قضايا وآراء

النهضة: من فصل بين الدعوي والسياسي لفصل بين البراغماتي والثوري

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600

حركة النهضة التونسية، سليلة الاتجاه الإسلامي سابقا، هي اليوم من أكبر الأحزاب التونسية، وهي الأكثر تنظما والتزاما، والأسرع حركة والأقدر على الفعل في الساحة منذ هروب الرئيس السابق ودخول البلاد تجربة جديدة من مسار ديمقراطي تعددي.

فازت حركة النهضة في الانتخابات البرلمانية 2011 بالمرتبة الأولى، وكانت الطرف الأساسي في ما عُرف بحكم "الترويكا"، قبل اضطرارها للتنازل عن الحكم إثر اغتيال زعيمين من الجبهة الشعبية شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير 2013، ومحمد البراهمي صبيحة عيد الجمهورية في 25 تموز/ يوليو 2013.

1- فصل الدعوي عن السياسي

المراجعات السياسية والنظرية داخل الأحزاب ليست دائما نتاج تطور معرفي، وإنما كثيرا ما تكون تفاعلا مع تغيرات الواقع أو خضوعا لوقائع وأحداث.

حركة النهضة تتمتع بقيادة نوعية تصنف في مدار رجال الفكر والتأليف، وهو الأستاذ راشد الغنوشي بتجربته الفكرية وباطلاعه على التجربة الديمقراطية في الغرب، أثناء إقامته بلندن طيلة عقدين، غير أنها تُعتَبَر حركة مثقلة بقواعد واسعة مختلفة المستويات ومتفاوتة الثقافة والتحصيل العلمي والدربة السياسية، فهي حركة يجتمع فيها أشباه الأميين بأشباه النوابغ، ويلتقي فيها شهداء أحياء من الناجين من أحكام بالإعدام بوافدين جدد من المتحمسين للعمل السياسي، ومن الطامعين في منافع وجاه.

 

في ظل انفلات المشهد وفائض الحرية، لم يكن لأحد نفوذ على أحد، ولم يكن ممكنا مراقبة التحركات والتصريحات داخل الساحة الإسلامية خاصة، وكان كل موقف أو ممارسة تصدر عن الإسلاميين تتحمل حركة النهضة مسؤوليته السياسية

في ظل انفلات المشهد وفائض الحرية، لم يكن لأحد نفوذ على أحد، ولم يكن ممكنا مراقبة التحركات والتصريحات داخل الساحة الإسلامية خاصة، وكان كل موقف أو ممارسة تصدر عن الإسلاميين تتحمل حركة النهضة مسؤوليته السياسية، وخاصة ما كان داخل المساجد وفي الاجتماعات الشعبية ذات الطابع الدعوي التي يحضرها دعاة من تونس ومن خارج تونس؛ ويشرف عليها أشخاص معروفون بكونهم رموزا في حركة النهضة.

هذا الانفلات مثّل إحراجا للحركة وإزعاجا لقيادتها السياسية، ما يضطرها للتبرير في كل مرة أو التبرؤ مما لا ينسجم مع بيانها التأسيسي الأول الصادر يوم 6 حزيران/ يونيو 1981، وهو بيان يؤكد على مدنية الحركة وسلمية وسائلها واحتكامها إلى الديمقراطية كآلية لحسم المنافسة السياسية.

فقد صرح الأستاذ راشد الغنوشي لجريدة لوموند الفرنسية، في عددها الصادر اليوم الخميس 19 أيار/ مايو 2016، بأن "حركة النهضة تطرح نفسها كحزب سياسي ديمقراطي مدني يحمل مرجعيات حضارية إسلامية حديثة" ويؤسس لما سماه بـ"الديمقراطية المسلمة"، معتبرا أنه "لم يعد هناك مبرر لوجود الإسلام السياسي في تونس بعد ثورة 2011 والمصادقة على دستور 2014".

وفي المؤتمر العاشر للحركة المنعقد بين 20 و22 أيار/ مايو 2016، أُعلن رسميا عن مبدأ التخصص وعن الفصل بين الدعوي والسياسي، وهو ما تم التمهيد له من قبلُ في المؤتمرات الجهوية.

هذا التخصص هو الذي سيجعل بعض الوجوه التي له رمزيتها في الحركة تختفي من المشهد السياسي وتتفرغ للمجال الدعوي، وأبرز تلك الوجوه الأستاذ حبيب اللوز، وهو مناضل وسجين ووجه معروف في الحركة وله قاعدته العريضة، خاصة في جهة صفاقس الولاية الاقتصادية للبلاد التونسية، والتي كان له دور حاسم في الثورة وفي محطات مفصلية أخرى يعرفها التونسيون.

الفصل بين الدعوي والسياسي
خفف على القيادة السياسية الكثير من الأعباء المتأتية من المناشط الدينية، ومن تصريحات رموز محسوبة على تيار دعوي ديني، فلم يعد اليساريون يجدون مبررا لتحميل قيادة النهضة السياسية مسؤولية مواقف وتصريحات التيار الدعوي، ولم يعد لهم مبرر لاتهام حركة النهضة بازدواجية الخطاب وبخلط الديني بالسياسي.

 

الفصل بين الدعوي والسياسي خفف على القيادة السياسية الكثير من الأعباء المتأتية من المناشط الدينية، ومن تصريحات رموز محسوبة على تيار دعوي ديني

2- الغنوشي بين البراغماتيين والثوريين

الأستاذ راشد الغنوشي الذي بدا له أنه تخفف من عبء التيار الدعوي وجد أنه "يواجه" داخل التخصص السياسي تيارا سياسيا ذا نزوع ثوري أو "مبدئي"؛ يتفق مع الغنوشي في العناوين الكبرى ويختلف معه في ما يُسمونه "التنزيلات"، أي كيفيات الأداء السياسي، وخاصة في موضوع "التوافق" مع حركة نداء تونس بقيادة رئيس الجمهورية الأستاذ الباجي قائد السبسي.

هذا التيار ظهر مؤثرا وقويا خلال فعاليات المؤتمر العاشر للحركة، وكاد يُحدث تحولا جذريا في بنائها الهيكلي وفي مسارها السياسي؛ لولا "لمسة" سريعة وصادمة من رئيس الحركة أعادت الأمور إلى "طبيعتها"، ولكن كان لها تداعياتها لاحقا على تكوين المكتب التنفيذي وعلى الهيكلة الجهوية ومجالس الشورى، مركزيا وجهويا.

هذا التيار المعنون "ثوريا" أو "مبدئيا" له رموزه الذين يحظون بحضور مؤثر في الساحة الإسلامية، ولدى قواعد النهضة وقياداتها الوسطى، واستطاعوا تثبيت مواقعهم بين جمهور الحركة وفي مؤسساتها المنتخبة خاصة.

من بين هؤلاء الزعماء "المبدئيين"؛ يوجد المهندس عبد الحميد الجلاصي والدكتور عبد اللطيف المكي والأستاذ المحامي سمير ديلو، وعدد من الرموز الفكرية والأكاديمية.

3- الانتخابات البرلمانية ومقدمات الفصل

كانت حركة النهضة استكملت تنظيم جلساتها الانتخابية على امتداد 3 أيام (2 و9 و16 حزيران/ يونيو الماضي)، واختارت مرشحيها بكامل الدوائر الانتخابية، في انتظار إنهاء المكتب التنفيذي ترتيب الأسماء ورؤساء القوائم، ثم المصادقة عليها نهائيا كما ينص على ذلك القانون الداخلي للحركة.

وقد ترشح 20 عضوا من المكتب التنفيذي من بين 25 عضوا، و12 كاتبا عاما جهويا من مجموع 24 كاتبا عاما، و61 عضوا من مجلس شورى الحركة، من مجموع 150 عضوا، كما جدد 55 من النواب الحاليين في كتلة النهضة (68 نائبا) ترشحهم.

وقد شهدت عمليات انتخاب قوائم الحركة للبرلمان تنافسا حيويا؛ تجاوز في بعض الأحيان السخونة العادية المسموح بها في حركة ذات مرجعية إسلامية.

 

المنافسة كانت أساسا بين ممثلي التيار البراغماتي بزعامة الأستاذ راشد الغنوشي، مستندا على مكتب الشورى المركزي والمكتب التنفيذي، وبين التيار "المبدئي"

المنافسة كانت أساسا بين ممثلي التيار البراغماتي بزعامة الأستاذ راشد الغنوشي، مستندا على مكتب الشورى المركزي والمكتب التنفيذي، وبين التيار "المبدئي" بزعامة المكي برمزيته التاريخية؛ وعلاقاته في أوساط الجيل الطلابي المكافح قبل المحنة الكبرى، والمهندس عبد الحميد الجلاصي بخبرته الحركية وعمق اطلاعه على تفاصيل الخارطة التنظيمية التي كان مهندسها الأول.

نتائج الانتخابات الداخلية أفرزت "تفوقا" لتيار "المبدئيين"، وخاصة في مراكز انتخابية كبرى مثل "تونس 1" و"تونس 2"، وهو ما جعل الكثيرين يتوقعون تدخلا قويا للمكتب التنفيذي لتعديل الترتيب وتغيير رؤساء القوائم.

الفصل 112 من القانون الداخلي للحركة المنظم للانتخابات ينص على أنه: "يتولى المكتب التنفيذي المصادقة النهائية على القائمات، وللمكتب التنفيذي صلاحية تغيير الترتيب وله استثنائيا إضافة عضو للقائمة وله استثنائيا جدا إضافة رئيس للقائمة".

كانت أنتظر أن يُعلن رسميا يوم الأحد (14 تموز/ يوليو) الجاري عن النتائج النهائية لضبط القائمات، غير أن قرارا مفاجئا بالتأجيل اتخذ إلى يوم الثلاثاء (16 تموز/ يوليو).

ما تسرب من معلومات عن تغييرات جذرية حصلت في العديد من القوائم، بما ينال من حظوظ تيار "المبدئيين"؛ جعلت بعضهم يستبق الإعلان بالتعبير عن غضبه، وقد دوّن الأستاذ سمير ديلو على صفحته "الجو خانق... أفكر جديا في الاعتزال نهائيا"، كما دون عبد اللطيف المكي مستعيرا نفس المفردة ومحذرا من وجود انحراف: "الجو خانق..".

 

تفاعل واسع في جمهور النهضة ومناضليها، فيه الكثير من الترقب والقلق والخوف، وفيه مزيج بين التحذير من التصرف في إرادة الناخبين، ومن تعبير عن ضرورة احترام قرارات القيادة المركزية

تفاعل واسع في جمهور النهضة ومناضليها، فيه الكثير من الترقب والقلق والخوف، وفيه مزيج بين التحذير من التصرف في إرادة الناخبين، ومن تعبير عن ضرورة احترام قرارات القيادة المركزية والتزام ما تراه صالحا، والقبول بأي تعديل يُحدثه المكتب المركزي على القوائم.

4- حدود الاختلاف ومدى صمود التناقض

ككل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، نشأت حركة النهضة جماعة ثم اتجاها ثم حركة، وكانت دائما تتوشح وشاح "الإسلامية"، وهي دائما تغذي خطابها السياسي والاجتماعي والثقافي بروحية إيمانية ومفردات مستخلصة من القرآن والأحاديث، ومُحيلة على تجارب الإسلام الكبرى وعلى تاريخ الأمة ورجالاتها.

المرجعية الإسلامية هي التي حافظت طويلا على انسجام عاطفي وتنظيمي داخل الحركة، رغم ما يشقها دائما من اختلافات في تقدير المواقف السياسية وفي قراءة المشهد الإقليمي والدولي، كما إن المحن التي مرت بها الحركة هي التي ولدت فيها "كيمياء" اللحمة والوحدة، فكانت خلافاتها أصغر من محنتها، وكانت الضرورة السرية تمنع أي تسريب للمشاكل الداخلية.

في أجواء الحرية، وبعد الانتقال من مرحلة الجماعة إلى مرحلة الحزب ومن مجال الحركة إلى مجال الدولة، هل ما زال "الاختلاف" أو حتى "الانشقاق" محظورا، أو يمثل كارثة داخل الأحزاب الإسلامية؟ هل يمكن أن يتطور الخلاف في كيفيات الأداء السياسي بين "البراغماتيين" و"المبدئيين" إلى حالة "خروج"، بمعنى حالة "تمايز" منظم ومهيكل مفاده ولادة حزب جديد من رحم حزب النهضة الكبير؟

المؤتمر الحادي عشر حاضر بظلاله اليوم في ذهن القيادة المركزية للحركة، وفي ذهن التيار المختلف معها.. المؤتمر الحادي عشر سيكون محطة فاصلة إذا كُتِب للتيارين إدراكها وهما في "مركبة" واحدة.

التعليقات (0)