قضايا وآراء

أفكار في التوافق (2)

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

كنا قد أشرنا في نهاية الجزء الأول من المقال إلى أن "التوافق البراغماتي (أو الانتهازي) بين النداء وحركة النهضة من لحظة سياسية سالبة في تونس"، وإلى أن الأنظار اتجهت "بعد انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية إلى القوى المحسوبة على الثورة (بما فيها حركة النهضة إثر وعودها الانتخابية بمحاربة الفساد وعدم التوافق مع ممثليه)، إلى تجسيد اللحظة الموجبة لهذا الخيار السياسي". كما أشرنا إلى "تأزم العلاقة بين الرباعي الأساسي المشكل لهذه القوى (النهضة، التيار، حركة الشعب، ائتلاف الكرامة)"، وهو ما جعلنا "أمام مشهد سياسي هو أقرب إلى الانسداد منه إلى تجسيد فرصة تاريخية لتحقيق التوافق، سواء أكان لإصلاح المنظومة نفسها كحد أدنى، أو تغيير آليات اشتغالها وخياراتها الكبرى كحد أقصى".

وانطلاقا من هذه المعطيات، سنحاول في هذا الجزء الثاني من المقال أن نقف على الممكنات "التوافقية" التي توفرها اللحظة السياسية في تونس بعد تكليف السيد الحبيب الجملي بتشكيل الحكومة.

قبل طرح الممكنات"التوافقية" في المستوى النظري، قد يكون من الضروري أن نبحث في الشروط الأيديولوجية والموضوعية التي تحدد سقف تلك التوافقات وتجعل بعضها ممكنا، وبعضها الآخر في حكم المحال.

 

قد يكون من الضروري أن نبحث في الشروط الأيديولوجية والموضوعية التي تحدد سقف تلك التوافقات وتجعل بعضها ممكنا، وبعضها الآخر في حكم المحال

بعيدا عن بعض الاصطفافات التي فقدت قدراتها التفسيرية (من مثل ثنائية ثورة/ ثورة مضادة)، وبعيدا عن الانقسامات التي فقدت جزءا كبيرا من قدرتها التعبوية (من مثل تقدمي/ رجعي)، فإن التوافق الأمثل الذي ينتظره أغلب التونسيين، هو التوافق على أساس برنامج محاربة الفساد. وهو برنامج ميتا-أيديولوجي بامتياز، ومن المفترض فيه نظريا أن يكون عامل تجميع لعائلات أيديولوجية مختلفة، لكنها رغم اختلافها تشترك في مشروع محاربة الفساد.

ولا شك في أن ذلك البرنامج الميتا-أيديوجي يحتاج إلى "تحييد" الخلافات الأيديولوجية التي ترتبط أساسا بقضايا خارجية (الخلاف بين حركة الشعب والنهضة في القضيتين الليبية والسورية والانقلاب العسكري في مصر، بالإضافة إلى الصراع بين القوميين والإخوان في عهد المرحوم عبد الناصر)، أو في قضايا سياسية مرتبطة بفترة الترويكا أو فترة حكم النداء (الخلاف بين حزب التيار الديمقراطي والنهضة)، أو قضايا مرتبطة بالعلاقة بين السياسي والنقابي أو المجتمع المدني بصورة عامة (الخلاف بين حركة الشعب وإئتلاف الكرامة). ولكننا في الواقع لا نرى أي تحييد لتلك القضايا الخلافية، بل يبدو أنها هي المحدد الأساسي لعملية التفاوض رغم كل الجمل السياسية المخاتلة.

وبالإضافة إلى هذا العائق الذي يمنع التوافق حول برنامج حكومي يتعهد بمحاربة الفساد في مختلف تجلياته، نجد عائقا آخر يتمثل في الشخصية المكلفة بتشكيل ذاتها. فرغم أن مجلس شورى حركة النهضة قد زكى السيد الحبيب الجملي لرئاسة الحكومة، فإن عدة تساؤلات ما زالت بلا جواب. ورغم أن السيد الجملي كان جزءا من نصيب حركة النهضة في حكومتي الترويكا (حيث تقلد منصب كاتب الدولة لدى وزير الفلاحة)، فإن الرجل غير معروف بصفته القيادية في الحركة ولا بنضاليته زمن المخلوع، ولا بتميزه في مجال تخصصه، وهو ما يجعل من المشروع أن يطرح الشركاء المحتملون لحركة النهضة (بل أن يطرح المواطن التونسي العادي) سؤالين مهمّين :

 

رغم أن السيد الجملي كان جزءا من نصيب حركة النهضة في حكومتي الترويكا (حيث تقلد منصب كاتب الدولة لدى وزير الفلاحة)، فإن الرجل غير معروف بصفته القيادية في الحركة ولا بنضاليته زمن المخلوع، ولا بتميزه في مجال تخصصه

- أولا علاقة السيد الجملي بالشق التوافقي في حركة النهضة برئاسة الشيخ راشد الغنوشي، مع ما يطرحه ذلك من مخاوف تتعلق باستقلالية الرجل وإمكانية تحوّله إلى مجرد منفذ لتعليمات الحركة دون سائر شركائها، أو حتى أن يكون الإتيان به مرتبطا بسعي ذلك الشق التوافقي إلى الارتداد عن وعوده الانتخابية، ومواصلة سياساته التوافقية على الأسس السابقة ذاتها، لكن مع تكييفها وفق السياق السياسي الحالي.

ولا شك في أن عدم استثناء حزب "تحيا تونس" من إمكانية المشاركة في الحكومة (رغم أنه لا يختلف في شيء عن حزب قلب تونس مثلا)، هو أمر يزيد في إرباك المشهد السياسي، وفي تغذية المخاوف من انقلاب الشق التوافقي في الحركة على وعوده بمحاربة الفساد، وهي مخاوف تزداد حدة عندما نتذكر توافق حركة النهضة مع قلب تونس خلال انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه.

- ثانيا علاقة السيد الجملي بإملاءات الاتحاد الأوروبي فيما يخص مشروع "اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق" مع الاتحاد الأوروبي والمعروف اختصارا بـ"الأليكا" (Aleca). فمن المشروع أن يتساءل التونسيون عن مقدار "الصدفة" من الاعتبار عندما يكون ثلاثة رؤساء وزراء بعد الثورة (الحبيب الصيد ويوسف الشاهد ورئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي) مختصين في الفلاحة، مع إسناد الوزارة إلى شخصية سياسية لا علاقة لها بالقطاع الفلاحي، وتحوم شبهات جدية حول علاقتها باللوبي الفرنسي خاصةً (عبر بوابة حزب المسار، أي الحزب الشيوعي سابقا).

 

لا يبدو أن التوافق حتى في حده الأدنى هو أمر ممكن في السياق الحالي، بل يبدو أننا نتجه إلى اللحظة الثانية من التوافق السابق

رغم أهمية العوائق المذكورة أعلاه، فإنها ترتبط بتوافق سياسي سيتم بالضرورة داخل الخيارات الكبرى للمنظومة القديمة، فلا أحد من الأطراف المعنية بالتوافق يطرح تغيير تلك الخيارات، بل هناك إجماع على إصلاح مواطن العطالة في المنظومة القديمة أو استبعاد عناصرها اللاوظيفية، دون التفكير في تغييرها وفق استحقاقات الثورة أو حتى وفق منظور إصلاحي سيادي.

ورغم أن التوافق الأمثل هو الذي يتم داخل "الكتلة التاريخية" مع ما يعنيه ذلك من مراجعات ونقد ذاتي يقوم به مختلف الشركاء، وهو أمر لا تتوفر شروطه الموضوعية حاليا، لا يبدو أن التوافق حتى في حده الأدنى هو أمر ممكن في السياق الحالي، بل يبدو أننا نتجه إلى اللحظة الثانية من التوافق السابق.

فسواء توافقت النهضة مع قلب تونس وبعض ممثلي المنظومة القديمة تحت شعار الضرورة أو الوحدة الوطنية، أو أعيد التكليف إلى رئيس الدولة، فمن المستبعد أن تتوفر القاعدة السياسية اللازمة لإدارة توافق مضاد للمنظومة القديمة ومختلف واجهاتها السياسية والنقابية والمالية والإعلامية والثقافية.

التعليقات (0)