مقالات مختارة

ذبذبات ترامب بين رادارات إيران والخليج

عبد الله العمادي
1300x600
1300x600

أشغلنا ترامب من التهيئة اللازمة لاستقبال شهر كريم مبارك مثل رمضان، مدفوعاً من صقوره المتطرفين بالبيت الأبيض، وعلى رأسهم مستشاره للأمن القومي بولتون، ووزير خارجيته بومبيو، عبر تحرشاتهم المتدرجة المستمرة بإيران، وأدخلوا المنطقة في أجواء من التوتر والقلق أعادوا إليها الأجواء ذاتها التي توترت في رمضان قبل عامين من الآن، بفعل غير سوي وعاقل من ثلاثي خليجي ومعهم رابعهم مصر، حين فرضوا حصاراً برياً وجوياً وبحرياً على قطر، في سابقة لم تشهدها المنطقة.


دخلنا الشهر الكريم وأجواء التوتر تسود المنطقة وتزداد، مع نذر حرب جديدة تتصاعد، بعد حرب تصريحات نارية بين إدارة ترامب وطهران، لتتشنج الأجواء بشكل أعمق حين بدأ ترامب في استعراض عضلاته العسكرية وإرسال البوارج والأساطيل إلى الخليج، من خلال بيان مباشر من بولتون، في سابقة غير معهودة في التاريخ العسكري للولايات المتحدة، بحسب ما صرح به «غريغ ثيلمان» المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية لمجلة «فورين بوليسي»: بأنه اصطدم بـ «بولتون» عندما كان يعمل تحت إمرته قبل غزو العراق، مضيفاً في تعليقه: «لم أسمع بأن ذلك حدث أبداً ، إنه أمر غير مسبوق أن يقوم مستشار للأمن القومي باستخدام سلطته لإرسال هذا البيان، هذا لم يحصل حتى في غزو العراق». ثم تتسرب بعد ذلك معلومات استخباراتية أن طهران تجهز لسلسلة عمليات ضد المصالح الأمريكية ومصالح حلفائها، وأن واشنطن ستتعامل مع ذلك بحزم وقوة إن تعرضت مصالحها أو مصالح حلفائها في المنطقة لأي تعد أو إضرار..


لم تمر أيام قلائل على تلك التصريحات والتسريبات حتى تأزمت الأمور أكثر وأكثر بخبر تخريب أربع ناقلات نفط قرب ميناء الفجيرة الإماراتي دون أن يتبنى أحد عمليات التخريب تلك – ما عدا بولتون الذي يؤكد دور إيران - ليتبعها بأيام تفجير مضختي نفط لشركة أرامكو في العمق السعودي بواسطة سبع طائرات مسيرة تابعة للحوثي، ليضع العالم يده على قلبه خوفاً من انفجار وشيك بالمنطقة، يعيدها إلى أعوام الحرب الكارثية بين العراق وإيران وقصف ناقلات النفط بالخليج في الثمانينيات من القرن الفائت.


وما بين تنوع وتزايد التجهيزات العسكرية الأمريكية في الخليج من جهة، يقوم الطرف الآخر بالمثل، وتستمر حرب التصريحات الصحفية بين العاصمتين، حزم بحزم وتشدد بتشدد.. لكن لوحظ أن الرئيس ترامب أو رجل الأعمال - إن صح التعبير - بدا عليه الحنين إلى أيام التجارة وممارسة دور رجل الأعمال، الذي يرغب في بضاعة ما دون أن يُظهر تلك الرغبة للآخرين، وهو في الوقت ذاته لا يريد أن يخسرها أيضاً. حيث شاب تصريحاته، سواء أمام وسائل الإعلام أو من خلال تويتر - وسيلته الإعلامية المحببة لنفسه - نوع من الدبلوماسية والتهدئة المتدرجة في الوقت نفسه، وبان له أنه أمام مشهد كوري شمالي جديد، وأنه أمام خصم لا يختلف كثيراً عن الكوري الشمالي العنيد أو حتى الفنزويلي المقاوم الثائر، وأن هذا الخصم ليس بوداعة وسهولة من هم على الجانب الآخر من ضفة الخليج !


هكذا بدأ ترامب يهدأ ويتحول لرجل باحث عن مكسب سياسي خارجي وقد لاح له في هذه المنطقة، رغم حماسة بولتون في عدم التهدئة.. ترامب وجد من التهدئة فرصة أو مكسباً يفيده ويعينه في لملمة أصوات الناخبين بعد شهور قليلة. إذ إنه يأمل في فترة رئاسية ثانية، لكن جعبته الخاوية من مكاسب داخلية، ووضعه الذي يزداد تأزماً بالداخل، كلها عوامل تجعله الآن في وضع الباحث عن أي مكسب خارجي. فقد خسر معركة كوريا الشمالية، ويسير نحو نفس المشهد في فنزويلا، ولم يستطع كسب المعركة التركية كذلك، وحتى الإسرائيلية لم تفده كثيراً، وهو الآن أمام المعركة الإيرانية، ومحاولة الخروج بمكسب سياسي يتمثل بشكل مختصر مفيد، في توقيع اتفاق نووي جديد مع طهران، يستطيع العودة به إلى ناخبيه.


من اليابان، أقصى شرق العالم، يعلن ترامب أنه لا يرغب في تغيير النظام الإيراني، ولا يريد إلحاق الأذى بإيران، ولا يريد أن يرى الفظاعات، وأنه بالإمكان التفاهم مع القيادة الإيرانية الحالية لبناء دولة عظيمة، وأن رئيس الوزراء الياباني وبحكم علاقاته الطيبة مع الإيرانيين، يمكنه أن يقوم بدور فاعل مؤثر في هذه الأزمة.. فماذا تعني كل تلك التصريحات أو الإشارات أو الذبذبات الترامبية؟
إنه بعد ترجمة تلك الذبذبات وفق القاموس السياسي، تبين أن ترامب لا يريد حروباً يخسر فيها جنوداً أمريكيين، وقد كان أحد وعوده الانتخابية التي اختاره الأمريكان بسببها، هو الالتزام بسحب القوات الأمريكية من أماكن التوتر بالعالم، وعدم خوض حروب جديدة إن كان بالإمكان كسب أي جولات أو معارك بالدبلوماسية والسياسة..


كما أن ذبذباته التي أطلقها من طوكيو، تعني أنه يمد يده للسلام مع إيران ورغبته الجادة في لقاء مع القادة الإيرانيين من أجل حلحلة الكثير من القضايا العالقة بين المعسكرين، ودليل جديته ورغبته في ذلك، أنه بشكل غير مباشر طلب من اليابان القيام بهذه المهمة، لقناعته بالدور والتأثير الياباني الإيجابي على القرار الإيراني.


هكذا أرسل ترامب عدة رسائل مشفرة وواضحة خلال فترة وجيزة، تشرح للجميع ذلك، وترك أمر استقبالها وفك شفرتها أو ترجمتها، للرادارات الخليجية والإيرانية.. فأما الرادارات الإيرانية، فلا شك عندي أنها استلمت الذبذبات وترجمتها من فورها، وأرسلت من جانبها على الفور أيضاً، رسائل واضحة لترامب - والعالم كله يراقب - أنها قوة إقليمية لا ترضى أن تُعزل وتعيش على هامش الأحداث، وأن بيدها عوامل استقرار وأمن أخطر وأهم مناطق العالم بالنسبة للعالم. تلك رسالة أولى.


أما الرسالة الثانية، فتمثلت في مبادرة سياسية عرضت من خلالها على دول المنطقة - الكويت وعمان وقطر - معاهدة تتضمن تقديم ضمانات متبادلة لعدم قيام أي من دول المنطقة بأي تحرك عدائي، سواء كان عسكرياً أو أمنياً أو سياسياً ضد بعضها، ومنع أي تحركات إرهابية أو إعلامية أو سياسية أو عدائية من طرف ثالث يمكن أن تهدد أمن باقي الدول الموقعة. إذ تنوي طهران توسيع المعاهدة لتشمل العراق وباكستان أيضاً، وربما وبحسب الظروف الإقليمية، السعودية والإمارات والبحرين.


أما الرسالة الثالثة فكانت بشأن السلاح النووي، ومفادها أن مرشد الجمهورية، وهو من هو بالنسبة لإيران، قد أفتى منذ عام 2003 بعدم جواز امتلاك سلاح نووي، وتريد طهران بهذا أن تكشف المزاعم الأمريكية أمام العالم أنها لا تسعى للدخول في سباق التسلح النووي، والدليل على ذلك أنها وقعت على الاتفاقية النووية مع أمريكا أوباما وبعض القوى الأوروبية وبشهادة واعتماد مجلس الأمن، ولو لم تكن جادة في هذا الأمر، ما وقعت الاتفاقية التي يريد ترامب أن يعيد صياغتها لمجرد الإعادة والخروج بمكسب سياسي يخدمه في رحلته الانتخابية الثانية..


لكن ماذا عن حلفاء الضفة الأخرى من الخليج؟ ماذا عن الذين سعوا بكل ما لديهم من مال وإعلام وخطط لجلب الجبروت الأمريكي للمنطقة، على أمل استخدام ذلكم الجبروت في تقليص قوة ونفوذ طهران، تجعلها تتراجع لسنوات عديدة، فتريح وتستريح؟ ربما فات عرب الخليج – السعودية والإمارات والبحرين – أن ما يهم صاحب ذلك الجبروت هو مصلحته بالمقام الأول. وطالما أنه قادر على أن يحقق مصلحته بحلول سياسية دون أن ينزف نقطة دم، فلماذا ينزع نحو الحلول الصعبة الشائكة؟


الطرف العربي المتأزم في الخليج – السعودية والإمارات والبحرين - تأخر كثيراً في ترجمة وتفسير ذبذبات ترامب، ولم تكن سرعته تقارن بسرعة الطرف الإيراني. إن كل ما قام به الطرف الخليجي حتى الآن هو انتظار ما ستسفر عنه القمم الثلاث التي دعت السعودية إليها من نتائج وتوصيات، وهي على كل حال ستكون متأخرة، والتي على الأغلب ستكون موجهة ضد إيران، وهذا أمر يكن القول فيه إن ترامب تجاوزه وكذلك الطرف الإيراني، وهما إلى البدء في التفاهم أقرب!


أحسبُ أن الأمور بعد كل هذا ستراوح مكانها كما الآن. حيث أجواء اللا حرب واللا سلم. وسيحاول كل طرف، طهران من جهة وترامب من جهة أن يستفيد من عامل الوقت. ترامب يريد أن يخرج سريعاً بمكسب سياسي خارجي قبل حلول موعد الانتخابات، فيما طهران تحاول أن تلعب على حبل التفاوض والأخذ والرد لحين موعد الانتخابات الأمريكية، على أمل أن يخسر ترامب ويخرج من المشهد، ليأتي من يعيد الأمور إلى ما كانت عليه، أو إن فاز واستمر في المشهد، فسيكون حينذاك لكل حادث حديث، وخاصة أن الإيرانيين معروف عنهم طول النفس والصبر، وامتلاكهم القدرة والمهارة مع تراكم هائل من الخبرات في مسائل التفاوض.


أما عرب الضفة الأخرى من الخليج – السعودية والإمارات والبحرين - فليس أمامهم أيضاً سوى التهدئة مع الجانب الإيراني وانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكية، فإن استمر صاحبهم وداعمهم في كثير من المشاهد الإقليمية، وفاز بفترة رئاسية ثانية، فيمكنهم حينذاك إعادة النظر في كيفية استغلاله تارة أخرى. أما إن خسر وخرج من المشهد الأمريكي، فسيكون لكل حادث حديث أيضاً.. وفي كل الأحوال ، نرجو الله أن يجنبنا شر الكوارث والفتن، ما ظهر منها وما بطن.

 

عن صحيفة الشرق القطرية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل