مقالات مختارة

كيف يخاطر المسيحيون الإنجيليون (البروتستانت) بإشعال النار بالشرق الأوسط

جوناثان كوك
1300x600
1300x600

تي بي جوشوا آخر مبشر مناصر للصهيونية يبدي اهتماماً عملياً بإسرائيل – والفلسطينيون هم من سيدفع الثمن


أثار وصول المبشر الإنجيلي (البروتستانتي) التلفزيوني الأشهر في أفريقيا تي بي جوشوا ليقف خطيباً في الآلاف من جموع الحجاج الأجانب في مدينة الناصرة مزيجاً من الذعر والسخط في أوصال المدينة التي يقال إن يسوع أمضى فيها طفولته.

قوبل وجود المبشر بمعارضة واسعة النطاق من قبل الحركات السياسية في الناصرة وكذلك من قبل فئات المجتمع وزعماء الكنائس الذين دعوا إلى مقاطعة مهرجانيه الخطابيين. انضم إلى كل هؤلاء مجلس المفتين الذي وصف المناسبتين بأنهما "الخط الأحمر حين يتعلق الأمر بالإيمان بالقيم الدينية".

انعقدت مهرجانات جوشوا، والتي اشتملت على تعاويذ لطرد الأرواح الشريرة، في الهواء الطلق داخل مسرح مكشوف يقع على رأس أحد التلال المطلة على الناصرة، وهو المسرح الذي أنشئ أصلاً لإقامة الصلوات البابوية واستخدمه البابا بنيديكت في عام 2009.

استجلب هذا القس النيجيري، الذي يحظى بملايين الأتباع حول العالم ويطلق على نفسه لقب نبي، عداوة الناس هنا، ليس فقط لأن المسيحية التي يبشر بها تشذ كثيراً عن المعتقدات التقليدية للكنائس المحلية في الشرق الأوسط، بل وأيضاً لأنه يمثل توجهاً من المسيحيين الأجانب الذين يحفزهم ما ورد في سفر الرؤيا من نبوءات توراتية، والذين يتدخلون في شؤون إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة بشكل صارخ ومتزايد – وبأساليب تصب بشكل مباشر لصالح السياسات التي تتبناها حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة.

ازدهار سياحي طال انتظاره

تعتبر الناصرة أكبر تجمع فلسطيني داخل إسرائيل نجا من النكبة التي وقعت في عام 1948، والتي نجم عنها إجبار معظم السكان الأصليين على الخروج من أغلبية أراضيهم لتحل محلهم الدولة اليهودية. يشكل الفلسطينيون اليوم داخل دولة إسرائيل خمس المواطنين الإسرائيليين.

تؤوي المدينة وأكنافها أعلى كثافة من المسيحيين الفلسطينيين في المنطقة. ولكنها طالما عانت من عداوة المسؤولين الإسرائيليين الذين حرموا الناصرة من الموارد لمنعها من التحول إلى عاصمة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية للأقلية الفلسطينية.

تكاد المدينة تخلو من الأراضي اللازمة لتحقيق أي نمو أو لإقامة مناطق صناعية تساعدها على توسيع قاعدة دخلها، ولم تدخر إسرائيل جهداً في خنقها وتقييد قدرتها على تنمية قطاع سياحي جيد، وذلك أن معظم السياح يمرون بالمدينة سريعاً لزيارة كنيسة البشارة، التي أقيمت في الموقع الذي يعتقد بأن الملك جبريل بشر فيه مريم بأنها ستحمل بيسوع.

هب المسؤولون في بلدية الناصرة ليغتنموا فرصة الدعاية والدخل الذي ستوفره زيارة جوشوا إلى مدينتهم، وإن كانت البلدية تأمل على المدى البعيد أن تتمكن المدينة من جذب حتى ولو نسبة ضئيلة مما يزيد عن ستين مليوناً من المسيحيين الإنجيليين داخل الولايات المتحدة، وكذلك من بين الملايين الأخرين الذين يعيشون في أفريقيا وأوروبا، مما سيشكل دفعة كبيرة لاقتصاد المدينة.

تكشف أحدث الأرقام عن أن السياحة الإنجيلية إلى إسرائيل ما لبثت تنمو بشكل مستمر، وبات الإنجيليون الآن يشكلون واحداً من كل سبعة زوار أجانب يتوافدون على إسرائيل.

اللعب بالنار

ولكن، وكما تشير تداعيات زيارة جوشوا، قد تلعب الناصرة بالنار إذا ما ذهبت تشجع مثل هذا النوع من الحجاج على الاهتمام بشكل أكبر بالمنطقة. يدرك معظم المسيحيين المحليين أن تعاليم جوشوا ليست موجهة لهم – بل ويحتمل أن تكون ضارة بهم.

اختار القس النيجيري الناصرة لينشر فيها تعاليمه، ولكنه جابه معارضة صارخة من أولئك الذين يعتقدون أنه يستخدم المدينة فقط وسيلة لتحقيق مهمة أكبر، وهي المهمة التي يبدو أنها لا تعير أدنى اهتمام لما يعانيه الفلسطينيون وما يشكون منه، سواء منهم من كان يعيش داخل إسرائيل في أماكن مثل الناصرة أو من كان يعيش منهم تحت نير الاحتلال.

لاحظت الفصائل السياسية داخل الناصرة أن جوشوا "لديه ارتباطات بدوائر اليمين المتطرف والمستوطنين في إسرائيل". ويقال إنه أجرى لقاءات بهدف فتح عمليات في وادي الأردن، الذي يعتقد أنه المكان الذي عُمد فيه يسوع، والذي يشكل في نفس الوقت العمود الفقري الزراعي للضفة الغربية. فهذه المنطقة لم تلبث تُستهدف من قبل حكومة بنجامين نتنياهو اليمينية المتطرفة لتوسيع الاستيطان فيها بل ولضمها إن أمكن، وبذلك يتم القضاء بشكل نهائي على فرص إقامة دولة فلسطينية.

تصور لموقعة أرماجيدون (المعركة الفاصلة)

خلال زياراته إلى إسرائيل، يتمتع جوشوا بيسر التواصل مع شخصيات بارزة في الحكومة مثل ياريف ليفين، أحد أقرب حلفاء نتنياهو، والمكلف بملفين يعتبرهما الإنجيليون من أهم وأخطر الملفات، ألا وهما السياحة واستيعاب المهاجرين الجدد الوافدين من الولايات المتحدة وأوروبا. 

يعتقد الكثيرون من الإنجيليين بما في ذلك جوشوا نفسه أن من واجبهم تشجيع اليهود على الانتقال من الأوطان التي يعيشون فيها حالياً إلى الأرض الموعودة (أو أرض الميعاد)، وذلك للتعجيل بقدوم آخر الزمان الذي يفترض أن الكتاب المقدس يبشر به.

تلك هي النشوة التي تتحقق عندما يعود يسوع لبناء مملكته على الأرض ثم يُجلس إلى جانبه الأتقياء من المسيحيين. وأما الآخرون، بما في ذلك اليهود الذين لا يتوبون ولا يؤوبون، فسوف يكون مأواهم الجحيم، التي يحترقون فيها إلى الأبد.

يطل الجرف الذي يعلو فوق وايد جزريل حيث تجمهر جوشوا وحواريوه على تل مجدو، الاسم الحديث لموقع معركة أمارجيدون الفاصلة التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس، وهو الموقع الذي يعتقد كثير من الإنجيليين بأنه سيشهد نهاية العالم الوشيكة.

التعجيل بالبعثة الثانية

ليس هؤلاء المسيحيون مجرد مراقبين يتابعون تحقق الخطة الإلهية في الكون، بل تراهم يشاركون بفعالية في التعجيل بتحققها.

لا يمكن في واقع الأمر إدراك مآسي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني – من سفك دماء على مدى عقود واللجوء إلى العنف في استعمار فلسطين وطرد أهلها منها – بمعزل عن تدخل زعماء المسيحية في الغرب في شؤون الشرق الأوسط على مدى ما يقرب من قرن. بل إن هؤلاء هم الذين هندسوا وأنشأوا إسرائيل التي نراها اليوم ماثلة أمامنا.

ولا أدل على ذلك من أن طلائع الصهاينة لم يكونوا يهوداً بل كانوا مسيحيين. ففي مطلع القرن التاسع عشر، نشأت حركة صهيونية مسيحية قوية تعرف باسم "التجديد"، فكانت سابقة في ذلك على نشأة الحركة الصهيونية اليهودية، والتي كان لها أثر عميق فيها.

كانت لهؤلاء التجديديين قراءة شاذة للكتاب المقدس حيث اعتقدوا بناء عليها بأن المجيء الثاني للمسيح يمكن التعجيل بها إذا ما عاد شعب الله المختار، أي اليهود، إلى أرض الميعاد بعد ألفي عام من نفيهم المزعوم منها.

بدءاً من سبعينيات القرن التاسع عشر، جاب تشارلز تازه راسيل، وهو قس أمريكي من بنسلفينيا، العالم وهو يناشد اليهود العمل على إقامة وطن قومي لهم فيما كان حينها يسمى فلسطين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين خرج على الناس بخطة تحدد كيفية إقامة دولة يهودية هناك.

لقد فعل ذلك قبل عشرين عاماً من إصدار الصحفي اليهودي النمساوي تيودور هيرتزل كتابه الشهير الذي يحدد فيه ملامح الدولة اليهودية.

لم يكن العلماني هيرتزل يعبأ بالموقع الذي ستقام فيه مثل هذه الدولة اليهودية، بل إن أتباعه من بعد – وانطلاقاً من وعيهم بنفوذ الصهيونية المسيحية في الغرب وسيطرتها على عواصمه – هم الذين ركزوا اهتمامهم على فلسطين، أرض الميعاد بحسب ما ينسب إلى الكتاب المقدس، وذلك رجاء كسب حلفاء أقوياء في كل من أوروبا والولايات المتحدة.

نداء تحشيد لأتباع هيرتزل

كان دعم بريطانيا الإمبريالية قيماً جداً. فقد نشر اللورد شافتسبري في عام 1840 إعلاناً في صحيفة ذي لندن تايمز يحث فيه على عودة اليهود إلى فلسطين، ويذكر أن شافتسبري كانت تربطه حينها علاقة مصاهرة باللورد بالمرستون الذي تولى فيما بعد منصب رئيس الوزراء في الحكومة البريطانية.

كانت الصهيونية المسيحية عاملاً مهماً في التأثير على الحكومة البريطانية وتحفيزها في عام 1917 على إصدار إعلان بلفور (وعد بلفور) – والذي مثل فعلياً وثيقة عهد قطعته بريطانيا على نفسها، غدا فيما بعد خطة أولوية لإيجاد دولة يهودية على أطلال السكان الأصليين للبلاد.

لدى كتابته عن إعلان بلفور، لاحظ المؤرخ الإسرائيلي طوم سيغيف ما يلي: "كان الرجال الذين أنجبوه مسيحيين وصهاينة، وفي كثير من الأحوال، معادين للسامية." والسبب من وراء ذلك أن الصهيونية المسيحية تقوم على فكرة أنه يتوجب على اليهود عدم الاندماج في بلدانهم، بل عليهم بدلاً من ذلك أن يتحولوا إلى أدوات لتحقيق إرادة الرب من خلال الانتقال إلى الشرق الأوسط من أجل أن يتمكن المسيحيون من تحقيق الخلاص.

 

كان بومبيو صريحاً واضحاً إزاء معتقداته الإنجيلية منذ ما قبل دخوله الحكومة


كان إدوين مونتاغو هو الوزير الوحيد في الحكومة البريطانية الذي عارض إعلان بلفور، وكان أيضاً اليهودي الوحيد من أعضاء الحكومة. حينها، حذر مونتاغو – ولحكمة بالغة – من أن الوثيقة يمكن "أن تشكل نداء تحشيد للمناهضين للسامية في كل بلد من بلدان العالم."

"نضال حتى تتحقق النشوة"

بينما كان اليهود الصهاينة قبل قرن مضى يتطلعون إلى بريطانيا الإمبريالية لتدعمهم وتتبنى مشروعهم، فإن راعيهم الرئيس اليوم هو الولايات المتحدة، وخاصة أن من يحملون راية الصهيونية المسيحية ما لبثوا منذ حرب الأيام الستة في عام 1967 يتمتعون بنفوذ متنام في واشنطن.

بلغت هذه العملية مجدها في عهد الرئيس دونالد ترامب، الذي أحاط نفسه بمزيج من الصهاينة المتطرفين، يهوداً ومسيحيين. فسفيره في إسرائيل، دافيد فريدمان، ومبعوثه إلى الشرق الأوسط، جايسون غرينبلات، كلاهما من أشد الداعمين للاستيطان غير الشرعي والمتحمسين له. ويبدو أن نفس الأمر ينطبق على الشخصيات المسيحية البارزة داخل البيت الأبيض مثل نائب الرئيس مايك بينس ووزير الخارجية مايك بومبيو.

كان بومبيو صريحاً واضحاً إزاء معتقداته الإنجيلية منذ ما قبل دخوله الحكومة، ففي عام 2015 أعلن أمام جمع من الناس: "إنه نضال لا يتوقف ... إلى أن تتحقق النشوة. فكونوا جزءاً منه، كونوا في صف المقاتلين."

وفي شهر مارس الماضي أعلن عن مساندته لفكرة أن ترامب قد يكون مرسلاً من الله لإنقاذ إسرائيل من الأخطار المحدقة بها بما في ذلك إيران. فقد قال في تصريح عبر شبكة الإذاعة المسيحية: "أنا على يقين بأن الرب هو الذي يمارس العمل هنا."

أما نائب الرئيس بنس فقال: "ينبع حبي لإسرائيل من عقيدتي المسيحية ... إنه في الواقع لأعظم شرف أحظى به في حياتي أن أكون نائباً لرئيس جل همه الاعتناء بشدة بأقرب الحلفاء إلينا."

صحوة العملاق النائم

حينما أمر ترامب العام الماضي بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، مستبقاً بذلك أي تسوية يتم التفاوض عليها للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإنما فعل ذلك استرضاء لقاعدته الشعبية الصهيونية المسيحية، حيث تقدر نسبة من صوتوا له من الإنجيليين البيض في انتخابات عام 2016 بما يقرب من ثمانين بالمائة، ومازال بحاجة إلى أصوات ودعم هؤلاء في الانتخابات القادمة عام 2020 إذا ما كان يرجو أن يعاد انتخابه.

ولذلك لم يكن مستغرباً أن يبارك تدشين مبنى السفارة الأمريكية الجديد في القدس اثنان من أبرز القساوسة الإنجيليين، جون هاغي وروبرت جيفريس، والمعروفان بدعمهما المالي لإسرائيل ومن حين لآخر بتصريحاتهما الصارخة المعادية للسامية.

قبل ما يزيد عن عام، وقف هاغي – مؤسس ما يسمى "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" – خطيباً في مؤتمر من تنظيم إيباك، ذراع اللوبي الإسرائيلي الأهم في واشنطن، ليقول للمشاركين: "لقد أفاق عملاق الصهيونية المسيحية الذي كان نائماً. هناك خمسون مليون مسيحي ممن يساندون دولة إسرائيل ويشيدون بها."

تتضمن نشاطات مجموعة هاغي السعي للتأثير على الكونغرس حتى يخرج بتشريعات متشددة مؤيدة لإسرائيل مثل قانون "تيلور فورس آكت" الذي يقلص التمويل الذي تقدمه الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية في رام الله. كما تنشط هذه المجموعة في المساعدة بالدفع باتجاه سن تشريعات على المستوى الولائي والفدرالي لمعاقبة كل من يشارك في مقاطعة إسرائيل.

 

يعمل الإنجيليون على تطوير علاقات أوثق مع المتطرفين من اليهود المتدينين في إسرائيل، وخاصة داخل المستوطنات


ما فتئت إسرائيل تشكل باستمرار قضية أساسية بالنسبة للإنجيليين في الولايات المتحدة وفي غيرها من البلدان. فقد أظهر استطلاع للرأي أجري في عام 2015 أن ثلاثة أرباع الإنجيليين يعتقدون بأن ما يجري من أحداث في إسرائيل وردت نبوءاته في سفر الرؤيا من الكتاب المقدس.

ويتوقع كثيرون منهم أن يقوم ترامب باستكمال سلسلة الأحداث التي دشنها المسؤولون البريطانيون قبل ما يقرب من قرن من الزمن – ويتزايد عدد من يشارك منهم بشكل مباشر رجاء أن يسهم في تعجيل تلك العملية.

علاقات أوثق بالمستوطنين

تتوافق رؤية إسرائيل إزاء "تجميع المنفيين" – أي تشجيع اليهود من مختلف أرجاء العالم على الانتقال إلى المنطقة بموجب قانون العودة – توافقاً تاماً مع معتقدات الصهيونية المسيحية بوجود خطة إلهية يجري تنفيذها في الشرق الأوسط.

كما تتناغم جهود عتاة المستوطنين اليهود في استعمار الضفة الغربية، والتي من المفروض أن تشكل أراضي الدولة الفلسطينية في المستقبل، تناغماً تاماً مع فهم الصهاينة المسيحيين لموقع الضفة الغربية بكونها "القلب التوراتي"، والمنطقة التي ينبغي أن يستملكها اليهود قبل عودة يسوع من جديد.

ولهذه الأسباب، يعمل الإنجيليون على تطوير علاقات أوثق مع المتطرفين من اليهود المتدينين في إسرائيل، وخاصة داخل المستوطنات. ولقد شملت المبادرات الأخيرة برامج لتدارس الكتاب المقدس عبر الإنترنيت أو وجهاً لوجه، بحيث يدير هذه البرامج يهود أرثوذكس، عادة من المستوطنين، ويستهدفون بها تحديداً الإنجيليين المسيحيين. صممت هذه الدروس بحيث تعزز الرواية التي يقدمها المستوطنون وفي نفس الوقت تشيطن المسلمين، وبالتالي تشيطن الفلسطينيين أيضاً.

من الدورات الأكثر شعبية والتي تحظى بإقبال أكبر عليها تلك التي يقدمها مشروع "المصدر الأصلي" بعنوان "الإسلام – بصائر وأضاليل". تلجأ هذه الدورة إلى العهدين القديم والجديد لإثبات أن الإسلام دين في غاية الخطورة.

قبل عدة شهور نشرت صحيفة هآريتز، وهي أهم صحيفة ليبرالية في إسرائيل، تحقيقاً حول السيل المنهمر، وبشكل متزايد، للمتطوعين الإنجيليين ولما يجلبونه معهم من أموال، والذي يصب في المستوطنات غير الشرعية داخل الضفة الغربية – علماً بأن هذه المستوطنات تشكل العقبة الكؤود في طريق تنفيذ حل الدولتين.

على مدى السنوات العشر الماضية، جلبت منظمة هايوفيل الأمريكية وحدها ما يزيد عن ألف وسبعمائة متطوع مسيحي للمساعدة في بناء مستوطنة قريبة من نابلس، في قلب الضفة الغربية.

وتنهمر الأموال الإنجيلية

هناك عدد متزايد من المبادرات المشابهة، وهذه حصلت على دفعة قوية بفضل الأحكام الجديدة التي سنتها الحكومة الإسرائيلية في العام الماضي ويتم بموجبها دفع أجور للجماعات الصهيونية المسيحية مثل هايوفيل حتى تدافع في الخارج عن المستوطنات وتبرر وجودها.

يصعب معرفة كم بالضبط يصل المستوطنات من أموال الإنجيليين، وذلك بسبب انعدام الشفافية إزاء التبرعات التي تقدمها الكنائس والجمعيات الخيرية في الولايات المتحدة. إلا أن التحقيق الذي أجرته هآريتز يقدر بأن ما انساب من أموال خلال العقد الماضي ربما يكون قد وصل إلى خمسة وستين مليون دولار.

 

استفادت إسرائيل كما استفاد الغرب من الترويج لصورة الدولة اليهودية الجسورة التي يحيط بها العرب والمسلمون الهمج من كل مكان ويتأهبون لتدميرها


تلقت مستوطنة آرييل، التي تقع في وسط الضفة الغربية بالضبط، قبل ما يقرب من عقد مبلغاً قدره ثمانية ملايين دولار لبناء مركز رياضي على شكل تبرعات تقدمت بها مؤسسة جون هاجي الكهنوتية.

هناك جمعيات خيرية مسيحية أخرى ممن ساهمت تاريخياً بتمويل مشاريع داخل إسرائيل يقال إنها الآن تنظر وبشكل متزايد في تقديم العون للمستوطنات أيضاً.

ولذلك، إذا ما اتضح أن خطة ترامب للسلام، والتي من المفروض أن تنشر تفاصيلها في وقت لاحق من هذا العام، تدعم ضم أجزاء من الضفة الغربية، كما هو متوقع على نطاق واسع، فسوف تطلق موجة جديدة بل وكبيرة من انسياب الأموال الإنجيلية باتجاه المستوطنات.

حصانة من المنطق

وتلك بالضبط هي المشكلة التي يواجهها الفلسطينيون، بل ويواجهها الشرق الأوسط بأسره. سواء كان الصهاينة المسيحيون مسؤولين حكوميين أو زعماء كنائس أو أتباع هذه الكنائس، فإنهم عادوا من جديد يزجون أنوفهم في شؤون المنطقة. ولا يقتصر نفوذ الإنجيليين اليوم على منطقة دون غيرها، بل يمتد نفوذهم من الولايات المتحدة والبرازيل إلى أوروبا وصولاً إلى أفريقيا وجنوب شرق آسيا.

في العادة توجد لدى الحكومات الغربية من الهموم اليومية والملحة ما يصرفها عن الانهماك في النبوءات التوراتية لتبرير سياسات فرق تسد التي تنتهجها في مختلف أرجاء الشرق الأوسط. فأهم ما يشغل هذه الحكومات هو الرغبة في بسط نفوذها على مصادر النفط في المنطقة، ولن يتسنى لها ذلك دون استعراض القوة العسكرية دفعاً لمن يشاققها من الدول وترسيخاً لموطئ قدمها هناك.

إلا أن التأييد الأعمى الذي يبديه عشرات الملايين من المسيحيين حول العالم، والذين لا يعرف عشقهم لإسرائيل شيئاً من العقلانية، ييسر مهمة هذه الحكومات في الترويج لما تشنه من حروب بقصد الاستحواذ على الثروات.

لقد استفادت إسرائيل كما استفاد الغرب من الترويج لصورة الدولة اليهودية الجسورة التي يحيط بها العرب والمسلمون الهمج من كل مكان ويتأهبون لتدميرها. كان من نتائج ذلك أن حظيت إسرائيل باندماج أكبر في كتلة القوة الأوروبية، بينما حصلت الحكومات الغربية على مبررات سهلة للتدخل في شؤون المنطقة بشكل مباشر أو من خلال توكيل إسرائيل بالقيام بتلك المهمة.

كانت مكافأة إسرائيل ضمان الحصول على دعم لا يستكين من الولايات المتحدة وأوروبا بينما تضطهد هي الفلسطينيين وتشردهم من وطنهم.

والآن، وبفضل ما يستند إليه من قاعدة إنجيلية (بروتستانتية)، لا يجد ترامب حاجة لتقديم حجج مقنعة لما سيقدم عليه من إجراءات، فقد غدا بإمكانه أن ينقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس أو أن يوافق على ضم الضفة الغربية أو أن يقر هجوماً على إيران.

الوقوف في وجه أعداء إسرائيل

من هذا المنطلق، فإن أي جهة تزعم إسرائيل أنها تناصبها العداء – سواء كانت تلك الجهة الفلسطينيين أو إيران – فإنها تصبح تلقائياً العدو اللدود لعشرات الملايين من المسيحيين الإنجيليين.

يدرك نتنياهو الأهمية المتزايدة لوجود هذا اللوبي المطواع فيما وراء البحار، وخاصة عندما تتراجع بشكل سريع مكانته ومكانة إسرائيل بين يهود أمريكا الليبراليين، والذين باتوا يمتعضون من التوجه اليميني المتطرف للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.

 

الصهاينة المسيحيين لا يرون المنطقة إلا من خلال منشور واحد ووحيد، يتمثل في أن كل ما يمكن أن يساعد في الوصول الوشيك للمسيح فهو أمر مرحب به


في عام 2017، وقف نتنياهو خطيباً في حشد من الإنجيليين في واشنطن ليقول لهم: "عندما أقول إنه لا يوجد لدينا أصدقاء أفضل من المؤيدين المسيحيين لإسرائيل، فإنني أعلم أنكم طالما وقفتم معنا."

ما من شك في أن في ذلك من الأنباء ما يسوء الفلسطينيين. وذلك أن معظم هؤلاء الإنجيليين، من مثل تي بي جوشوا، لا يعيرون مصير الفلسطينيين أدنى اهتمام بل ربما كانوا معادين لهم – بما في ذلك المسيحيون الفلسطينيون، من مثل أولئك الذين يعيشون في الناصرة.

أشار مقال نشر مؤخراً في صحيفة هآريتز إلى أن نتنياهو والمسؤولين الذين يعملون معه باتوا الآن "يسعون لجعل الإنجيليين – الذين يدعمون مواقف إسرائيل المتشددة ضد الفلسطينيين – الأساس الوحيد للدعم الأمريكي لإسرائيل."

والحقيقة هي أن هؤلاء الصهاينة المسيحيين لا يرون المنطقة إلا من خلال منشور واحد ووحيد، يتمثل في أن كل ما يمكن أن يساعد في الوصول الوشيك للمسيح فهو أمر مرحب به. وبذلك تصبح القضية الوحيدة هي متى سوف يتسنى تجميع "شعب الله المختار" في أرض الميعاد.

وإذا كان الفلسطينيون هم العقبة التي تقف في طريق إسرائيل، فإن عشرات الملايين هؤلاء، من المسيحيين الأجانب، على أهبة الاستعداد للتأكد من أن السكان الأصليين سيشردون من ديارهم مرة أخرى، تماماً كما حدث لهم من قبل في عام 1948 وفي عام 1967.

ميدل إيست آي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل