كتب

قراءة في آراء كلود ليفي ستراوس مؤسس الأنثروبولوجيا البنيوية

كتاب يقرأ إسهامات ليفي ستروس في بناء المدرسة البنيوية الفرنسية  (أنترنت)
كتاب يقرأ إسهامات ليفي ستروس في بناء المدرسة البنيوية الفرنسية (أنترنت)

الكتاب: الأنثروبولوجيا الفرنسية تاريخ المدرسة وآفاقها
الكاتب: عبد الله عبد الرحمن يتيم
الناشر: دار نينوي للدراسات و النشر والتوزيع ، دمشق، الطبعة الأولى 2019،
(261 صفحة من الحجم الكبير)

يتحدث ليفي ستروس، المولود في عام 1908م، عن طفولته مع والديه فيقول إنه نشأ بين أبوين تجاذبتهما اهتمامات بالرسم والموسيقى. كما يتحدث عن انتمائه لأسرة امتازت بعلاقة أجدادها بالأسر الملكية التي حكمت فرنسا، بالإضافة أيضاً إلى تدين بعضها وتحرر بعضها الآخر وخاصة والديه. امتازت هذه الطفولة بنمو اهتمامه بالموسيقى، وتحديداً من خلال علاقته بأبيه الذي كان موسيقيا، وتربطه صداقة بالموسيقي أوفن باخ الذي أعد مع والده عدداً من المعزوفات الموسيقية المشهورة، إلا أن هذه الأسرة تتعرض، وكذلك ليفي ستروس نفسه، للاضطهاد بسبب موجة معاداة الساميّة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. 

 

تأثر بكتابات هيغل وماركس

خلال المرحلة الأخيرة من حياته المدرسية في عمر السادسة عشرة أظهر ليفي ستروس اهتماماً بكتابات فلسفية أبرزها كتابات هيغل، وكانت، وماركس. وكما هو شأن أبناء جيله، فقد أخذته الأفكار الاشتراكية للالتحاق بالعمل السياسي الطلابي مع المجموعات الاشتراكية. كان على ليفي ستروس عند التحاقه بالجامعة الاختيار بين دراسة الرياضيات أو الدراسات الإغريقية، أما هو فقد اختار الالتحاق بدراسة القانون، حيث حصل في عام 1931 م على إجازته الجامعية الأولى في القانون والفلسفة. وكان أن تقدم لنفس الامتحان في العام ذاته كل من: سيمون دي بوفوار وموريس مرلو بونتي. وبعد حصوله على درجته الجامعية، التحق بالتدريس بعد فترة قصيرة من الخدمة العسكرية. وخلال خدمته في الجيش، تم إعطاؤه وظائف ثانوية إلى أن تم الاستغناء عن خدمته بسبب انتمائه إلى أبوين يهوديين.
 
وأثناء سنوات ضجره من مهنة التدريس وبداية تعلقه بموضوع الأنثروبولوجيا، الذي بدأ يكثُر الحديث عنه كموضوع في أوساط المثقفين الفرنسيين في بداية ثلاثينيات القرن العشرين، اطلع مثلاً خلال تلك الفترة على كتاب الأنثروبولوجي الأمريكي روبرت لوي: "المجتمع البدائي" وكان أن شاءت الظروف لليفي ستروس أن يتم اختياره في عام 1935 م من ضمن مجموعة من الأساتذة الجامعيين الفرنيسيين لتأسيس جامعة سان باولو في البرازيل، حيث أتيح له هناك تدريس علم الاجتماع والقيام بأعمال حقلية إثنوغرافية بين هنود البرازيل. 

خلال إقامته في البرازيل (1935 ـ 1939م) نشر ليفي ستروس مقالته الأنثروبولوجية الأولى والتي كانت بمثابة نتائج عمله الإثنوغرافي بين قبائل البرورو وقد لاقت مقالته صدى كبيراً وخاصة بين الأنثروبولوجيين الأمريكيين الذين كانوا في بدء توجههم لدراسة هنود أمريكا الجنوبية. لذا وجدوا في دراسته توسعةً لدائرة اهتماماتهم بثقافة الهنود في القارة الأمريكية عامة. وكان من بين أبرز الأنثروبولوجيين الأمريكيين المهتمين بدراساته الأنثروبولوجي روبرت لوي، والذي مهدت علاقته به عملية انتقاله خلال الحرب العالمية الثانية للعمل في أمريكا هرباً من الخطر النازي.

 

ليفي ستروس وجاكبسون

يقول الباحث عبد الله عبد الرحمن يتيم، في ضوء تزامن عودة كلووليفي ستراوس من البرازيل مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهجرته من جديد إلى نيويورك ضمن مشروع مؤسسة روكفلر لإنقاذ العلماء اليهود من خطر النازية، ما يلي: "أتاحت لكلووليفي ستراوس فترة إقامته في نيوريورك (1937 ـ 1943م) الفرصة لكتابة أطروحته في الدكتوراه: (البُنى الأولية للقرابة)، كما قام خلالها بالتدريس في المعهد الجديد للبحوث الاجتماعية. وقد أتاح له إنتماؤه للوسط الأنثروبولوجي فرصة التعرف على أقطاب من الأنثروبولوجيين الأمريكيين، حيث كان أبرزهم في ذلك الوقت: فرانزبواز، رالف لنتون، وروث بندكيت. وكذلك، فقد التقى صديق حياته عالم اللسانيات رومان جاكوبسون، حيث استمرت الزمالة بينهما، وأفضت علاقتهما الفكرية إلى تأسيس مشروعهما الفلسفي البنيوي في اللسانيات والأنثروبولوجيا والإنسانيات عامة. ويذكر ليفي ستروس بأن الفضل في توصُّله إلى البُنى الأولية للقرابة، إنما يعود إلى تشجيع رومان جاكبسون الذي يقول عنه: (على الرغم من كون رومان جاكبسون يكبرني بإثني عشر عاماً، إلا أنه منذ اللحظة التي التقينا فيها وجدت أن علاقتنا الفكرية وصداقتنا ببعض كأنهما أمران محتُمان ولابد منهما. كان لقائي به بداية لعلاقة أخوية.

 

اتسمت البنيوية التي وصل إليها ستراوس بأنها أخذت طابعاً شديد الصلة بمفاهيم إميل دوركايم ومارسيل موس السوسيولوجية الشديدة الارتباط بمفهوم البناء والتنظيم الاجتماعي.


إن علاقتي به قد أنضجت بنيويتي الساذجة، حيث كنت بنائياً دون وعي بذلك. وفتحت علاقتي برومان جاكبسون أمامي آفاقاً لوجود كمٍّ من المعارف في أحد العلوم حينها وهو اللسانيات. كان رومان جاكبسون بالنسبة لي كشفاً"،(ص 120 من الكتاب). 

أتيح لليفي ستروس العودة في عام 1945 م إلى باريس ليعمل مديراً للعلاقات الثقافية لمدة عام واحد، ثم عاد مرة أخرى إلى نيويورك للعمل كملحق ثقافي في البعثة الدبلوماسية الفرنسية حتى عام 1947م، وخلال هذه السنوات تمكن من إتمام أطروحته: "البُنى الأولية للقرابة". 

 

بنيوية ليفي ستروس

إنَّ البنيوية التي أتى بها ليفي ستروس للأنثروبولوجيا لم تبق على صورتها الأصلية، ففي بريطانيا، حيث لعبت هذه البنيوية دوراً راديكالياً في تغيير أساليب التحليل الأنثروبولوجي، اتسمت البنيوية التي وصل إليها ستراوس بأنها أخذت طابعاً شديد الصلة بمفاهيم إميل دوركايم ومارسيل موس السوسيولوجية الشديدة الارتباط بمفهوم البناء والتنظيم الاجتماعي. أما في أمريكا حيث الترحيب بالبنيوية كان أقل من قبل الأنثروبولوجيين، فإن الأثر الأمريكي قد اقتصر على إعادة إنتاج مفاهيم البنيوية في إطار الأنثروبولوجيا المعرفية والرمزية، وكانت إعادة الإنتاج الأمريكية قد تمثلت عند عدد من الأنثروبولوجيين، أبرزهم: جورج هومنز، ونور يالمان، وديفيد شنايدر. وقد ترتب على هذا الانتشار المتعدد الأوجه للبنويوية في دوائر وأقسام الأنثروبولوجيا أن بدأ الأنثروبولوجيون إعادة النظر في مقولاتهم الأنثروبولوجية. ودفعت بهم البنيوية كذلك إلى مشاركة زملائهم في علوم إنسانية أخرى كالنقد والأدب إلى العودة إلى الفلسفة ونظريات التحليل النفسي، خاصة وأن القادم الجديد، أي ليفي ستروس، قد بنى مرتكزات رؤيته البنيوية على معارف وعلوم شديدة التنوع، تراوحت بين الفلسفة، علم النفس، الفن، الموسيقى، والأدب، لننتقل الان ونلقي نظرة على بعض من سمات نظرياته في الأنثروبولوجيا.
 
يقول الباحث عبد الله عبد الرحمن يتيم، في تحليله لما هو جديد في مشروع الأنثروبولوجيا البنيوية الذي أتي بها ليفي ستراوس، ما يلي: "من الناحية التاريخية البحتة، يعد مؤلَّف ليفي ستروس (الأنثروبولوجيا البنيوية) سابقاً في صدوره على (الطوطمية) و(العقل الوحشي). ولهذا قد يكون اسم الأنثروبولوجيا البينوية أسبق شيوعاً، خاصة وأنه قد أتى على شرح المنهج التحليلي للأنثروبولوجيا البنيوية من خلال تناوله لتطبيقات هذا المنهج في عدد من الميادين الرئيسية للأنثروبولوجيا كـ: اللغة، القرابة، التنظيم الاجتماعي، الفن، الدين ، السحر، والبناء الاجتماعي. 

ورغم هذا التعدد في الموضوعات التي حاول من خلالها إثبات كفاءة منهجه الجديد، إلا أن (الأنثروبولوجيا البنيوية) لم يكن مشروع مؤلف نظري متكامل. فـ (الأنثروبولوجيا البنيوية) عبارة عن كتاب اشتمل على مقالات سبق أن نشرها ليفي ستروس في دوريات أكاديمية ولكنه أعاد تجميعها هنا في هذا الكتاب. وقد اكتفى فقط بكتابة الفصلين الخامس والسابع عشر خصيصاً لهذا الكتاب، أما البقية الباقية من الفصول فقد كتبها، كما يقول، في الثلاثين سنة السابقة على صدور الكتاب نفسه. 

لا يُراد من هذه المقدمة التقليل من شأن "الأنثروبولوجيا البنيوية" وأهميتها، ولكن إذا ما وضع هذا الكتاب في سياقه الصحيح سيتضح أنه بصدوره يكون ليفي ستروس قد شرع في التفكير الجدي نحو بلورة إطار فلسفي ومنهجي لتحليله البنيوي في صيغته المتطورة والمتكاملة. 

ولهذا فإن الإطار الفلسفي والمنهجي للتحليل البنيوي لليفي ستروس يكون قد تبلور وأصبح في مستوى أكثر من النضج في مؤلفاته اللاحقة على "الأنثروبولوجيا البنيوية". وربما يكون هذا الإطار الفلسفي ومنهج التحليل البنيوي أكثر وضوحاً في "العقل الوحشي" من أي مؤلف آخر. فـ "العقل الوحشي" هو المؤلف الذي أثار الجدل في الأوساط الأنثروبولوجية حول مشروعه الجديد، وهو الكتاب الذي حاول من خلاله تحديد موقفه الفلسفي من الاتجاهات الفلسفية الأخرى. ولهذا السبب يعتبر كتاب ليفي ستراوس "العقل الوحشي" بمثابة المقدمة النظرية لمشروعه البنيوي". فهو يرى مثلاً أنَّ "العقل الوحشي" و"الطوطمية" قد شكلا المرحلة الثانية من حياته العلمية، حيث كرس من خلالهما عمله لدراسة التصورات الدينية. ويعد هذان الكتابان في مسيرة حياته العلمية بمثابة المقدمة لمشروع عمله البحثي في مجال كتاباته اللاحقة في الميثو لوجيا"(ص 133من الكتاب).

 

أما ليفي ستروس فقد كان يدعو إلى نقد التصور الذي يريد أن يتعامل مع الفكر الغربي بوصفه فكراً عقلانياً، في حين ينظر إلى الفكر غير الغربي على أنه غير عقلاني. ولهذا كان ليفي ستروس نصيراً لكل بوادر الخلاص في صفوف العلوم الاجتماعية والإنسانية من هيمنة هذا التصور


ويرى ليفي ستروس أن عملية عقلية مثل التصنيف كالتي يقوم بها العقل في مجال اللغة، هي ذات العملية التي يقوم بها العقل أيضاً في مجال تعامله مع عناصر الطبيعة والمجتمع. فاللغة ماهي إلا نسق من الاتصال يتم من خلاله تبادل الرسائل أو الشفرات الخاصة بهذه العناصر. أي أن اللغة تمثل الحاجة لدى الإنسان لإطلاق الأسماء على تلك العناصر التي يقوم بعملية تصنيفها بشكل يومي، وذلك حتى يستطيع تنظيم عملية اتصاله معها. فالزواج، وفق هذا التصور، يتم وفق نسق من الاتصال حيث أن الإنسان يدخل عبره في علاقات اتصال يتم بموجبها اختياره لمن يستطيع أو لا يستطيع أن يتزوج بهن. إن جميع مبادئ الاختيار في الزواج إنما تتم، برأي ليفي ستروس، وفق تحكم البُنى العقلية اللاشعورية، والتي يعد نسق الاتصال أحد أركانها الأساسية.

إن عملاً مثل "البُنى الأولية للقرابة"، الذي أفضى إلى نتائج نظرية في مجال القرابة كتلك التي أتينا على شرح معالمها بشكل مختصر في السطور السابقة، لا يمكن أن يكون كفيلاً وحده بتفسير مشروع ليفي ستروس النظري ولا حتى بتفسير السياقات الخاصة بهذا المشروع، الذي بدأت تكتمل معالمه، لولا ظهور أعمال انثروبولوجية أخرى له، أخذت تلعب دوراً وأهمية في بلورة ما كان يسعى ليفي ستروس إلى إنجازه، ينُلقِ نظره على تلك الأعمال.
 
من العقل الوحشي إلى الفلسفة

في "العقل الوحشي" تتجلى أيضاً أهداف أخرى كامنة لليفي ستروس. ولعل من أبرز تلك الأحداث ما كان يراه في الأنثروبولوجيا بوصفها مشروعاً للبحث، يجب أن لا يتوقف عند حدود الوصف الإثنوغرافي للوقائع الاجتماعية ـ الثقافية، وإنما يجب أن يتعدى ذلك أي أن يتجه مباشرة إلى معالجة التساؤلات الفلسفية الأولى التي حملها الإنسان معه أينما وُجد، سواء في بدائيته أو تحضره، وأنه لا توجد وسيلة لمعالجة هذه التساؤلات سوى الغوص فيما وراء هذه الوقائع، أي الغوص في بُناها العميقة والمستترة. 

ولهذا فهو، أي ليفي ستروس يهدف إلى الكشف من خلال "العقل الوحشي" عن البرنامج الأنثروبولوجي الذي يريد له، من خلال مناهج البحث وأدواته الإثنوغرافية، الإجابة على التساؤلات التي تحملها الفلسفة. 

أما الهدف الآخر فيمكن إزاحة الستار عنه فيما يصبو إليه في هذا السياق، ذلك أن ليفي ستروس في الوقت الذي يريد فيه من خلال "العقل الوحشي" أن يرسخ رؤيته البنوية في الأنثروبولوجيا والفلسفة معاً، كان يريد أيضاً وفي نفس الوقت أن يحقق لمعتقداته في الحياة قدراً من المصداقية. لذا فإن "العقل الوحشي" بهذا المعنى يعكس جانباً من شعرية ليفي ستروس وأمثولاته، ذلك أن هناك عددا ًمن الدارسين والنقاد الأنثروبولوجيين لأفكار ونظريات ليفي ستروس يرون أن المدخل لمعرفة الأسس الفلسفية التي يستند إلهيا ليفي ستروس في مشروعه للأنثروبولوجيا البنيوية هو الأثر الفلسفي والأدبي والاجتماعي، وربما حتى الشخصي الذي تركه الفيلسوف والمفكر الفرنسي "جان جاك روسو" على حياة ليفي ستروس وأفكاره.

في هذا السياق من الحفر المعرفي يقول الباحث عبد الله عبد الرحمن يتيم: "هكذا نلاحظ مثلاً دفاع ليفي ستروس عن فلسفات روسو في مجال دراسة الإنسان في مناسبات عديدة. ففي سنوات إنجازه للـ "العقل الوحشي"، يتقدم ليفي ستروس بدراسة في عام 1962م بمناسبة ذكرى مرور مائتي عام على ميلاد روسو. وهو يؤكد من خلالها وبشكل مباشر على قناعته بالنظر إلى روسو بوصفه الأب المؤسس للأنثروبولوجيا، زاعماً أن أطروحة إمكانية البحث في المقولات والمفاهيم الخاصة بثقافة الفرد والكشف عن خصائصها العامة والخاصة إنما يمكن إنجازها عبر وضعها في موقع المقارنة مع ثقافات أخرى، وأن أطروحة كهذه قد أتي بها روسو قبل غيره. هكذا يعتقد ليفي ستروس. وبهذا المعنى يمكن اعتبار روسو بمثابة الأمثولة التي يتجسد فيها عدد كبير من مفاهيم وتصورات ليفي ستروس ونظرته للحياة، وربما حتى رؤيته الأخلاقية للعالم. وكذلك، فإن المتتبع لحياة ليفي ستروس سيلاحظ مثلاً قدراً كبيراً من التناظر بين طابع الحياة البوهيمية التي عاشها ليفي ستروس في القارة الأمريكية وبين بوهيمية روسو التي قادته إلى التنقل الدائم والرغبة اللحوحة في دراسة المجتمعات الفلاحية في أوروبا وإشادته الدائمة بالرحالة الذين رصدوا الثقافات غير الأوروبية" (ص 138 من الكتاب).

إن المبادئ العامة التي اعتنى ليفي ستروس بشرحها في مؤلفه "العقل الوحشي" قد أعاد تأكيدها واستمر في تأصيلها في مجلداته الأربعة "الميثولوجيا"، كما استمر أيضاً، ومن واقع صلته بسوسيولوجيا إميل دور كايم وإثنولوجيا فرانز بواز، في تأييده لتمايز الثقافات ونسبيتها وبالتالي في محاربته لمفهوم مركزية الثقافة الأوروبية. وكان ليفي ستروس مصراً على صحة رأيه، على الرغم من معرفته بأن هذا الموقف كان يتعارض مع الاتجاه العام السائد حينها في العلوم الاجتماعية والإنسانية في الغرب، الذي كان يرى أن الشرعية المركزية للثقافة الأوروبية إنما تتجسد في عقلانية فكرها في مقابل لا عقلانية أفكار الثقافات الأخرى. وكان هذا الاتجاه السائد في العلوم الإنسانية والاجتماعية يعتقد بأن هذا الأمر هو الذي يمنح أوروبا الشرعية لأداء هذا الدور المركزي حضارياً.
 
أما ليفي ستروس فقد كان يدعو إلى نقد التصور الذي يريد أن يتعامل مع الفكر الغربي بوصفه فكراً عقلانياً، في حين ينظر إلى الفكر غير الغربي على أنه غير عقلاني. ولهذا كان ليفي ستروس نصيراً لكل بوادر الخلاص في صفوف العلوم الاجتماعية والإنسانية من هيمنة هذا التصور. وقد حاول من خلال جميع أعماله، والتي كانت مادتها الإثنوغرافية أصلاً من المجتمعات البدائية، التأكيد على وحدة العقل البشري وعلى عالمية آلية عمله. وقد ناقش ليفي ستروس حججه تلك من خلال عدد هائل من الأساطير التي تخص المجتمعات البدائية والتقليدية، إذ سعى من خلال مناقشته لتلك الأساطير إثبات ما أتى على ذكره في "العقل الوحشي" من وجود نمط بنيوي عالمي للعقل بغض النظر عن شكل التنوعات العرقية أو الثقافية لتي ينتمي إليها هذا العقل.

 

إقرأ أيضا: كتاب يروي تاريخ المدرسة الفلسفية واللغوية الفرنسية

التعليقات (0)