كتاب عربي 21

أحمر وأسود.. وألوان أخرى

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1) 

سألني الطفل عن رأيي في عَلَم بلادي
فقلت: صار غريبا عني!
قال: لماذا غريباً؟
قلت: لا أحب اللون الأصفر، أحب الأخضر أكثر
خرجت من عين الطفل دمعة بطيئة، فسألته: ما بك؟
قال بحروف مخنوقة: بالأمس أيقظني صوت رصاصة، وشاهدت عصفوراً يسقط قرب النافذة، فامتلأ قلبي بالألم وبالسؤال عن معنى العَلَم.

(2)

أنا أيضا، أكتب اليوم بحروف مخنوقة، ربما لا يكون للاختناق علاقة بالرصاص ولا بالعصافير، لكني لا أستبعد أن يكون للاختناق والألم علاقة بألوان العَلَم، وبالمناسبة فإن الأخضر الذي أحبه لا يعني شيئا محدداً، فهو بالتأكيد ليس إشارة رمزية لراية الهلال والنجوم في العهد الملكي، ربما تكون المشاعر حنيناً إلى النجوم الخضراء في عَلَم الوحدة، وربما تكون نابعة من محبتي لألوان علم فلسطين والذي يمثل فيه الأخضر "البعد الرابع" لثلاثية الأحمر والأبيض والأسود، وربما تخمينات أخرى، لكنني (كما قلت) لا أعرف بالتحديد سر محبتي للأخضر الغائب في علم بلادي، وعلى العكس من ذلك أعرف جيداً سر عدم محبتي للأصفر.

(3)

الأصفر لون عسكري.. لا أعتقد أن هذا الإحساس فردي، ولا أعتقد أنه نتيجة احتقان في المعارضة لنظام سياسي، لكنه واقع تاريخي أو (تاريخ واقعي) فملابس الجنود وأماكن معسكراتهم مشتقة كلها من هذا اللون الصحراوي الأجرد، وهذا لا يمنع رفضي الواعي لمظهر "عسكرة عَلَم بلادي"، فالنسر المستمد من نفاق خفي لدلالة "النسر الأمريكي" ارتبط برمزية القوات المسلحة، وتوسع السادات في تطبيع هذه الدلالة سياسيا وإعلامياً، حتى صار الولاء للجيش هو الولاء لمصر، ومن أجل تكريس شرعيته وتسهيل تحولاته، سعى السادات لتسويق نفسه في صورة القائد العسكري المنتصر، وعلى خلاف الشائع تمادى في عسكرة كل شيء حتى العلم الذي نزع نجومه الخضراء ووضع بدلاً منها النسر الاصفر.

(4)

لم يكن هذا هو المقال الذي جلست لأكتبه، كنت أخطط لكتابة مقال عن المقدم المختل "فرانك سليد"، وهو التشويه الأمريكي للشخصية التي اخترعها الكاتب الإيطالي جيوفاني أربينو، والذي سعى من خلالها لتصوير مظاهر التمزق والغلظة والضياع والاختلال النفسي في نفوس العسكريين بعد الحرب الثانية، وركز في ذلك على شخصية الرائد "فاوستو كونسولو" الذي أصيب بالعمى ليس كمقاتل في حرب، ولكن نتيجة اللهو بالسلاح في لامعركة!

 

لا أشبه إيليوت في شيء، لكنني ممن يشعرون بوطأة شهر أبريل، وقبل سنوات كنت أعتبره فعلا "أقسى الشهور"، ذلك قبل أن تكون الشهور كلها قاسية عليّ وعلى كثيرين من أمثالي،


لكن لماذا لم أكتب المقال الذي خططت له؟
ربما تكون دمعة الطفل، وربما يكون سؤاله الذي سبق الدمعة، وربما تكون "متلازمة أبريل".

(5)

لا أشبه إيليوت في شيء، لكنني ممن يشعرون بوطأة شهر أبريل، وقبل سنوات كنت أعتبره فعلا "أقسى الشهور"، ذلك قبل أن تكون الشهور كلها قاسية عليّ وعلى كثيرين من أمثالي، ففي أبريل مات الكثير ممن أحبهم، ويكفي أن شاهد قبر صلاح جاهين يتضمن هذا التاريخ (21 أبريل)، لكنني اليوم لن أكتب عن جاهين ولا عن غيره ممن رحلوا، لأنني لا أريد تعميق جرح الحزن، ولا تمديد حالة الاختناق، لكن عن ماذا أكتب إذن؟ فأنا لا أريد أن ألهو بالكلمات في "اللامعركة" فأخسر بلا مجد، وأتشوه بلا بطولة كحال الكابتن فاوستو..

ماذا يعني هذا المأزق؟..

يقول "جوليان سوريل" بطل رواية "الأحمر والأسود" للكاتب الفرنسي "ستندال": هذا المأزق يعني أننا بلا أي شك قد وقعنا في فخ، ومع ذلك لنقبل التحدي ونستمر في اللعب بحذر".

(6)

للعجب فإن جوليان تم إعدامه في أبريل، كما أن ستندال نفسه مات قرب هذا "الشهر الخنيق"، بل إن يحيى الطاهر عبد الله الذي ولد ومات في نفس الشهر، استخدم عبارة الفخ، واللعب الحذر في تقديم إحدى قصصه بعنوان "الدرس"، فما هو الدرس في كل هذا الهراء الهذياني الذي أدور فيه؟!

(7)

ربما يكون في كلامي المتناثر دوران مقصود حول معنى الألوان في علم بلادي.. بمعنى: هل لها معنى؟ وبدقة أكثر هل لها معنى غير ما أخبرونا به عن دلاله الأحمر للون الدم والتضحية من أجل الاستقلال، ولون الأسود للدلالة على حقبة الاستعمار، والأبيض بطبيعة الحال رمز المستقبل الذي لم يأت بعد...!!!

ربما.. لكن ماذا يقول ستندال الذي استخدم الأحمر والأسود كعنوان لروايته الشهيرة؟

(8)

الأحمر في رواية ستندال يرمز لحكم العسكر، حيث وقع جوليان ابن النجار الفقير في غرام نموذج نابليون، فيما يرمز الأسود لعلاقته القديمة بالسلطة الدينية، وبين انتماءاته القديمة وطموحاته الجديدة سقط جوليان في الفخ بعد أن اختلت توازناته وخاب مكرها، فانتهت علاقته بالسلطة إلى حكم بالاعدام، لخيانته روح الثورة ومبادئها، والأهم خيانته لأحلام الفقراء الذي كان واحدا منهم قبل التحاقه بموكب نفاق السلطة، وقد ظهرت بعد ذلك أعراض طبية تم تسميتها "متلازمة ستندال" وهي عبارة عن سرعة النبض، والدوار، والارتباك، الهذيان الذي يصل إلى نوع من الغيبوبة المؤقتة، وقد اختارت عالمة النفس جرازييلا ماغريني تسمية هذا المرض باسم ستندال بعد أن وصف حالته أثناء زيارته لمدينة فلورنسا الإيطالية، فكتب يقول: "أحسست برعشة مشاعر سماوية، وتسارعت دقات قلبي، وترنحت، فهويت على أقرب مقعد".

(9)

الدوار والسقوط نتيجة طبيعية للانبهار غير الواعي، لكن السقوط الأفدح يكون لمن ينبهر بوعي، أو يمثل الانبهار ويهلل لانتصارات جيش صار أعمى ومقطوع الذراع، ليس لأنه خاض حرباً، بل لأنه كان يلهو، وبعد أن تشوه عاش يمارس الغلظة والقمع في طريقه إلى الانتحار أو انتظار معجزة، كما وصف أربينو حالة الضابط فاوستو، ولا تهملوا تشابه الاسم مع شخصية "فاوست" الذي باع روحه للشيطان.

[email protected]

التعليقات (0)