قضايا وآراء

ورشة المنامة.. غَيضٌ من فَيض

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

انتهت ورشة المنامة (التي قاد صهرّ الرئيس " ترامب"، ومستشاره السياسي "جاريد كوشنر" حملة الترويج لها) دون نتائج حقيقية، أو توقعات قابلة للتطبيق، بل انفضّت أشغالها وسط أجواء محمومة بالارتياب والتشكيك في قدرة صنّاعها على الذهاب بعيدا في إقناع كل الأطراف المعنية بأهمية التفاعل إيجابيا مع رؤيتها، والاندماج في تطبيق كامل خطواتها. فهكذا، غاب الطرف الأساس في العملية، لتتحول الورشة إلى زفّةً بدون عريس، والمقصود هنا الطرف الفلسطيني، الذي وعده صناع الورشة بتعميم "السلام والازدهار" في أراضيه المغتصبة، بكلفة قّدرت بخمسة وعشرين مليار دولار على مدى عشر سنوات. مقابل ذلك، غابت دول عربية، وحضرت أخرى على مضض، فجاء تمثيلها منخفضا، ومشاركتها غير فعالة. أما الدول المشاركة فعليا، فانحصرت في مجموعة محدودة من الدول النفطية التي تربطها علاقات خاصة مع القيادة الأمريكية الجديدة، وتتطلع لأن تبسط رؤيتها الجديدة على المنطقة العربية، وهي في الواقع تقوم بتسويق الرؤية الأمريكية وحلفائها منذ شروعها في التكون نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، والتي عبر عنها "شمعون بيرسّ" في كتابه الموسوم "الشرق الأوسط الجديد" عام 1994.

لا شك في أن "ورشة المنامة" لا تعدو أن تكون سوى حلقة من مسلسل ممتد الخطوات، فهي غيض من فيض. بيد أن أهم وأخطر ما في هذه الورشة نوعية الرؤية التي سعى صناعُها إلى ترويجها، وتسويق عناصر بنائها، والمقاصد البعيدة التي تروم تحقيقها. فمن استمع لتصريحات القادة الأمريكيين، وفي مقدمتهم مستشار الرئيس "ترامب"، "جاريد كوشنر"، أو قرأ بعض الأدبيات الموضّحة لخطتهم، يلمس طبيعة المنطق الذي حَكم لقاء المنامة، والأبعاد التي ظلت مهيمنة على أشغاله. فالبارز في رؤية ورشة المنامة؛ تشديدها على أولوية البناء الاقتصادي وتوفير مناخ جذب الاستثمار، وتوفير البنى التحتية للأراضي الفلسطينية، كي يتحقق الازدهار، وتتحسن أوضاع الناس، ويصبحوا مقبلين على السلام ومقدرين له كبديل سالك للتعايش جنبا إلى جنب مع الإسرائيليين.. فصناع ورشة "الازدهار من أجل السلام"، يسعون إلى إغراء الأطراف المعنية، وتحديدا الطرف الفلسطيني، بالكلفة المالية الإجمالية التي وعدوا بجلبها من الخزائن الخليجية، والمتبرعين، ومن سيساهم في تقديرهم في إعادة بناء "الشرق الأوسط الجديد"، والتي قُدرت إجمالا بخمسين مليار دولار.

 

 

أهم وأخطر ما في هذه الورشة نوعية الرؤية التي سعى صناعُها إلى ترويجها، وتسويق عناصر بنائها، والمقاصد البعيدة التي تروم تحقيقها

يُفهم من منطق ورشة المنامة أن ثمة تمييزا بين الشق الاقتصادي، والحلّ السياسي للقضية الفلسطينية، كما يُستنتج من عناصر رؤيته أن الطريق الاقتصادي جسر لازِم للحلول السياسية.. لكن ما يبدو غير مفهوم، وقد عبرت أغلبية الأصوات عن رفضها له، هو أن ورشة المنامة قلبت، من جهة، الأولويات، وتناست، من جهة أخرى، أن الفلسطينيين جربوا أكثر من مرة هذا المنطق أو ما يقترب منه، منذ انطلاق مفاوضات مدريد، وأوسلو، ولاحقا جولات الحواضر الأمريكية، حيث تبخرت كل الوعود، وتبددت الأماني، وظلت القضية الفلسطينية تراوح مكانها. بل إن المقارنة بين سياق مفاوضات مدريد وأوسلو، والوضع الحالي تكشف عن ضعف واقع الفلسطينيين وهشاشة موقعهم، وتغير السياسة الدولية، لا سيما مع صعود الرئيس "ترامب"، حيث تراجعت السياسة وتغولت سلطة المال والمصالح المجردة من أي بعد قيمي أو أخلاقي.

 

 

ورشة المنامة هي بكل تأكيد حلقة أولى في خطة أوسع وأكبر، سماها البعض "صفقة القرن"، واعتبرها آخرون طريقا جديداً لطي أحد أقدم وأعقد ملف في القرن الحديث، أي القضية الفلسطينية. لذلك، ستتلو ورشة المنامة خطوات قادمة في اتجاه توسيع دائرة التأييد، ودفع الأطراف المترددة إلى القبول بالأمر الواقع، والتفاعل الإيجابي معه. غير أن خطورة الورشة ستحث، بالمقابل، الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، والمناصرين لعدالة قضيتهم من العرب والمسلمين، إلى التكاتف من أجل المواجهة والتصدي، وإلا ستكون الغلبة لمنطق الورشة والصفقة، وسيُسدَل الستارُ عن قضية، شكلت بكل المقاييس عنوانَ الظلم وغياب العدالة الدولية.

 

 

ورشة المنامة هي بكل تأكيد حلقة أولى في خطة أوسع وأكبر، سماها البعض "صفقة القرن"، واعتبرها آخرون طريقا جديداً لطي أحد أقدم وأعقد ملف في القرن الحديث، أي القضية الفلسطينية

لم يحضر الفلسطينيون ورشة المنامة، ودعوا إلى مقاطعتها، كما عبروا عن رفضهم لها بالإضراب الذي عمّ مدنهم وقراهم، بل اعتبروها محاولة فاشلة لشراء سلامهم المنشود منذ عقود من النضال بمال العرب ومقدراتهم. لكن هل الرفض كاف للتصدي لمخطط من حجم هذه الورشة الصفقة؟ أم أن واقع الحال يستلزم همما وعزائم وإرادات أقوى وأصلب مما عبروا عنه؟ لا يشك أحد في أن الفلسطينيين مطالبون بما هو أكثر مما عبروا عنه، وصرحوا به، ودعوا إليه.. لا يكفي رفض الورشة ومقاطعتها، بل يتوجب رصّ الصفوف، واستعادة وحدة كلمة الفلسطينيين، وجمع الشمل، والظهور بمظهر الجسم المقاوم الفلسطيني الواحد، فالوضع الحالي يضغط بكلكله، مع الأسف، على صدور الفلسطينيين، وينخر قواهم، ويحد من عزائهم في التصدي والمقاومة.

والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم، بل يخص أيضاً بني جلدتهم من العرب والمسلمين، الذين حملوا القضية الفلسطينية، باقتناع أو من أجل مصالح خاصة بهم، على أكتافهم منذ عقود، ومنهم من اعتبرها غير مختلفة ولا بعيدة عن قضاياهم الوطنية. المطلوب منهم جميعا استيعاب خطورة "صفقة القرن"، التي ليست ورشة المنامة سوى إحدى حلقاتها، ووعي خطورتها على وجودهم، وتمثل ما يمكن أن يكون لها على هويتهم المشتركة.. فبدون هذا الوعد المزدوج من قبل الفلسطينيين ومناصريهم من العرب والمسلمين، لن يكون لمقاومة صفقة القرن نصيب يُذكر من النجاح، كما لن يكون للتصدي لمخاطرها على الوجود والمصير أي مستقبل أو أفق للنصر

 

التعليقات (0)