كتاب عربي 21

صيف تونس الساخن

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

حرارة الطقس ليست شيئا مذكورا أمام حرارة الصيف السياسي الثامن بعد الثورة.. الحرب مستعرة بين الأحزاب والجماعات المستقلة التي تنوي التقدم للانتخابات، أما مقعد الرئاسة فسيكون ميدان حرب لوحده، رغم تهاون الجميع في مسالة السيادة.

في هذه الحرب نفتقد حتى الآن حديث البرامج الواضحة، والخطط السياسية والاقتصادية المقنعة، ويمتلئ الفضاء بالكيد والحيل والطعنات التحتية. كثير من هذه الحرب موجه ضد حزب النهضة، وقليله يحاول شق طريق خارج الحرب الأيديولوجية مع الإسلاميين؛ التي سئمها التونسيون منذ نصف قرن، ولا يبدو أنها ستنتهي قريبا، بما يجعل صورة البرلمان القادم وعلاقة الرئيس بالحكومات المحتملة غير واضحة، وربما تنتهي الانتخابات بإعادة إنتاج نفس الخلافات والصراعات التي عاشها التونسيون منذ الثورة، وهو أمر يدعو إلى تخفيض سقف التوقعات بتغيير حقيقي تأتي به الانتخابات.

أمام عجز الأحزاب التقليدية طمع الجميع في البرلمان

ظاهرة المتقدمين للبرلمان من خارج الأحزاب ظهرت مع انتخابات 2011، وتكررت في 2014، وفي الانتخابات البلدية 2018، وهي تعود في انتخابات 2019. لم يصل مستقلون كثر عبر هذا المسلك، ولكن المستقلين أكدوا دوما بخطابهم وبممارساتهم أن الأحزاب التقليدية ليست الطريق الوحيدة والأصلح للوصول، بل ساد خطاب التيئيس من الأحزاب لإعادة فتح الطريق.

 

كتلة اليسار (الجبهة الشعبية) شغلت نفسها وشغلت الناس بحربها الضروس ضد الإسلاميين، ولم تول أهمية لتوسع قاعدتها الشعبية، وكانت ردة فعل الناس على ذلك هي المزيد من النفور من الجبهة

الحقيقة أن خطاب التيئيس يجد له حججا كثيرة تسنده. فكتلة اليسار (الجبهة الشعبية) شغلت نفسها وشغلت الناس بحربها الضروس ضد الإسلاميين، ولم تول أهمية لتوسع قاعدتها الشعبية، وكانت ردة فعل الناس على ذلك هي المزيد من النفور من الجبهة. وقد تقلصت حظوظ الجبهة حتى في أوساط اليسار غير المتحزب، بعد أن فقدت قضية التحقيق في اغتيال شكري بلعيد جدواها الدعائية ضد النهضة. فبقيت مكونات الجبهة أمام خلافاتها الداخلية التي انتهت بانفجارها السياسي، وسيكون لهذا الانفجار أثر في الصندوق، وربما تقضي العتبة الانتخابية على حظوظها القليلة.

أما حزب حركة النهضة، كأحد الأحزاب الكلاسيكية، فقد خسرت الكثير من أنصارها نتيجة تحالفها مع حزب النداء في إدارة مرحلة (2014-2019). وقد وضع الحزب نفسه في موضع ضعف إزاء المزايدة الثورية بالقطيعة والحسم مع المنظومة. بعض المزايدين عليه بذلك هم أطراف من المنظومة نفسها، بما يقلل من أهمية نقدهم وجديته، ولكن كثيرين رأوا في تحالف (توافق) النهضة مع النداء إنقاذا للمنظومة، وهم يستعدون للانتخابات على أساس القطع مع النظام القديم، وطبعا بتصنيف النهضة ضمن النظام القديم.

 

حزب حركة النهضة، كأحد الأحزاب الكلاسيكية، فقد خسرت الكثير من أنصارها نتيجة تحالفها مع حزب النداء في إدارة مرحلة (2014-2019). وقد وضع الحزب نفسه في موضع ضعف إزاء المزايدة الثورية بالقطيعة والحسم مع المنظومة

القوميون العرب لهم مسميات حزبية كثيرة، أهمها حركة الشعب، ويؤخذ عليهم سياسيا أنهم في الوقت الذي يعملون على توحيد العرب كافة، يعجزون عن توحيد فصائلهم الصغيرة في تشكيل سياسي موحد في قُطر واحد. ويؤخذ عليهم أيضا أن خطابهم الديمقراطي لا يؤخذ بالجدية الكافية، إذ يتحدثون بلغة ديمقراطية في الداخل، بينما يساندون حفتر في ليبيا والسيسي الانقلابي في مصر، ولا يُسمع منهم حتى نقد مخفف لحاكم سوريا (الذي يضعه كثير منهم فوق النقد باسم المقاومة).

هذه التشكيلات المتهمة (يسار، إسلاميون، قوميون) فقدت قدرتها على الاستقطاب الانتخابي، ولم تطور خطابها السياسي، لذلك تتعرض لترذيل سياسي يقوده مستقلون، ممهدين بذلك لاحتلال أماكنهم في البرلمان، وقد طمعوا في الوصول مستفيدين من فجوات القانون الانتخابي الذي لا يشترط الانتظام الحزبي للترشح.

دخول فلول من نواب بلا ناظم حزبي سيعيد فتح باب الهجرات داخل البرلمان، ويمنع تشكيل كتل نيابية فاعلة، فيفقد البرلمان قدرته على العمل، وهذا احتمال كبير يتهدد الديمقراطية الوليدة، والسبب فيه هو جمود الأحزاب الكلاسيكية وحروبها البينية.

 

دخول فلول من نواب بلا ناظم حزبي سيعيد فتح باب الهجرات داخل البرلمان، ويمنع تشكيل كتل نيابية فاعلة، فيفقد البرلمان قدرته على العمل، وهذا احتمال كبير يتهدد الديمقراطية الوليدة

من هو الرئيس القادم

أتمسك بفكرة رئيسية أن الرئيس يتم اختياره في الخارج، وبالتحديد في فرنسا، باسم الإجماع، وباسم مراعاة علاقات تونس الدولية، وباسم لغو كثير مماثل يغطي العجز الداخلي عن الحسم داخل السيادة. والذين ينكرون عليَّ هذه الخطاب ويعتبرونني مشككا في وطنية النخبة؛ يقبلون برضا كبير ويروجون بحماس لفكرة غير سيادية مفادها أن النهضة (الحزب الإسلامي) ممنوع من الرئاسة، بما معناه أنه إذا منع الخارج مرشحا من النهضة فمرحبا بضغوطه على النهضة.

من هو مرشح فرنسا إذن لمقعد الرئيس؟ الأسماء التي عرضت نفسها قبل الموعد لا يمكن أن "تملأ العين الفرنسية" مثلما ملأها الباجي سنة 2014. وكثيرون من المتقدمين يعرفون ذلك، ولكنهم يملئون الفضاء من أجل لقب سخيف: "مرشح سابق للرئاسة".

بناء على ما تقدم، يمكن لي كمواطن أن أقول إني لن أعرف الرئيس القادم إلا في آخر لحظة من موعد الترشيح، وسيكون في طريق مفتوحة لقصر قرطاج. المعطى الوحيد الجديد في هذا؛ هو أن حزب النهضة سيكون مفاوضا شرسا في عملية بيع المقعد؛ بمقابل سياسي جزيل للخارج أولا وللداخل ثانيا. وهي من المسائل الضارة النافعة للحزب، فقد ربح الكثير من المكاسب بغباء خصومه وأعدائه الاستئصالين. فمنعه من الترشيح بغير قانون يسمح له بتوظيف أصوات كتله الناخبة، والتي لم تقل في أسوأ حالاتها عن نصف مليون صوت.

 

حزب النهضة سيكون مفاوضا شرسا في عملية بيع المقعد؛ بمقابل سياسي جزيل للخارج أولا وللداخل ثانيا

إن إحدى أسخن معارك الصيف التونسي؛ هي التودد للنهضة ولرئيسها بالذات من أجل تزكية بجملة أو بلفتة. والحزب ورئيسه يعرفان ذلك، وقد فتح المزاد بجملة عابرة، إذ أعلن البحث عن "العصفور النادر"، فتقاطر المرشحون على التلفزات يمجدون حكمة الشيخ.

قد يستطرف أنصار حزب النهضة هذا القول ولكنه لم يكتب لمداعبة غرورهم بل كتب لنقد وضع سياسي هزيل ومعوق بنخب عاجزة عن العمل الحزب والاقتراب من الناس ومعاناة سبل الإقناع الطويلة ويمكثون في ربوتهم ينتظرون تزكية بلا قاعدة ولا برنامج. فلا أحد منع أحدا من أن يبني زعامة سياسية بين الناس ويقدم نفسه على أساس برنامج محفز. وكمواطن أيضا اعتبر السيد نجيب الشابي نموذجا معبرا جدا عن الطموح بلا جهد ولا يختلف السيد مصطفي بن جعفر عنه إلا في أنه لا يلقي تصريحات سخيفة في كل وقت. لننتظر أن تقرر لنا فرنسا وحلفاؤها الخليجيون أعداء الربيع العربي رئيسنا ولنتظاهر بأننا نتنافس على المنصب فالصيف حار فعلا.

التجربة لا تزال تجر إعاقاتها

مثل رجل كسر في معركة ولم يجد طبيبا يجبر ساقه بعد، تتقدم التجربة التونسية جارة خلفها إعاقاتها الكثيرة.. وضع حزبي هش وطموحات فردية بلا رادع أو ضابط وطني إلا قليلا وهروب من المسائل السياسية الحيوية. واستسهال للحروب البينية ذات الروح الاستئصالية والتكفيرية.

 

وضع حزبي هش وطموحات فردية بلا رادع أو ضابط وطني إلا قليلا وهروب من المسائل السياسية الحيوية. واستسهال للحروب البينية ذات الروح الاستئصالية

يتحدث الجميع باسم الثورة. ويزايد أعداؤها بالثورية قبل أنصارها ولكن سيعمل الجميع على الحفاظ على الوضع القائم بكل إعاقاته لأن ثمن التغيير مكلف ويحتاج شجاعة كبيرة لم نر لها أثرا في سلوك النخب التي تقدمت لإدارة الشأن العام منذ الثورة.

رغم ذلك سنحاول التفاؤل بأن انتخابات سيئة أفضل من حرب أهلية. وهي تعزية من طبيعة تفكير النخب الفاقدة لكل شجاعة الاعتراف بالتقصير. انتخابات الحد الأدنى لوطن عجز أن إنتاج لاعبي كرة قدم ينتصرون فيترشحون بهزيمة الآخرين وكم أن كرة القدم الحديثة كاشفة للشخصية الأساسية لشعب من الشعوب.

هناك حروب ساخنة قادمة ليس هذا الصيف إلا خطوة في طريقها عندما يكف السياسي التونسي عن تمجيد التعادل ويفكر في الانتصار ستبدأ تونس في إعادة بناء سيادتها على شعبها وعلى ثرواتها وعلى مستقبلها. وجب إذن أن نستعجل هذا الصيف والأصياف الموالية حتى يجهز الذين يسعدون بالتعادل بصفته انتصارا على أنفسهم في دور قادم ونعود إلى التأسيس.

التعليقات (1)
adem
الثلاثاء، 09-07-2019 12:54 ص
مقال في الصميم لكن حديثك عن النهضة فيه إجحاف كبير لماذا ؟ لأنك تتحدث عنهم بلغة العامية من الناس لا المفكر و المحلل السياسي الذي ينتبه لأمور تغيب عادة عن تفكير العامة ,النهضة في غابة من الوحوش داخليا إقليميا و عالميا ,هل تملك حلولا سحرية لا أعتقد, و لا أعتقد أن هذا هدفها في هذه المرحلة , إنما هدفها البقاء حية ريثما يحدث زلزال سياسي عالمي يقلب الطاولة على المتحكمين في اللعبة السياسية داخيا و خارجيا .