قضايا وآراء

مقاصدنا ومصالحهم

مسعود حامد
1300x600
1300x600
تصف مقاصد الشرع تلك المنطقة الحرجة التي يتم فيها اشتباك النص بالواقع، وهي (لا سيما مقاصدها العامة) مشروع واعد بالتحرر والتنمية وحقوق الإنسان. وتتضمن تلك المقاصد من الكليات والمراتب والأولويات، بما يوحد الفكر الإسلامي في سياق متصل. وقد رتب الأصوليون مصالح الناس ومقاصدهم من حيث الأهمية على ثلاث: ضروريات وتحسينيات وحاجيات.

فالضروريات: هي ما لا يستغني الناس عن وجودها بأية حال من الأحوال، ويأتي على رأسها الكليات الخمس، ويراد بها حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ويرى بعض أهل العلم أن الكليات لا تُحصر بعدد خمس، بل يمكن تنزيل عددها إلى أقل من خمس، فحفظ الدين يُراد به حماية الإسلام وصون نصوصه ومصادره وشعائره وأحكامه وفضائله، والذود عن أهله ومؤسساته ومعالمه، وحفظ النفس يشمل الكليات الثلاث التي وردت في الكليات الخمس عند الجمهور، أي أن حفظ النفس يشمل حفظ نفس الإنسان ويشمل عقله، ونسله. فكل هذه الأمور تعود إلى شيء واحد، وهو حفظ النفس في عنصرها الجسدي والروحي والعقلي والذري والأسري والنسبي. أما حفظ المال فيعود إلى أمر المال والثروة والحقوق العينية والمنفعية التي يستحقها الإنسان؛ فهذا التقسيم ثلاثي واضح، ويشمل ثلاثة أبعاد، بعد الدين، وبعد الإنسان، وبعد المال.

ولا يمكن، في ظني، اختصار الكليات وشمولها في أبعاد ثلاثة؛ إذ الآلة التي فتحت للقدامي لا تزال تعمل، ومعرفة المقاصد في الإسلام ليست شيئا اكتشفه اللاحقون أو ابتكره المتأخرون، إنما هي حقيقة موضوعية كامنة فيه وبادية عليه، إنها روح هذا الدين، والحكمة من شريعته.

وقد أنجز مفكرو مجلتي "الإسلام المعاصر" و"إسلامية المعرفية"، وكذلك إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دراسات وفيرة، وأسهموا وأسهبوا في غير عدد قليل من المقاصد التي راعوا فيها ثقافة العصر المعلوماتي الدفاق ومتغيراته وإمكاناته؛ مثل تحقيق الأمن، والعدل، والتكافل، ورعاية الحقوق والحريات العامة، وإقامة أمة وسط، والتعايش جراء المواطنة، وهي قيم عليا حاكمة تعلو المقاصد بها إلى مستوى أسمى من الناحية الفلسفية على مجرد التجريد الذهني البارد، وتتغلب على الفروق التاريخية التي أدت إلى التنازع بين المذاهب المختلفة، وتشجع على ثقافة المصالحة والتعايش السلمي اللذين اشتدت الحاجة إليهما في كل أنحاء العالم، لا سيما في عصر كهذا، وتقيم جسرا معرفيا بين أهل المجتمع الإنساني الواحد.

في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، ضرب علي عزت بيجوفيتش مثلا رائعا في توضيح دور القصد، فقال: "إن العامل الذي تسبب عن غير قصد في كارثة بالمنجم راح ضحيتها مئات من الناس سيكون أقل مسؤولية، وستكون عقوبته أقل من شخص قتل متعمدا امرأة عجوزا لكي يسرق مالها. ألا تكشف لنا هذه العبارة غير المنطقية أن هناك نفسا، وأننا في الحقيقة نحكم على ما حدث في قلب مرتكب الجريمة؟ إن أحكام الإنسان تكدح لكي تقلد حكم الله، فكلما أخذنا في الاعتبار قصد الإنسان في حكمنا كلما اقتربنا من حكم الله".

مواثيقهم

ولم يخل تطور مسار حقوق الإنسان من التوجهات السياسية والأيديولوجيات التي مثلت المشهد العالمي العام في مجالات الاقتصاد والسياسة والفكر. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان صدر عن الأمم المتحدة، والبلدان المؤسسة لهذه المنظمة والفاعلة فيها هي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وبريطانيا. وقد ساهم التوجه الليبرالي، بوجهيه السياسي والاقتصادي، في صياغة بنود حقوق الإنسان، كما ساهمت الأيديولوجيا الاشتراكية في تعديل المسار وإدخال الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية على منظومة حقوق الإنسان.

وثمة ملاحظات..

1- لن تلقى فكرة حقوق الإنسان القبول العام، والتأييد المطلق من الشعوب المختلفة، لا سيما الشعوب التي تأصلت فيها الديانات من آلاف السنين، طالما أن مصدرها قانوني بحت؛ لأن القانون بحق ينبع من ضمير الجماعة، وليس من مصدر خارج عنهم، كما هو الحال وفقاً للنظر الإسلامي الذي يرجع الفكرة إلى إرادة اللـه، تبارك وتعالى، وأمره..

2- توسعت فكرة حقوق الإنسان لتشمل الحريات المطلقة؛ كالعدالة، والمساواة وحرية السلوك، وحرية المرأة، والحرية الجنسية، وحق ممارسة الشذوذ. وهذا الاتساع في المفهوم لا تقبله الشعوب عامة، لا سيما المتدينة؛ لأنه يتعارض بشكل واضح مع المفاهيم الدينية السماوية.

3- وفق مصالح الدول النافذة، يتم تنفيذ العقوبات الخاصة بانتهاكات بعض الدول لحقوق الإنسان، ويتم غض الطرف عن دول أخرى، مثل الولايات المتحدة والكيان المسمى بإسرائيل، بل يتم غض الطرف عن عدد كبير من الدول الموالية والتابعة سياسيا للولايات المتخدة وإسرائيل، وهو يعكس تحيزا من شأنه أن يوهن الثقة في مصداقية تلك المنظمات الحقوقية، فضلا عن تبرير وتمرير عقوبة الإعدام لأنطمة مستبدة، كما يحدث في مصر والسعودية، والهجوم على دول أخرى مثل تركيا إن لوحت بتنفيذ عقوبة الإعدام.

4- رغم كل تلك الجهود وتلك المليارات الموجهة على دكاكينهم، وهذا الدوي الهائل والطنطنة الإعلامية والسياسية لا تزال البشرية تعاني، وفي القلب منها الدول الإسلامية والعربية، من سائر انتهاكات حقوق الإنسان ما يعني فشلا ذريعا ومدويا وضخما لكل تلك الشعارات التي تتآكل بفعل الواقع في عالمنا.

ولعل الموقف الأمريكي المنحاز دائما والجاهز دوما لرفع الفيتو مناصرة لإسرائيل، بل موقفه من التخاذل المقيت من قضايا العربية والإسلامية العادلة، دليل على انتهازية الخطاب الحقوقي الأمريكي وتحيزاته، وكذلك الموقف الغربي عموما حيال ثورات الربيع العربي.

ومن نعمة الله علينا (وعلى المسلمين أينما وجدوا) إمكانية امتلاكنا للنهوض الحضاري، إذ نمتلك القيم المعيارية المتنزهة عن وضع الإنسان وعبثه.

كما نمتلك تجربة أسلافنا ومعاصرينا في تنـزيل هذه القيم على واقع الناس، ومعنا رصيد نبوتنا الخاتمة، وعلاوة على ذلك القدرة على الانفتاح الخلاق على كل ما هو إنساني وحقيقي بما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
التعليقات (0)