مقالات مختارة

تونس تتكلم بالعربي الفصيح ..!

حسين الرواشدة
1300x600
1300x600

تصر تونس على أن تُلهمنا من جديد، في المرة الأولى أطلقت شرارة "التغيير" بعد أن أحرقت نيران القهر جسد "البوعزيزي"، فامتد الحريق لكي يصنع "ربيعا" عربيا يتجدد كل يوم..

وفي المرة الثانية، أطلقت "صافرة " الديمقراطية بعد أن ودع الناس هناك منطق الخوف من تزوير "أصواتهم"، ومنطق الاستقالة من السياسة والمشاركة، فتصالحوا مع بلدهم ومستقبلهم، وقرروا أن يحتكموا إلى الصناديق.

من يدقق في المشهد التونسي، كما كشفته "الانتخابات" الأخيرة التي أفرزت قيس سعيد رئيسا، سيدرك على الفور أن "ثورة الحرية والكرامة" لم تسقط نظام الاستبداد فقط، وإنما أسقطت معه أفكارا -أوهاما أن شئت- سممت أذواق الناس وأذهانهم أيضا.

أسقطت فكرة "عزوف الناس عن المشاركة" بذريعة أنهم لا يؤمنون بالصناديق أو أنهم غير ناضجين لممارسة الديمقراطية، وأسقطت فكرة "العنف" الاجتماعي الذي استخدم كفزاعة لتفصيل الديمقراطية المطلوبة على مقاسات جاهزة ومحددة، وأسقطت فكرة الانتصار لطرف دون آخر على حساب الانتصار للوطن، وهي التهمة التي ألصقت بالأحزاب لطردها من دائرة "التعددية" والوطنية لكي يظل الحزب الواحد منفردا بالسلطة والحكم، كما أسقطت أيضا فكرة "المؤامرة" التي تقف خلف التغيير وفكرة "الفوضى" التي سيفضي إليها التغيير.

اذا كانت صورتنا في عصر" حروبنا الأهلية" التي رفعت البنادق مع المصاحف - واأسفاه - قد أفزعتنا، فإن صورتنا الأخرى في مرآة إخواننا التوانسة تدهشنا وتسعدنا وتلهمنا أيضا، فبعد مخاضات طويلة تقلبت فيها تونس بين فصول الضجيج والهدوء وتغلبت فيها على منطق الخوف والأنانية والاستعلاء، اصبح بمقدورنا -اليوم- أن نتعلم من تجربة أشقائنا، أولا - درس "التوافق" حين يكون حلا لمشكلاتنا، وثانيا - درس "التنازل" حين يكون قوة لا ضعفا، وثالثا - درس "الانتصار" حين نجرد حسابات الربح والخسارة، فنجد أننا نخسر لما ينتهي صراعنا على الحاضر أو الماضي إلى "تضييع" المستقبل، ونكسب حين تتقدم مصلحة "الجماعة الوطنية" على مصالح الجماعات والأحزاب والتيارات، ورابعا - درس الشراكة و"التعددية" إذ يلتقي العلماني مع الليبرالي مع الإسلامي على طاولة واحدة بعيدا عن صراع "الملفات" الإقليمية وإغراءات "الاستحواذ" على السلطة.

 تقول لنا تونس، وهي تتحدث بالعربي الفصيح انه لا يمكن للآخرين - مهما كانت قوتهم ومهما اشتد كيدهم ومكرهم - أن يعبثوا أو يتدخلوا أو ينتصروا إلا اذا انحنت الظهور لهم، فالدول والأوطان مثل الأجساد قد تهاجمها الأمراض ولكنها لا تتغلغل في أوصالها ولا تشل حركتها اذا كانت محصنة وتتمتع بما يلزمها من عافية.

يمكن للإنسان العربي الذي "تعب" من الاحتجاجات ويأس من سطوة الانقلابات وأوشك أن يفقد أمله في "التغيير"، وللشعوب التي لا تزال تخرج لاسترداد حرياتها وحقوقها، كما يمكن لكل المتشوقين إلى "الحرية" والعدالة أن يحدّقوا في صورة "تونس" الجديدة وأن يستلهموا من تجربتها مددا للأمل والهمّة والإصرار.

نحتاج إلى استحضار صورة تونس "الخضراء" وانتخاباتها الديمقراطية، لعلها تعوضنا عن صور "العواصم" الحمراء التي لوّنها الدم، وتطرد من عقول أجيالنا وقلوبهم كوابيس الخوف والإحباط، وتبدد هذا الغبار الكثيف الذي حوّلنا إلى إحصائيات من القتلى واللاجئين في أوطان تحولت إلى سجون وتوابيت ومقابر.

(الدستور الأردنية)

0
التعليقات (0)