مقالات مختارة

أمريكا الجنوبية ساحة الحرب الباردة الجديدة

هال براندز
1300x600
1300x600

أسفرت الأزمة السياسية الراهنة في فنزويلا عن حالة صدام شبه محتملة بين الولايات المتحدة والرئيس الفنزويلي الذي يقاتل لئلا يغادر منصبه. بيد أن الأزمة هناك تحمل قدرا أكبر من الأهمية؛ إذ إنها تعكس أن أميركا اللاتينية قد تحولت مجددا إلى ساحة المجالدة التي تناضل فيها مختلف القوى الدولية العظمى من أجل بسط النفوذ واكتساب المنفعة. ومع الولايات المتحدة التي تلقى منافسة جيوسياسية محتدمة ومتصاعدة في غير موضع حول العالم، فإن موقفها من الأزمة الفنزويلية يرزح تحت ضغوط متراكمة لا سيما فيما يتعلق بفنائها الخلفي الجنوبي.

ولفتت تلك المنطقة البعيدة أنظار العالم بأسره من قبل إثر حالة التنافس الإسباني - البرتغالي المريرة فيما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. ثم عادت لتلفت أنظار العالم الحديث مرة أخرى في الحرب الباردة السابقة بين واشنطن وموسكو. وفي أعقاب أفول نجم الاتحاد السوفياتي، بدت قارة أميركا اللاتينية - لفترة من الزمن على أدنى تقدير - كأنها منطقة خاوية تماما من مفتعلات الجغرافيا السياسية بين مختلف القوى.

وأفضى تفكك الاتحاد السوفياتي وانسحابه المخزي من المسرح العالمي إلى ترك الولايات المتحدة بلا منافس حقيقي، ومن ثم بسطت واشنطن هيمنتها الإقليمية هناك بلا منازع. ثم انشغلت كوبا في عهد كاسترو بقضاياها ومشكلاتها الداخلية، واستغرقتها أزمتها الاقتصادية العميقة تماما. ومع التحول إلى الديمقراطية وإلى اقتصاد السوق الحر الذي ميز كثيرا من بلدان المنطقة في الآونة الأخيرة، صارت المنطقة أحادية القطبية تماما في جوهرها الأصيل وفحواه الآيديولوجي الرصين.

لكن مع بدايات القرن الحادي والعشرين، ورغم كل شيء، كانت الأجواء في تحول مستمر. فلقد جاء أولا الجيل الجديد من القادة السياسيين الذين اعتبروا الاقتصادات النيوليبرالية أحد أهم مصادر الفقر وعدم المساواة في المنطقة؛ إذ قارنت الحكومات التي يقودها رجال أمثال هوغو شافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، ورافائيل كوريا في الإكوادور، بين الدعاوى الشعبوية ذات الطابع السياسي وبرامجها الاقتصادية المعتمدة مع ميل واضح إلى إقصاء الليبرالية، وفي بعض الحالات، الديكتاتورية المحضة والاستبداد المطلق. ولقد خاضوا حربا مفتوحة ضد الولايات المتحدة على صعيد الدبلوماسية وصعيد الخطابات السياسية الموجهة، مع إقامة روابط وعلاقات شديدة الوثوق مع كوبا. وأسفر الأمر عن بروز تكتل من اللاعبين الإقليميين يناوئ العزم الأميركي هناك - تماما كما شرعت الجهات الفاعلة الخارجية في تأكيد، أو ربما إعادة تأكيد نفوذها، في المنطقة نفسها.

ومع ازدهار الاقتصاد الصيني على مدى العقدين الماضيين، تزايد وجود الصين الملاحظ في أجواء أميركا اللاتينية كذلك. فلقد شهدت الاستثمارات والتجارة الصينية طفرة كبيرة في كل مكان من القارة تقريبا، وليس فقط في البلدان التي تديرها الحكومات الشعبوية المتطرفة. وقامت التجارة والقروض الصينية مقام شريان الحياة الرئيسي بالنسبة إلى الحكام غير الليبراليين في المنطقة أمثال شافيز الراحل ومادورو الحالي، وذلك من خلال التخفيف من تعرضهم للضغوط الأميركية والغربية الشديدة. وتبع ذلك الظهور العسكري الصيني في الآفاق، ما خلق المخاوف من محاولات بكين إرساء موطئ لها في نصف الكرة الأرضية الغربي. وعلى الرغم من أن مختلف جوانب العلاقات الصينية مع بلدان أميركا اللاتينية لا تزال مثيرة لكثير من الجدل - لاقت بعض مشاريع البنية التحتية الصينية هناك بعض الانتقادات لأنها غالبا ما تستقدم العمالة الصينية بدلا من توظيف سكان البلدان التي تُقام فيها تلك المشاريع على سبيل المثال. وبالتالي، صارت بكين، ومن دون شك، أحد أبرز اللاعبين السياسيين في نصف الكرة الغربي.

كما وفرت روسيا الدعم الاقتصادي والدبلوماسي إلى حكومات شافيز ومادورو على التوالي، وإلى غيرهما من الحكام المستبدين أمثال دانييل أورتيغا في نيكاراغوا. وباعت موسكو الطائرات المقاتلة، والدبابات، وغير ذلك من الأسلحة الأخرى إلى الحكومات الشعبوية المتطرفة هناك، واستأنفت توفير التكنولوجيا العسكرية المتطورة، والصادرات النفطية، إلى كوبا.

وما يثير قلق حكومة الولايات المتحدة كذلك شروع الكرملين الروسي في افتتاح نافذة للوجود الاستخباري الكبير في نيكاراغوا. وكما لاحظت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أن «المقاربة الروسية الحالية حيال أميركا اللاتينية تعكس أصداء التواصل السوفياتي القديم بين ستينات وثمانينات القرن الماضي».

وغالبا ما توصف العلاقات الروسية والصينية مع مختلف بلدان أميركا اللاتينية بأنها لا تتعدى المعاملات والتبادلات التجارية، وصحيح أن كلا من موسكو وبكين بإمكانهما إبرام الصفقات التي تصب في صالحهما ومن أجل دعم تلك البلدان. وأحد تكاليف الدعم الروسي المستمر لنيكولاس مادورو كان الملكية الكبيرة في قطاع الصناعات النفطية في فنزويلا.

وكانت الصين كذلك تنظر إلى فنزويلا مصدرا مهما من مصادر الطاقة، ويدفع النمو الاقتصادي الصيني حكومة بكين إلى تعزيز الانخراط في حلبة أميركا اللاتينية حتى مع غياب أي استراتيجية أو حتى خطة جيوسياسية ذات مغزى بذلك الشأن.

لكن وبالنسبة إلى البلدين، فإن هذه المشاركة تخضع في حد ذاتها إلى منطق المنافسة المحتدمة. إن التقارب إلى مختلف بلدان أميركا اللاتينية يعني محاولة عزل واشنطن عن باحتها الخلفية من خلال ممارسات النفوذ وبسط السيطرة من الخارج. وهذا من شأنه المساعدة في تعزيز الموقع العالمي الذي تحتله كل من موسكو وبكين راهنا في الوقت الذي يشتد فيه التنافس مع واشنطن على مختلف المستويات والصُعُد. وأخيرا، فإن دعم الأنظمة المستبدة مثل القائمة في فنزويلا ونيكاراغوا - سواء في هدوء وروية كما تفعل الصين، أو بانفعال وصخب كما تفعل روسيا - هو وسيلة للتثبت من أن الساحة العالمية لا تزال سانحة من الناحية الآيديولوجية لاستقبال مزيد من النفوذين الروسي والصيني.

يشكل كل هذا خلفية أساسية للأزمة الفنزويلية. إن تصاعد النفوذين الروسي والصيني في أميركا اللاتينية على نطاق واسع، وفي فنزويلا على نطاق خاص، هو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت إدارة الرئيس ترامب، على نحو غير معهود منها، إلى رفع شعار حقوق الإنسان والديمقراطية فوق الرؤوس. ومن خلال فرض العقوبات الاقتصادية القاسية، والدعوة إلى التدخل العسكري بغية إقصاء الرئيس نيكولاس مادورو عن منصبه، وإسناد المعارضة السياسية التي يتزعمها الرئيس المؤقت خوان غوايدو هناك، تسعى الإدارة الأميركية إلى حرمان موسكو وبكين وهافانا من شريك كبير ومهم في أميركا اللاتينية. ومع اعتبار الاستجابة الصادرة من طرف موسكو وبكين على نحو مغاير للغاية إزاء هذه الأزمة، يعمل الطرفان، بطرقهما الخاصة، على حماية هذا الشريك المهم.

ولقد أعلنت الصين موقفها وسجلت معارضتها للحملة الدولية الرامية إلى الإطاحة بحكومة نيكولاس مادورو من فنزويلا. وواصلت الاعتراف بحكومته المحاصرة والمضطربة حتى بعد أن أعلن كثير من البلدان الديمقراطية الدعم العلني للرئيس المؤقت خوان غوايدو. وكانت روسيا أكثر عزما من الصين في ذلك، إذ أعلنت شجبها لمحاولات واشنطن «هندسة الانقلاب السياسي» في فنزويلا، على حد تعبير ممثل روسيا لدى الأمم المتحدة. كما حذرت موسكو واشنطن من مغبة المضي على مسار التدخل العسكري في فنزويلا، وأرسلت، على نحو رمزي، قاذفتين نوويتين استراتيجيتين إلى العاصمة كراكاس.

وعلى نحو أكثر رسوخا، أرسلت موسكو نحو 400 عنصر من عناصر المرتزقة الروس لتعزيز قوات الحرس الرئاسي الخاصة بالرئيس نيكولاس مادورو، كما تعهدت بإرسال دعم اقتصادي إضافي لإنقاذ البلاد. وبالتالي، هناك شعور عام باندلاع «حرب باردة» جديدة حول الأزمة الراهنة مع اصطفاف الولايات المتحدة قبالة خصومها الدوليين في نزاع حول من ينبغي له أن يتسيد الحكم في تلك الدولة الأميركية اللاتينية الكبيرة.

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

0
التعليقات (0)