قضايا وآراء

قضية المدرسة القرآنية بالرقاب: أزمة تعليم أم أزمة مجتمع؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

مثّلت قضية المدرسة القرآنية في الرقاب (من ولاية سيدي بوزيد) مناسبة جديدة لإظهار الانقسام الحاد الذي يطبع تعاطي التونسيين؛ مع أغلب القضايا المثيرة للسجال العام منذ الثورة. وعلى غرار كل القضايا، اتسمت أغلب المواقف المهيمنة على وسائل الاتصال التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعية بنوع من الصدامية والاختزالية التي تتحرك من موقع التنافي والأحكام العامة المؤشرة على غياب الثقافة الحوارية الحقيقية، بل المحيلة إلى غياب "كلمة سواء" أو "مشترك وطني" (خارج الوجود الصوري للمبادئ الدستورية) لتأسيس للجمهورية الثانية.

وسنحاول في هذا المقال أن نقارب قضية مدرسة الرقاب القرآنية، بعيدا عن محاولات التسييس والأدلجة والحسابات الانتخابية، وهو ما يجعلنا نطرحها (دون تمييعها أو إنكار خطورتها) ضمن جملة من القضايا العامة التي لا يمكن مغادرة الاختزالية وازدواجية المعايير؛ إلا باستحضارها من مثل: استغلال الأطفال والتحرش الجنسي بهم، والانقطاع عن الدراسة والانحرافات الأخلاقية لدى الأحداث (خاصة في الوسط الطلابي)، والتفاوت الجهوي وفشل منوال التنمية، والتمويل الأجنبي للجمعيات، وأسباب التطرف وغياب خطاب ديني "جامع" للتونسيين، وأخيرا مسألة بناء "المشترك الوطني"، ودور الدين وحدوده "التوافقية" في هذا المشترك.

 

لماذا لم تتحرك هذه الحكومة إلا بعد أن أصبحت القضية قضية رأي العام، وزادت في الاحتقان الاجتماعي وتعكير المناخ اللازم لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية أواخر هذا العام؟

في اللغة الفرنسية يوجد مثل معروف يقول إن "كل شيء مرتبط جذريا بالسياسة"، وهو ما يصدق حرفيا على الواقع التونسي الذي تكاد تعصف به التجاذبات السياسية والأيديولوجية. فعندما يقول الناطق الرسمي باسم الحكومة إن الدولة كانت على علم بالتجاوزات والخروقات في مدرسة الرقاب القرآنية، وأنه قد صدر قرار أولي بتعليق نشاطها في كانون الأول/ ديسمبر 2018 (ولكنّ المشرفين على المدرسة لم يحترموا القرار)، فإننا سنطرح على الأقل سؤالين: أين كانت هذه الحكومة وأجهزتها التنفيذية بعد صدور الحكم القضائي في هذه القضية وغيرها من القضايا؛ التي عجزت السلطة التنفيذية (أو تعمدت) عدم تنفيذ الأحكام القضائية فيها؟ ولماذا لم تتحرك هذه الحكومة إلا بعد أن أصبحت القضية قضية رأي العام، وزادت في الاحتقان الاجتماعي وتعكير المناخ اللازم لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية أواخر هذا العام؟

بصرف النظر عن الموقف "الملتبس" للحكومة، وبصرف النظر عن التعامل الإعلامي "الانتقائي" من المخاطر المهددة للطفولة وللنسيج المجتمعي، فإن هذه القضية قد أظهرت قدرة طرف معين على توجيه السجال العام وفق أجنداته السياسية والأيديولوجية، كما أظهرت غلبة رد الفعل "البافلولي" على الطرف المستهدف وعجزه عن تجاوز منطق التضامن "العضوي" القائم على أساس التشكيك الممنهج في كل ما يصدر من "العدو" من جهة أولى، والقائم من جهة ثانية على التماهي الاعتباطي وغير العقلاني مع من يعتبرهم "إخوة" وإن بغوا عليه. ولذلك كله، لم نجد في الأغلب الأعم من السجالات أية محاولة جادة لوضع الأزمة في سياقها، دون تعميمها لشيطنة المدارس القرآنية ولضرب خصم سياسي معلوم، أو دون تتفيهها وإنكار خطورتها خوفا من أن تتحول القضية إلى مناسبة لاستعادة منطق "تجفيف منابع التدين" وتهديد الحريات الدينية.

ولمّا كنا نؤمن أن الحق ضائع بين "محبّ غالٍ ومبغض قالٍ"، فإن علينا أن نتعاطى مع قضية الرقاب بأكبر ما يمكن من الموضوعية والتجرد. ولا شك في أن ذلك محوج إلى مقاربة القضية من منظور شمولي ينطلق من الجزئيات، ولكنه لا يقف عندها رغم أهميتها وخطورتها. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن منع الأطفال من التمدرس جريمة، ولكن لا أحد أيضا يستطيع أن يختزل الأزمة في 41 طفلا من مجموع ما يقارب المئة ألف من التلاميذ الذين انقطعوا عن الدراسة (سنة 2016)، كما لا يستطيع أحد أن ينكر دور الدولة التي تفرض "صوريا" إجبارية التعليم إلى سنّ 16 سنة، ولكننا نتساءل عن وجودها ذاته عندما نقرأ أن 80 في المئة من المنقطعين عن الدراسة تتراوح أعمارهم بين 12 و16 سنة.

 

لا أحد يستطيع أن ينكر أن منع الأطفال من التمدرس جريمة، ولكن لا أحد أيضا يستطيع أن يختزل الأزمة في 41 طفلا من مجموع ما يقارب المئة ألف من التلاميذ الذين انقطعوا عن الدراسة

وتزداد مسؤولية الدولة بسياساتها التنموية المكرسة للتفاوت الجهوي والطبقي؛ حين نعلم أنّ "أكثر من 46 في المئة من المنقطعين هجروا المدارس في المرحلة الابتدائية، وقرابة 28 في المئة منهم قد غادروها لأسباب مادية"، وحين نعلم من خلال دراسة مسحية أجرتها منظمة التربية والأسرة أنّ نسبة الانقطاع تشهد أعلى مستوياتها في مناطق الظل/ الذل المهمشة منذ تأسيس ما يسمى بالدولة الوطنية. ففي سنة 2015 سجلت ولاية القصرين أعلى نسبة من المنقطعين عن الدراسة فى المستوى الابتدائي، بما يقارب 36.4 في المئة، وتصدرت ولاية قبلّي نسب المنقطعين عن الدراسة فى المرحلة الثانوية بـ66.7 في المئة. ولا تخفى الكلفة المادية لهذه الظاهرة، إذ تفيد الدراسة نفسها أنّ "الكلفة السنوية للانقطاع المدرسى حسب هذه الدراسة إلى 345 مليون دينار، أي ما يعادل 13 في المئة من ميزانية وزارة التربية، موزعة على كلفة رسوب 137 مليون دينار وكلفة انقطاع 207 ملايين دينار".

وإذا كانت مدرسة الرقاب تدعونا إلى تكثيف الرقابة على المدارس الدينية خوفا من التطرف الذي قد يتشرّبه بعض مرتاديها، أو خوفا من الانتهاكات الجسدية التي قد تطال الأطفال، فإن ذلك كله يجب أن لا يجعلنا نغفل عن واقع الشباب في تونس من الناحية "القيمية" أو من ناحية المخاطر التي تواجه التلاميذ، بل المجتمع كله نتيجة تفشي العديد من مظاهر الانحراف. فقد ذكرت جريدة الصباح التونسية بتاريخ 6 أيار/ مايو 2015 أن نسبة استهلاك المخدرات قد ارتفعت بعد الثورة بنسبة 70 في المئة، وهو واقع تزداد خطورته حين نعلم أن 60 في المئة من المدنين هم بين 13 و18 سنة، وأن 40 في المئة من تلميذات المرحلة الثانوية يستهلكن الكحول والمخدرات، وترتفع النسبة في الجامعة لتبلغ 40 في المئة، مقابل 60 في المئة عند الطلبة الذكور. وفي سنة 2014 أحيل 12 ألف تونسي بتهمة استهلاك مادة مخدرة (الزطلة)، ولا شك أن منهم نسبة كبيرة من التلاميذ والطلبة والمنقطعين عن الدراسة. ولا شك أيضا في أن مبادرة رئيس الجمهورية للتخفيف من البعد العقابي (بدعوى أولوية الوقاية والعلاج) تطرح العديد من الاستفهامات في مجتمع يراد له أن يغادر المرجعية الدينية (منطق الحلال والحرام)، دون أن تساعده دولته ولا نخبه في التأسيس العقلاني للفعل، انطلاقا من ثنائية القانوني وغير القانوني.

أما فيما يخص الانتهاكات التي تهدد الأطفال، فإن الأرقام تثبت أن القضية أخطر من أن تُختزل في حادثة مفردة مهما كان حجم ضحاياها. فوفق مقال صدر في جريدة الشروق (المحسوبة على التيار الحداثي)، وقعت سنة 2014، 289 حالة استغلال جنسي، "قُسّمت الى حالات تحرش جنسي (في 52 في المئة من الحالات) وممارسة الجنس (في 35 في المئة من الحالات)، فيما ناهز زنا المحارم 10 حالات، والاستغلال الجنسي عبر وسائل الاتصال 11 حالة، والبقية حالات اخرى متنوعة"، كما سُجّل 330 إشعارا بالاعتداءات الجنسية بين 2013 و2014، دون احتساب الحالات غير المعلنة. وفي سنة 2014، سُجّل 6096 إشعارا بخصوص 5967 طفلا مهددا بمخاطر متعددة، وقد تم التعهد بـ4615 ملفا". ولعل ما يزيد في خطورة هذه الأرقام هو طابعها التصاعدي. فقد ذكر المندوب العام للطفولة أن عدد الأطفال الذين كانوا عرضة للاستغلال الاقتصادي والتسول بلغ 308 أطفالا سنة 2017، بينما بلغ عدد الأطفال الذين تعرضوا للاستغلال الجنسي في السنة نفسها (ذكورا وإناثا) 1087 طفلا.

 

القضية أعمق من المدرسة القرآنية وأعمق من الأطروحات السطحية المهيمنة على السجال العام.. إننا أمام "أزمة مجتمعية" يجب أن تُحلّ بصورة حوارية ومسؤولة: أزمة قيمية وتشريعية وتربوية

أينما توجهنا، فإننا سنجد أنفسنا أمام أرقام مفزعة، وهي أرقام كان من المفروض أن تحمل الجميع على تحمل مسؤولياتهم بعيدا عن المزايدات ومحاولات التسييس، وبعيدا عن تصفية الحسابات الأيديولوجية على أجساد وأرواح الطفولة المهددة في أكثر من موضع وبأكثر من صورة. فالقضية أعمق من المدرسة القرآنية وأعمق من الأطروحات السطحية المهيمنة على السجال العام.. إننا أمام "أزمة مجتمعية" يجب أن تُحلّ بصورة حوارية ومسؤولة: أزمة قيمية وتشريعية وتربوية يعكسها غياب مرجعية واضحة ومشتركة للقيم الفردية والجماعية، أزمة منوال تنموي فاشل يراد له أن يتأبد لحماية أقلية مهيمنة، أزمة مشترك وطني يكاد ينحصر في الدستور، أزمة استعلاء حداثي يتجلى في الدعوات التحريضية على استعادة منطق تجفيف المنابع والتضييق على المتدينين، أزمة عقل ديني ما زال يتوجس خيفة من الدولة ومن النخب العلمانية وما زال محكوما إما بمتلازمة استوكهولم أو باستعلاء إيماني كاذب، أزمة انفصام فكري وسلوكي يتجسد في ازدواجية المعايير عند الجميع.. الخ.

ختاما، فإن تسييس قضية المدرسة القرآنية بالرقاب وتكثيف الانقسام حولها (في سياق يصمت الإعلام فيه عن حجم التهرب الضريبي الذي قدّره مستشار رئيس الحكومة المكلف بالملف الاقتصادي بـ25 مليار دينار تونسي)، هو أكبر عدو للأطفال وللقرآن وللإسلام وللحداثة، أي هو أكبر عدو للقيم التي يتمترس خلفها العلمانيون والإسلاميون على حد سواء. ومن المؤكد أن تأبيد الصراع الهووي والعجز عن الوصول إلى تفاهمات مبدئية حول "دور الدين في الفضاء العمومي" (بالمعنى الهابرماسي القائم على الحوار العقلاني حول أهمية الدين وقيمه في التأسيس "للمشترك" المواطني)، سيزيد من تعميق الأزمة المجتمعية، ولن يستفيد منه واقعيا إلا المهيمنون على الثروة والسلطة أو الراغبون في جر البلاد إلى مربع الاحتراب الأهلي. ولذلك، فإننا ندعو إلى التعامل مع قضية المدرسة القرآنية بالرقاب دون تهويل ولا تهوين، أي دون اتخاذها وليجة للعودة إلى مربع الاستبداد أو ضرب مسار الانتقال الديمقراطي، ودون اتخاذها تعلّة لتحشيد القاعدة الانتخابية على أساس الخطر الذي يهدد "الإسلام". فلا منفعة للبلاد كلها بتعميم الأحكام السلبية على المدارس القرآنية ومحاولة شيطنتها (كما يفعل الكثير من أدعياء الحداثة الذين لم يتدبروا جيدا النتائج الكارثية لسياسة تجفيف منابع التدين ومحاربة مظاهره)، ولا منفعة لها أيضا بالاستهانة بهذه القضية أو الدفاع عن المؤسسات والخطابات والممارسات الدينية المهددة للتعايش السلمي بين المواطنين؛ بدعوى مواجهة التطرف العلماني والدفاع عن "الإسلام".

التعليقات (3)
محمد علي الباصومي
السبت، 09-02-2019 10:12 ص
يلبس الحداثي (نموذجه المحلي الغالب) نظارات عجيبة سحرية، تضخّم كل ما هو مرتبط في الدين في المشهد العام، وتصبغه بلون رمادي قاتم، وتذرّ عليه بعض رطوبة الأزمان الغابرة.. مقابله، يلبس الإسلامي (نسخته النموذجية) نظارات عجيبة تضخم أيضا كل ما يتعلّق بالدّين، وتصبغه بهالة من البياض المشعّ، وتذرّ عليه ما شاءت من أصناف الطيب.. ولا يكاد كلّ من الحداثي والإسلامي نزع نظارة يرتدي طوعا (انسجاما مع عقائده وانتصارا لها) وكرها (لاحتياجه إليها في سياق التدافع الذي لا يهدأ مع الطرف المقابل).. وهذا المقال خويا عادل - ومقالاتك عموما - صادرة عمّ نجح في رؤية المشهد على طبيعته وشموله، ما يفتح المجال أمام تحليل أقرب إلى الواقع، وأقدر على التفاعل معه بطريقة مباشرة ومثمرة، على الرغم من صعوبة استيعاب تعقيدات مختلف مشاهد وعناصر الواقع.. وبالنسبة للقضية موضوع المقال، فهي كما ذكرت تحيل إلى البحث في عناصر متعددة ومتشابكة مرتبطة بها، سياسية بالأساس، ولكن أيضا اقتصادية واجتماعية ومعرفية.. وسوف أكتفي هنا بملاحظة بخصوص المجال الأخير.. إن الحداثي النموذجي التونسي يرى بنظارته العجيبة القرآن أداة متعدّدة الوظائف، وعموما وسيلة للتبرك والزينة في الأعياد والبروتوكولات الرسمية... على أنه يعتقد أن أي استعمال لمحتواه في الحاضر خطير، لأنه على أدنى تقدير غير مناسب له، وفي الحد الأقصى هو خطير بما سوف يزرعه في الإنسان من الجنوح نحو الكبت والعنف والعزلة عن محيطه الإجتماعي والحضاري.. خلافا له، يرى الإسلامي النموذجي بنظاراته العجيبة في القرآن كيانا مقدسا، مولّدا لدى أتباعه الطابع والهوية والفخر والأجر.. مضمونه له خصوصية وقويّ تستلزم منهم تفويض الغير القراءة عنهم وبيان مراده (ما قيل إنها أقوال النّبي، وأقوال التابعين والأئمّة الأعلام...) كما يراه وأيضا الزينة والبركة واليُمن وفن التلاوة (ملتقيا في هذه النقاط مع الحداثي) على أنه لا الحداثي ولا الإسلامي بحثوا عن الغاية من القرآن من القرآن ذاته (وهي الغاية التي يفترض أن تعبّر عن المراد من كتابته وإنزاله)، ولا تعاملوا معه بطريقة مباشرة، بطريقة جعلت القرآن الكريم يقبل من الجميع أن يكون مهيمنا عليه من العقل السلفي، هيمنة هي التي تمكن الحداثي من اللون الأسود الذي يصبغ به الدين عموما، والتي جعلت حرجا على الإسلامي الذي كان كل عمله الفكري تقريبا محاولة الموائمة بين الدين والحداثة، باعتماد أداة التأويل... مشكلتنا مع القرآن الكريم هي مشكلة أننا اخترنا علاقتنا مع هذه المعرفة (rapport au savoir) كما ورثناها وكما نحبها، بروتوكولية وعقيمة أو مهيمَنٌ عليها.. لا كما ينبغي لها أن تكون... ويبقى القرآن الكريم شامخا بفلسفته ونظمه ومقارباته وموازينه وحكمته وحقّانيته، ظاهرا على غيره رافضا سجنه ومحاصرته، مشعا بنوره، حبلا متينا معلقا من السماء إلى الأرض..
هدى بن صوف
السبت، 09-02-2019 03:08 ص
تصور منطقي الى ابعد الحدود وأجده الأقدر على تفسير الواقع وتعامل الإعلام معه
عبدالعزيز المدفعي
الجمعة، 08-02-2019 09:34 م
نص عميق في تفصيل الموضوع ، فقط وددت لو تنبه الباحث السيد عادل بن عبد الله إلى نقاط أهمها : - ان النص ليس موجها الى التونسيين فقط ، فكان لزاما وضع تقديم ولو مقتضب لتعريف الحادثة ( حادثة الرقاب) - في تونس ظاهرة ما يعرف بالمعينات المنزلية ، وكلهن تقرببا يؤتى بهن إلى بيوتات الاغنياء وصغار الارستقراطيين من الجهات التي سماها الكاتب : جهات الظل/ الذل .