كتاب عربي 21

مؤتمر لمناهضة التعذيب تحت رعاية نظام التعذيب.. أحداث كاشفة (20)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
طالعتنا الأخبار بتنظيم المكتب الإقليمي للمفوضية السامية لحقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالشراكة مع المجلس القومي لحقوق الإنسان (مؤسسة حكومية مصريةمؤتمراً إقليمياً حول تعريف وتجريم التعذيب في التشريعات العربية، في القاهرة. ووفق جدول أعمال المؤتمر، فإن المؤتمر سيفتتحه رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان المصري، محمد فايق، ومسؤول ملف الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فرانشيسكو موتا، ووزير العدل المصري حسام عبد الرحيم، ووزير الخارجية المصري سامح شكري. أما باقي جلسات المؤتمر فتشهد حضوراً من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويمثّل المجتمع المدني المصري فيها مدير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، حافظ أبو سعدة، الحقوقي المقرّب من النظام والمدافع عنه في المحافل الدولية.

في حالة استخفاف مريعة طالعتنا تلك الأخبار عن عقد هذا المؤتمر الإقليمي لمناهضة التعذيب على أرض مصر في ظل نظام السيسي؛ في الرابع والخامس من أيلول/ سبتمبر القادم، وما أن أعلنت هذه الأنباء حتى انطلقت حملة من زبانية النظام تتحدث ببجاحة عن سجل نظام السيسي الناصع والملتزم بحقوق الإنسان، وتناسى هؤلاء أنه لم تمر على ذكرى مجزرة رابعة (في الرابع عشر من آب/ أغسطس) سوى أيام قليلة. فهؤلاء في ممارسة استخفاف جُبلوا عليها واعتادوا القيام بها، وطفقت السلطات المحلية تقول في كل مرة يشار فيها إلى حالة انتهاك إن مصر دولة تلتزم بالقانون، وإن أي انتهاكات للحقوق مجرد حالات فردية، وتتم محاسبة مرتكبيها. وقد دأب النظام بمنظومته الانقلابية على رفض تقارير منظمات حقوق الإنسان بشأن التعذيب، ويقول إنها تفتقر إلى المصداقية ولها دوافع سياسية.

وفي الإشارة إلى سجون مصر، أشار بعض الذين يمثلون جوقة داعمة للنظام الانقلابي إلى أن تلك السجون هي من فئة خمس نجوم. ومن مظاهر هذا الاستخفاف الحقير أن يتم هذا المؤتمر بالتنسيق مع المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي كتبت يوما عنه باعتباره من جملة المؤسسات في المنظومة الانقلابية التي تزين للانقلاب سوء عمله وقبح ممارساته اليومية في انتهاكات وجرائم شبه يومية لحقوق الإنسان.

كيف يمكن لمؤسسات أممية تقوم على حقوق الإنسان ورعايتها أن تحدثها نفسها بعقد هذه المؤتمرات، بنفاق وتواطؤ شديدين، على ساحات بلاد هي الأكثر والأشد انتهاكا للحقوق الإنسانية، وتمارس القتل اليومي والتصفية الجسدية خارج إطار القانون، والاختطاف القسري، والقتل البطيء من جراء أعمال متعمدة بمنع الدواء أو التعامل الطبي لحالات مرضية حرجة أو مزمنة، وتمارس حالات من التعذيب الممنهج أشارت إليها منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها عن التعذيب في مصر، والذي صدر من بعده تقرير أممي من مفوضية حقوق الإنسان يشير إلى التعذيب كعمل ممنهج من نظام السيسي.

ويقول نشطاء حقوق الإنسان إن عبد الفتاح السيسي أشرف على حملة قمع للحريات في مصر منذ أن وصل للسلطة رسميا في 2014.

كيف لمنظمة أممية أن تفعل ذلك وقد علمت، وفق تقرير لرويترز الشهر الماضي، عن إعدام ما لا يقل عن 179 شخصا في مصر بين 2014 إلى أيار/ مايو 2019، مقارنة بإعدام عشرة أشخاص فقط في السنوات الست السابقة لتلك الفترة. وفي شباط/ فبراير الماضي، عبّر مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عن قلقه إزاء محاكمات أدت إلى إعدام 15 شخصا في مصر في الشهر نفسه، وقال إنها ربما تكون غير عادلة، وقال إن التعذيب ربما استخدم لانتزاع اعترافات.

وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد قالت، في تقرير لها في أيلول/ سبتمبر 2017، إن ضباط وعناصر الشرطة و"قطاع الأمن الوطني" في عهد السيسي يعذبون المعتقلين السياسيين بشكل روتيني بأساليب تشمل الضرب، والصعق بالكهرباء، وضعيات مجهدة، وأحيانا الاغتصاب. وأضافت في تقريرها الذي جاء بعنوان "هنا نفعل أشياء لا تصدق: التعذيب والأمن الوطني في مصر تحت حكم السيسي"، أن النيابة العامة تتجاهل عادة شكاوى المحتجزين بشأن سوء المعاملة وتهددهم في بعض الأحيان بالتعذيب، مما يخلق بيئة من الإفلات شبه التام من العقاب.

كيف لمنظمة أممية أن تفعل ذلك؛ وفي آب/ أغسطس الحالي أصدرت المفوضية المصرية للحقوق والحريات (منظمة مجتمع مدني مصرية)؛ تقريراً بعنوان "كابوس التعذيب في مصر"، رصدت فيه استمرار جرائم التعذيب داخل أماكن الاحتجاز بشكل ممنهج، من خلال توثيق حالات على مدار سنتين، والاستعانة ببيانات إحصائية أصدرتها عدد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية حول حالات التعذيب في العامين الأخيرين.

وفي عام 2016، وثّقت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات 830 حالة تعذيب، تضمّنت 159 واقعة تعذيب في أقسام الشرطة و101 حالة تعذيب في مقر جهاز أمن الدولة الذي تديره وزارة الداخلية، إضافة إلى 35 واقعة في معسكرات قوات الأمن، وست وقائع في المؤسسات العقابية. وتبقى وقائع التعذيب الكبرى شاهدة على الجرائم التي حصلت.

إن مناقشة السجل السنوي الأسود لملف حقوق الإنسان في مصر وإبداء الملاحظات، ثم قيام بعض منظمات أممية بعد ذلك وبكل براءة بالدعوة إلى مؤتمر لمناهضة التعذيب في ساحة نظام يحترف التعذيب ويمارسه ويشتري أدواته.. أليس هذا استخفافا من منقطع النظير لا يقبل الاستدراك أو وقوع السهو والنسيان؟ إلا أن يكون ذلك تواطؤا مهينا وعملا مشينا تقوم به هذه المنظمات في حق مهمتها ووظيفتها، مظنة أن تمر الحادثة والفعالية مرورا سريعا بدون تعقيب من أحد، فيبيض الوجه الأسود لنظام أقبح في مجال حقوق الإنسان الأساسية والتأسيسية.

أليس هذا الإعلان عن عقد هذا المؤتمر (على حد ما عبر به أحد الناشطين في مجال المنظمات الحقوقية) "مزحة"؟ أو هو مهزلة كبرى تمارسها تلك المنظمات في حالة برود وتبييض وجه أنظمة مستبدة احترفت ارتكاب هذه الجرائم واتخذت من ذلك أسلوبا وسياسة؟ وأضاف أن السخرية هي مشاركة المجلس القومي الذي يقوم دوره طول الوقت على تلميع صورة الحكومة والتواطؤ على حالة حقوق الإنسان، وفق تعبيره.

فهل يمكن أن يفوت هيئات كتلك استغراب طبيعي وتلقائي اعترى ناشطا آخر؟ كيف يمكن عقد مثل هذا المؤتمر على ساحة مثل هذا النظام؟ وهل مر على تلك الهيئة الأممية حينما توجه دعوة مثل هذه فيأتيها الرد سريعا مريعا، في رسالة مفتوحة إلى مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه، إذ أعربت الأورو-متوسطية للحقوق عن تحفظاتها العميقة بشأن قرار عقد المؤتمر بالتعاون مع المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي يعمل تحت مظلة الحكومة المصرية، في البلد الذي تتهم فيه قوات الأمن بممارسة التعذيب بشكل منهجي؟ وذكرت رسالة المنظمة الحقوقية بتعرض المعتقلين والسجناء في مصر في الكثير من الأحيان لسوء المعاملة التي ترقى إلى مستوى التعذيب، بما في ذلك الصدمات الكهربائية، والضرب والتعليق من الأطراف والاغتصاب.

وبعد حملة أكدت على تهكمها من عقد هكذا مؤتمر، يبدو أن الاحتجاج والسخرية نجحا هذه المرة، حيث أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عصر الثلاثاء تأجيل المؤتمر الإقليمي حول تجريم التعذيب الذي كان مقررا عقده في القاهرة.

قليلا من الحياء حينما يتعلق الأمر بالحقوق الإنسانية.. إن بقيت لديكم أي ظلال من الإنسانية.
التعليقات (0)