التي تستند على تحليل المكوِّن العقلي المعرفي لنشوء الحضارات تشكل تحريراً لديناميات الشخصية الحضارية من إسقاطات هذه الإيديولوجيا، من خلال تحليل مضامين المرتكزات المفهومية، والتي تعتبر نتائج دورة زمانية غير منقطعة عن الطابع الإنساني، ولاسيما بالنسبة إلى ما يخص تلازم هذه الشخصية مع البيئة والعوامل المفاتيح التي ترسم اتجاه حضارة ما. 

ففي حالة الحضارة الأوروبية التي شكلت أساس حضارة الغرب يدور السؤال حول العوامل التي أدت إلى نقل حضارة عصر التنوير المستندة إلى الإكتشافات العلمية، والدعوة إلى تحرير الإنسان لنبذ كل أشكال العبودية على قاعدة علمية إنسانية أخلاقية تنافي مبادؤها مقولة التفوق الحضاري القائم على مفاهيم الغطرسة وسياسات تستهدف احتواء الحضارات الأخرى إخضاعها مصادرة هويتها.

في هذا السياق ، يقول الباحث حاتم علامي: "إذا كانت المقاربة تهدف إلى استكشاف المقدمات والمقومات لنشأة الحضارة الغربية، فإنها في سياق التحليل تسلط الضوء على الواقع المأزوم للحضارة العربية الإسلامية، وتُمِيطُ اللثام عن حالة العقل العربي والنظام المعرفي العربي إزاء الأسئلة المصيرية التي تطرحها المرحلة التي يعيشها العالم، والتحديات الماثلة أمام المجتمعات العربية الإسلامية والإنسان العربي عموماً في انتمائه إلى الحضارة الإسلامية"(ص 28 من الكتاب). 

من هنا يبدأ الباحث كتابه بتوجيه مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالعقل والنظام المعرفي، العقل والعقل المجتمعي، المواجهة العقلية للتحريف الإيديولوجي، وصولاً إلى قراءة في الشخصية الحضارية من خلال الأبعاد السوسيوثقافية.

 

التعامل بفكر نقدي مستند على منجزات العلم والفلسفة والحضارة، باعتبارها منجزات إنسانية يفتح على مقاربة إيجابية لفهم الواقع وتقييم المخارج الممكنة لأزمة الانغلاق والاغتراب بين الواقع والذات التي يعيشها الانسان العربي


يقدم الباحث تحليلاً عميقًا لأفكار فلاسفة الأنوار في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لا سيما في  قضية الحرية، ومفهوم العقل الذي ارتبط عندهم بنبذ الخرافات والأساطير التي شكلت عائقًا أمام القدرات الطبيعية للإنسان. وفي دائرة هذا البحث يركز الباحث على ارتباط ذلك كله بالعقل الاجتماعي وفكرة التقدم بوصفها تعبيرًا عن إعمال العقل، بما يؤدي إلى التقدم أي التحول التدريجي من الأقل إلى الأفضل. ويشكل هذا التوقف عند العقل والعقل الاجتماعي والظواهر والأفكار المرتبطة به دحضًا لإيديولوجيا صدام الحضارات التي تستثمرها سياسيًا في التوازنات الحالية والتغيرات التي رافقت قرونا من الاستعمار.

وكما يقول الباحث حاتم علامي: "إِنَّ السياق نفسه يشكل مدعاة إلى التعامل بمنهجية نقدية ثورية مع المأزق الحالي الذي يعيشه واقعنا العربي، ونجد هنا أن الإضاءة بأنوار القرن الثامن عشر على الوقائع الراهنة تؤشر إلى التداعيات السلبية لغياب البيئة التي تخلق حافزاً ومدعاة لاستنهاض الإنقلاب على الركود الحاصل. وإذا كانت محورية العقل تشكل الأساس في فتح الأبواب أمام حوار جدي ومسؤول فإِنَّ التعامل بفكر نقدي مستند على منجزات العلم والفلسفة والحضارة، باعتبارها منجزات إنسانية يفتح على مقاربة إيجابية لفهم الواقع وتقييم المخارج الممكنة لأزمة الانغلاق والاغتراب بين الواقع والذات التي يعيشها الانسان العربي"(ص33 من الكتاب).

ويعتقد الباحث أنَّ موضوعة السلطة، والعمق السياسي، الارتباط بين هذه العوامل، ومسألة الخلافة وتداعياتها مع أحداث القرون السابقة، تشكل دلالات على إنغلاق النظام المعرفي العربي وإقامة الحواجز المعيقة للمحاولات التي جرت حتى الآن، سواء كانت هذه المحاولات صحيحة في اتجاهاتها ومنطلقاتها ومراميها، أو كانت خاطئة من حيث قفز معظمها فوق خصوصية الثقافة الإسلامية وتماهيها مع كينونة هوياته مستلبة في كنف الإنجذابات المتنافرة حول الخيارات، وقيم المستقبل غيرها من القضايا الشائكة التي تمس مسارات التعاطي مع التحديات.
 
من هنا ركز الباحث على الرابط بين النظام المعرفي وتطور الحضارات، بإبراز الإمكانات المتاحة لإيجاد مخرج للتخبط الذي أوصل إليه قراءة السياق العام لتطور الحضارات قراءة خارجانية، وقد عكست هذه القراءة مرحلية متمثلة بحقيقة تعكس سيطرة قطبية أحادية في المنظومة التي تحكم العالم، وتوجه أحكام الإنسان بصورة متلازمة مع حقيقة ا لعلاقات التي تطورت بين المجتمعات.

من هذا المنظار وبناء على القوة التي تتحكم بالنظام الدولي القائم أحادي القطبية، والمتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، يرى الباحث أن هذه الأخيرة تسعى إلى فرض نموذجها الحضاري على الصعيد الكوني، وتعميم النمط المغرّب أو المُؤَمرك من أجل تحقيق اندماج قسري للحضارات والثقافات ضمن النموذج الأحادي السيطرة في العصر الحالي.
 
الدعوة إلى العقلانية لتجاوز عقدة الهوية 

منذ عدة قرون والعالم يعيش في كنف الحداثة والحضارة الغربية، وتعرضت البشرية لثلاث صدمات كبيرة، الأولى لـ "غاليلي"، حين اعتبر الشمس مركز الكون، والثانية لـ "داروين" حين اعتبر أن الإنسان متحدر من الحيوان، والثالثة صدمة "فرويد" بأن ما يتحكم بالإنسان ليس وعيه بل لا وعيه، وأضاف جورج طرابيشي صدمة رابعة التي أحدثها الإنسان الغربي للإنسان الشرقي خلال خمسمئة سنة.

انعكست هذه الصدمات على هوية الإنسان الشرقي، فما هي بالتالي ديناميات العلاقة بين الهوية الوجودية والسياق الحداثي المطرد؟ هذا السؤال يشكل حلقة وصل مع تداعيات المسارات الناشئة عن الحداثة ضمن الفضاء الحضاري في عصر العولمة .

يرتبط تحدي التطور الحضاري بأسئلة الكينونة والهوية وصيرورة الحداثة، وتشكل الثقافة عصب النورانية التي تمكن الفكر من النفاذ إلى طرح الأسئلة المنطقية المصيبة، حيث يرتبط سؤال الصيرورة الحداثية العربية بالدراسات المقارنة التي ازدهرت مع تموضع الحضارة العربية، وفي تمظهرها على الخارطة الدولية باعتبارها الحضارة الإسلامية، وباتت المفاهيم التي شكلت فاعليات السياق الحداثي على الصعيد العالمي عموماً جزءًا ملازماً، بل أساساً لتداول الموضوعات والمفاهيم الخاصة بالصيرورة الحداثية العربية.

 

الفكر الديني المحافظ الذي تتبنّاه المؤسسة الدينية، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك بعض تيارات الإسلام السياسي الموجودة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه.

 
تشكل قضية البحث عن الهوية نقطة الارتكاز التي استقطبت الاهتمامات الخاصة بعنوان الحداثة العربية، باعتبارها تمظهر لعلاقة الأنا بالآخر، من هنا أهمية المعادلات التي حملتها المابعد حداثة لخلق صيرورة جديدة للفكر العربي ، والتي تشكل فرصة للإنخراط في الحقبة الجديدة، التي تغيرت معها أساليب القرن السابق وتداعياتها على مأزق التخلف.

يقول الباحث حاتم علامي في الردّ العربي ـ الإسلامي على الصدمة الغربية: "إن إحداثيات الصعود الغربي للتربع على عرش الحضارة العالمية تمثل صورة المحرك لتركيز الانتباه على إشكالية البحث عن الهية، فمن المعروف أن غزو نابليون بونابرت لأرض مصر شكلت الإندفاعية الإستعمارية الغربية باتجاه الشرق عام 1789 فكانت الصدمة التي هزت الهوية الإسلامية في بديهياتها وأربكت مرجعيتها، فظهر منذ ذلك الحين حوار حضاري بالوكالة بين أبناء الأمة الواحدة، وسجل تمسك بمبادئ الإسلام شرطاً للنهضة في التعامل مع إحداثيات التطورات الحديثة في مقابل الرهان على الارتماء في أحضان الحضارة الغربية كشرط للإنطلاق الحضاري، حمل هذا الإنقسام مجموعة من الثنائيات تحت عناوين مختلفة كالأصالة مقابل الحداثة، والتراث مقابل المعاصرة، والرجعية ضد التقدمية، وهي ثنائيات تستمر في الخطاب الثقافي العربي ملتفة بنسيج أيديولوجي متلبسة بانتماءات فئوية تحت جنح التطورات التداعيات المتلاحقة"(ص 207 من الكتاب).

مع استمرار التجاذب الفكري، تحت مظلة ظروف المنطقة العربية، فإِنَّ مفهوم الهوية لا ينفصل عن الأبعاد الثقافية الاجتماعية ارتباطاً بالعوامل المحددة لطبيعة المرحلة وتفاعلات العلاقات خلال حقب مختلفة تتسم بالطابع الخلافي، فهي بالنسبة إلى التيار المحافظ ترتبط بالخوف على ضياع الهوية ومسحها، والمساس بالتقاليد والعادات. والرؤية الثانية، أي الماضوية للهوية، هي التي نجدها في الموروث الديني، وفي التراث و"الثقافة الشعبية"، فيتحول لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت والسرمدي. إنها الصيغة التقليدية أوالدينية للهوية التي ترفض الاختلاف والتعدّد، فمقولة الجماعة، أو مقولة الأمة أو الشعب أو الطبقة أوالحزب، نافية للإفرادية، لاختلاف الأفراد الحقيقي، للمغايرة، والتعدّد، أي نافية للواقعي الفعلي، ونافية للحرية، فضلاً عن أنها مقولات غير تاريخية أو لا تاريخية، بل جواهر وماهيات ومطلقات. تقيم هذه الصيغة للهوية التي تدافع عنها المؤسسة التقليدية في تونس الوثنية على الصعيد المعرفي، والاستبداد على الصعيد السياسي، ولعل في وقائع التاريخ العربي الإسلامي، القديم والحديث والمعاصر، ما يؤكد ذلك.

فالفكر الديني المحافظ الذي تتبنّاه المؤسسة الدينية، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك بعض تيارات الإسلام السياسي الموجودة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه. عند ذلك، نكون إزاء الهوية الفكرية والثقافية الدينية التي تعيش في التراث، وتكرّس الانغلاق، من "ثقافةٍ" دينيةٍ تعيد إنتاج الماضي بكل مشكلاته، وتتكيّف مع الانتهاك الاستعماري وشروط الهيمنة الإمبريالية الأميركية، ومع الصهيونية والعنصرية ، ومع التأخر التاريخي والاستبداد السائدين في العالمين العربي والإسلامي، وتتغنّى مع ذلك بالخصوصية، وتروّج أطروحات معادية تماما للمشروع التحديثي والتنويري الذي بذلت فيه النخب العربية منذ عصر النهضة الأولى، منذ أزيد من قرنين، جهودًا مضنية. وبذلك تكون هذه الهوية التقليدية ارتكاسًا قبيحًا وتعويضًا، لا معنى له عن الذل والامتهان والفرقة والتشتت والضعف.

 

إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى "جوهر" وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية


والهوية بالنسبة إلى التيار الحداثي الذي نشأ في كنف التحولات الجديدة، وفي دائرة التواصل مع الفكر الذي برز مع هذه التحولات، تُعَدُّ مسارًا طبيعيًا وشرطًا للحفاظ على الهو ية المنفتحة على الحداثة لحجز موقع على الخارطة العالمية.فقد ارتبط مفهوم الهوية بالمشروع الحداثي: أي بالفاعلية الإنسانية الحية، وبفكرة التاريخ والتغير ومفهوم التقدم. إنها هوية واقعية، وهي علاقة منطقية ومفهوم كلي، فكري، لكنها تحيل على التغير والتطور والصيرورة التاريخية، ومنطق الشكل ومفهوم التشكل، وتؤسس للحرية بما هي وعي الضرورة وللديمقراطية.

يضاف إلى هذين الخطين نظريات أفكار لتدوير الزوايا والبحث عن محاولات توفيقية وتسوية.

إن إشكالية البحث في الهوية تختزل مجموعة التفاعلات، حيث لا يمكن فصل عملية التفكر في علاقة الأنا بالآخر عن مجمل النظريات الفلسفية والأفكار التي ترتبط بثقافة الجماعة البشرية ولا بتراكمات اليوميات الحياتية المتصلة بتلبية الحاجات الإنسانية.

لقد تغيرت طبيعة التواصل بين المجتمعات على مستوى الدول والأفراد وساد مع انتصار العولمة الليبرالية المتوحشة ، بعد عقود من نهاية عصر الدولة ـ الأمة، نمط جديد وآليات جديدة، وتركت فاعليات التواصل الحوار ووسائل الإعلام وتطور الفنون ومشاريع السلام أثراً كبيراً في التصورات والأفكار التي كانت مدار اهتمام، وأساسَا لتكثيف الاهتمام بموضوع الهوية ضمن السياق الحداثي و التحديات التي طرحها المشروع الحداثي.

إِنَّ نقطة البحث عن الهوية ، لم يعد خارج السياقات الحداثية و الثقافية في دائرة الحضارة و التنوع الحضاري، والحال هذه فالمجتمعات العربية مطالبة بالانفتاح على الحداثة الغربية، بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، لا أن تظل سجينةً لعقدة الهوية، فهويتها ليس ما كان عليه ذات يوم في عصر الحضارة العربية الإسلامية فحسب، بل ما هو عليه اليوم، وما تريد أن تكونه في المستقبل، فسؤال الهوية ، ليس له من جواب منطقي وتاريخي، إلا في المجتمع المدني الحديث، بوصفه مجتمع التعدّد والاختلاف والتعارض، ودولة الحق والقانون المبنيين على أسس ديمقراطية وإنسانية، فالمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم إنما يلغي حريته واستقلاله وذاتيّته، لأنّ إلغاء الفردي والخاص هو إلغاء للعام. وكما يقول المفكر الراحل، إلياس مرقص: إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى "جوهر" وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية.. الهوية ذاتية حقيقية، ثقة بالذات، واستقلال فعلي، وحرية للإنسان، فردًا ومجتمعًا وأمةً.

 

إقرأ أيضا: قراءة تاريخية وعلمية في أسس النظام الليبرالي الحديث

التعليقات (0)