أخبار ثقافية

حداثة سياسية سابقة لعصرها

 يتساءل جان جاك شوفالييه، هل يمكن الحديث عن انفصال صارم بين الكنيسة والدولة؟ - ا ف ب
يتساءل جان جاك شوفالييه، هل يمكن الحديث عن انفصال صارم بين الكنيسة والدولة؟ - ا ف ب

لم يعد دانتي موجودا، عندما دخل البابا جون الثاني والعشرين في صراع مع لويس دو بافيير، المرشح لتولي عرش الإمبراطورية ضد فريدريك النمساوي، فقد دعا لويس الذي انتصر على فريدريك في ماهلدروف عام 1322 إلى انعقاد المجمع الديني العام للحكم على البابا بذنب الهرطقة في مايو 1324.


في الشهر التالي ظهر شخص من مدينة بادوا يسمى مارسيل 1275 ـ 1343 كتاب أهدي لقضية لويس بعنوان "المدافع عن السلام"، وعلى إثر ذلك، اضطر المؤلف للهروب واللجوء إلى بلاط لويس عام 1326.

وفي عام 1328 قام بابا بتتويج لويس إمبراطورا في روما، وفي نفس السنة عين مارسيل نائبا إمبراطوريا.

كان دانتي يحب البابوية الأمينة على وظيفتها وغير المغتصبة، تماما كما يحب الإمبراطورية صانعة السلام، وكان يريدهما مستقلتين الواحدة عن الأخرى، أما مارسيل دوبادو 1275 ـ 1343 فكان على العكس، يشعر تجاه البابوية كمؤسسة بكراهية عميقة، وقد أعطى لنفسه مهمة فضح تدخل السلطة الإكليروسية في شؤون الجماعة المدنية (الدولة).

حالة العصر


عاصر مارسيل مرحلة الصراعات بين الكنيسة والإمبراطورية للسيطرة على المدن الإيطالية، لكن الجديد في زمانه، أنه بدأت تظهر إلى الوجود إرهاصات تشكل الوحدات السياسية (الدولة)، وبهذا يمكن القول مع عزمي بشارة إن أطروحة مارسيل "المدافع عن السلام" جاءت من واقع المدن الإيطالية بفكر جمهوري يعتمد هيئات المدينة التي تمثل الشعب في إدارتها.

تورط البابا ـ بسبب مشكلة ممتلكات الكهنة ـ في نزاع مرير مع ذوي النفوذ من طائفة الرهبان الفرانسيسكان حول موضوع فقر الرهبان، وبدأت تطرح الأسئلة حول سلطة البابا المطلقة داخل الكنيسة.

 

وكان للصراع الكنيسي ـ الإمبراطوري تأثيره على عصر مارسيل، ونشأ عن هذا الصراع مجموعة كبيرة من الكتابات، وأثير سؤال عن مشروعية السلطة المطلقة، ودار النزاع الأيديولوجي حول مسألة العلاقة بين الملك ورعاياه، وبين البابا وبقية المسيحيين، هل يجب أن تكون للملك أو للبابا سلطة مطلقة؟ أو يجب أن تكون السلطة في المجالس التمثيلية التقليدية، وتخضع للقوانين والتقاليد القديمة؟

يتكرر مشهد الصراع بين البابا بونيفاس الثامن وملك فرنسا فيليب الجميل مرة ثانية، وفي هذه المرة تتلقى البابوية ضربة قاصمة، ففي عام 1338 شكل الناخبون الإمبراطوريون لأول مرة جمعية لها صلاحية الانتخاب من دون موافقة البابا.

ترتب على هذا التطور أن أثيرت قضية المفاضلة بين الحكم الملكي المطلق والحكم الملكي الدستوري، وبذلك انتقل نطاق البحث إلى علاقة الحاكم بالمحكومين.

ومن المهم التذكير هنا، أنه وعلى الرغم من تبلور بدايات نشوء الدولة القومية، وأن هذه الدول بدأت تشق طريقها عمليا بعيدا عن سلطة الإمبراطورية، إلا أنها ظلت من الناحية القانونية تابعة للإمبراطورية.

بعبارة أخرى، ثمة تراتبية هرمية للسيادة يتربع الإمبراطور على رأسها، بيد أن المدن ـ الدول غالبا ما كانت مستقلة نسبيا وتمارس سيادة الأمر الواقع، إذ كان هناك انقطاع بين النظرية والتطبيق العملي.

وكان مارسيل دو بادوا أحد أهم الكتاب في زمانه ممن حمل لواء الدفاع عن الإمبراطورية، وتعد نظريته واحدة من أهم ما تمخض عنه الفكر السياسي في العصور الوسطى.

 

لانقلاب على الترتيب الكنسي

إن الكنيسة بمعناها الحقيقي بالنسبة لـ مارسيل، ليست تنظيما تسلسليا، بل هي مجموع المؤمنين الذين يؤمنون بالمسيح، وبالتالي ليست هي مجتمعا متميزا عن الجماعة المدنية، ولا تشكل لوحدها جسما مستقلا.

ووفقا لذلك، لا تستوجب الكنيسة قيام سلطة، وأن الإكليروس ليس سلطة، لأن هناك سلطة واحدة، هي سلطة المشرع البشري التي يمارسها الأمير.

رفض مارسيل الانسجام بين الحقائق المسيحية والحقائق العقلية، وادعى وجود تمييز جذري بين حقائق الإيمان وحقائق العقل، فالعقل ذو اكتفاء ذاتي في مجاله، أما الإيمان فهو ينطبق على الحياة الآخرة وليس على السياسة.

وفي المجال الديني، لا توجد حقائق دينية يصعب على العقل فهمها، فالإيمان والعقل منفصلان، لذا، فإن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للرؤية الدينية، وبالتالي ليس هناك من مسوغ لإضفاء موثوقية على كلمات البابا أكثر من كلمات المسيحيين الآخرين.. هنا نتلمس بذور بروتستانتية تؤكد على فردية الإيمان.

إن هذه الأفكار تكشف مدى أهمية التحول الذي قام به مارسيل في الفكر السياسي نهاية العصور الوسطى، ففيه نجد بذور علمانية وبذور الديمقراطية التمثيلية، فضلا عن بذور ليبرالية كما سنرى لاحقا.
 
يتساءل جان جاك شوفالييه، هل يمكن الحديث عن انفصال صارم بين الكنيسة والدولة مطابق للاتجاهات الرشدية القوية لدى مارسيل؟ يجيب لا، لأن الكنيسة والدولة بدل من أن يكونا منفصلين، يختلطان بشكل وثيق لحد الانصهار والامتزاج، فالمواطنون هم المؤمنون، والمؤمنون هم المواطنون، والانفصال يكمن فقط في الوظائف الشعائرية والاحتفالية والاستشارية والوظائف القهرية، وليس بين المؤسستين.

أكد مارسيل أن حكام الكنيسة أساؤوا كليا فهم طبيعة الكنيسة ذاتها، بافتراضها أنها نوع من المؤسسات القادرة على ممارسة سلطة قانونية أو سياسية أو أي شكل آخر من السلطة القانونية القمعية.

واستند على ما قاله المسيح اعطوا ما لقيصر لقيصر، ثم على رسالة بولس لأهل رومة التي أكد فيها أن يخضع الكل للسلطات العليا، وهكذا انتهى إلى القول إن الكنيسة لا يمكن اعتبارها كيانا ذا سلطة قضائية.. وهنا نجد بذور العلمانية لديه.

بعد هذا الشجب العام للمنزلة الإكليركية الرفيعة، تقدم مارسيل إلى الموضوع الرئيس لخطابه الثاني، وهو هجومه على السلطات الكاملة.

اعترض على مفهوم الملكية البابوية بالدفاع عن مبدأ الوفاق، وهو المبدأ الذي أفاد أن السلطة التنفيذية الرئيسية في الكنيسة ليست عند البابا، وإنما هي في المجلس العام لجميع المسيحيين، بما في ذلك من ليسوا بكهنة، وهذا أوصله إلى شجب ثلاثة من الأطروحة البابوية الخاصة بسلطاتها الكثيرة... هنا نلمس البعد الديمقراطي التمثيلي.

وأكد على أن تحديد المسائل المشكوك فيها في النصوص المقدسة وسلطة إصدار حرم ضد أي حاكم والترتيبات الخاصة بالطقس الكنسي، وسمات أخرى من سمات الإيمان، كلها مسائل لا سلطة لأحد للبت فيها سوى المجلس العام.                                                            

أما الطريقة الأخرى التي هاجم بها مارسيل منزلة البابوات العليا، فقد تمثلت في رفعه لعلو لا مثيل له حقوق السلطات المدنية فوق الكنيسة، وقد سبق أن أكد على عدم أحقية أي عضو في الكنيسة أن يسيطر على أي سلطة قضائية قمعية، فهذه من واجب المشرع الإنساني المخلص.

لا يعني ذلك أن مارسيل كان يسعى إلى اعتبار الكنيسة جزءا من الدولة، وأن لكل دولة كنيستها الوطنية الخاصة، فما زال الزمن مبكرا حتى نصل إلى القرن الـ 16، فالزمن لم يكن ناضجا بعد للتخلي عن مفهوم الكنيسة الكلية.

المشرع البشري


اعتبر مارسيل أن الحكم الصالح هو ثمار للسلام والهدوء، أن نفي السلام يقود إلى الطغيان.

بعبارة أخرى، كانت الإشكالية السياسية عنده وعند معاصريه تكمن في تحقيق سلام المدن الإيطالية ووقف التناحر الحزبي ـ السياسي، من خلال إعلاء المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

كان أحد مظاهر مسألة النزاع الحزبي المركزية، التي أكد عليها مارسيل، يتمثل في السماح بانقسام السلطة داخل المجالس الحاكمة في المدن، لذلك كان أحد الأهداف المركزية لبحثه الأول هو اقتراح وسيلة لتجنب تلك الصعوبة.

أما الحل الذي اقترحه فقد كان في وجوب ألا ينقسم الحكام أبدا، لذلك أكد على أنه حتى ولو تألفت الحكومة من رجال عدة، يجب أن تكون عدديا حكومة واحدة في الوظيفة لتؤمن الوحدة العددية.

وكان الحل الجذري الذي اقترحه مارسيل هو أن الحاكم يجب أن يكون كيان الشعب كله.

هل يفهم من ذلك أن مارسيل يدعو إلى حكم إمبراطوري مطلق، أم يدعو إلى سيادة جمهورية يحمها الشعب ويمثلها الملك؟ ومن الواضح بحسب كونتن سكنر أنه كان يفكر بمفردات الجمهوريات المدينية الإيطالية.

 

فهو لم يساو شخص المشرع بالشعب أو بالجسم الكلي للمواطنين، أو أوزن جزء منه فقط، بل مضى إلى القول إن إرادة المشرع يجب أن يعبر عنها بالكلمات في المجلس العام للمواطنين الذي اعتبر أكثر المنابر التي لها سلطة لمناقشة جميع الشؤون القانونية والسياسية.

وقد أصر على القول بأن يظل جسم المواطنين كله هو المشرع صاحب السيادة، بغض النظر عما إذا كان يسن القوانين مباشرة بنفسه أو يفوض شخصا أو أشخاصا.

خلاف بعض المفكرين حيال إرث مارسيل النظري مرده إلى التعارض القائم بين كتابيه "المدافع عن السلام" و "المدافع عن روما"، وهذه سمة قد تبدو إيطالية آنذاك، إذ أننا سنقع لاحقا على نفس التعارض عند مكيافيلي.

ما يهمنا هنا هو القول إن كتاب "المدافع عن روما" هو أشبه بسجل إمبراطوري يعبر عن التزام راسخ بدور الإمبراطور وشرعية الإمبراطورية، أما كتاب "المدافع عن السلام" فهو بمثابة سجل جمهوري، نظرا إلى تشديده على رضى الشعب.

لا يقصد مارسيل بالتشديد على الشعب، قيام تجمع ديمقراطي بحتا يسود فيه حكم الأغلبية، ويرى أن وجهات نظر بعض السكان وجب أن تكون ذات اعتبار أكثر مما لدى الأخرين، وبهذا يمنح الشعب سلطة التشريع إلى شخص أو أشخاص يمارسون هذه السلطة.

إن الفئة الحاكمة أو باختصار الأمير، لا يمتلك حصرية السلطة إلا بموجب تفويض من المشرع البشري، الذي يقصد به عموم المواطنين، أو على الأقل الفئة المتفوقة أو الأكثر صلاحية من بينهم.

وإذا كان التلميح للرجال المجربين المختارين من قبل الجماهير، والمفهوم النوعي للفئة الأكثر صلاحية، يعتبران متفقين مع روح العصور الوسطى.. وهنا نتلمس بذور الليبرالية التي تؤكد على النخبة لا على المساواة.

0
التعليقات (0)